جباية الزكاة بين ولاية الدولة وبعض التصرفات غير المسؤولة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

فهذه مقالة أقدمها بين يديكم أيها الأحبة، أخطها من واقع خوضي غمار العمل على الزكاة في إحدى مؤسسات الدولة - هيئة صندوق الزكاة -، مع ما استفدته من أطروحة الماجستير في جامعة الشارقة والتي هي بعنوان (العاملون على الزكاة دراسة فقهية مقارنة مع نظام المؤسسات الحديثة للزكاة).

أوضح من خلال المقالة منزلة القيام بحق الزكاة، وأنها مسؤولية أصيلة لولي الأمر - الدولة -، وموضحا من خلالها خطورة بعض التصرفات غير المسؤولة التي تجرأت وافتأتت على ولي الأمر في مسؤوليته، وتعدت عليه بجمعها لأموال الزكاة وتوزيعها دون إذنه.

 

القيام بحق الزكاة مسؤولية ولي الأمر - الدولة -

 

لقد فرض الله تعالى على أغنياء المسلمين في أموالهم حقاً هو الزكاة، يُصرف على فقرائهم. وقد أوكل سبحانه وتعالى مسؤولية أخذها وجمعها لولي الأمر، قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها..)[الآية 103 من سورة التوبة].
واستناداً إلى هذه الآية قرر الفقهاء أن القيام بحق الزكاة أمانة على عاتق ولي الأمر، قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ولا يسع الولاة تركَه لأهل الأموال؛ لأنهم أمناء على أخذه لأهله منهم"[الأم 3/204].
فلا يسع ولاة أمر المسلمين ترك القيام بهذه المسؤولية؛ كما أنه لا يسع أغنياء المسلمين حبس ذلك الحق عن ولاة الأمر أو نوابهم ليصرفوه على مستحقيها من الفقراء وغيرهم. وقد أكد هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "ليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لا يستحقونه..، -إلى أن قال:- ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه إليه من الحقوق، وإن كان ظالماً، كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، لمّا ذَكَر جور الولاة، فقال: (أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عمّا استرعاهم)[البخاري 3455، مسلم 4750]"(السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية 90).
وقد ترد هنا شبهة من بعض المضللين بأن هذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يشمل من جاء بعده من ولاة الأمر! وقد رد على هذه الشبهة الإمام الفقيه المفسّر أبو بكر ابن العربي رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة..) حيث قال: "أما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره؛ فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين"[جامع الأحكام لابن العربي، في تفسير الآية].
فتبين معنا أيها الأحبة أن جباية الزكاة هي من مسؤولية ولي الأمر - الدولة -، لا يجوز التعدي على هذه المسؤولية متى ما قام ولي الأمر بها.

 

وربما يتساءل أحدنا؛ ما فائدة تعلق هذه المسؤولية بولي الأمر -الدولة- ولم تُترك لذمم الناس!؟
فيقال: إن من فوائد وحِكَم هذا التشريع العظيم هو ضبط تلك الأموال والتأكد من صرفها في وجوهها المقررة شرعاً، وقطع دابر من تسول له نفسه الخبيثة الأمّارة بالسوء مع وساوس الشيطان بالإفساد في الأرض باستغلال هذا المورد العظيم من موارد الدولة والذي قد يُغفل عنه نظرا لطبيعة هذا المورد - وهو الزكاة -؛ حيث إن الزكاة لها شروط واعتبارات قد تجب وقد لا تجب، ناهيكم عن كون الأموال قد تكون ظاهرة للعيان، وقد تكون خفية باطنة لا يمكن للدولة أن تنتبه إليها.

 

وعلى هذه المسألة بنى أكثر الفقهاء مسألة وجوب دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى الإمام أو من ينيبه؛ معللين ذلك بأمور أهمها:

1- ولي الأمر أو من ينيبه مؤتمن عليها وأعلم بمصارفها بخلاف ما عليه أصحاب الأموال فإنهم لا يعلمون أحكام الزكاة ومصارفها غالباً، والواقع يشهد بذلك، فقد تأسست الهيئات المعنية ووُضعت لها قوانين ونظم ولاوئح تضبط شؤونها، وشُكّلت فيها مجالس ولجان تشرف عليها؛ وكل ذلك لضمان القيام بحق الزكاة على أكمل وجه ممكن.

2- دفع الزكاة إلى ولي الأمر يبرئ ذمة صاحب المال ظاهراً وباطناً، بمعنى أنه يَسقط عنه الفرض ويثبت له الأجر بمجرد الدفع لولي الأمر أو لنائبه، قال الإمام الماوردي رحمه الله: "فإن دَفْعَ الزكاة إلى الوالي أو من ينوبه يُبْرِئ ذمة رب المال مباشرة"[الحاوي الكبير 3/184]، وأما توزيع صاحب المال زكاته مباشرة إلى من يظنه فقيرا أو إلى وسيط غير مرخص من ولي الأمر فإنه لا يمكن الجزم بثبوت الأجر؛ لاحتمال أن تذهب الزكاة لغير مستحق لها.

 

من يحق له العمل على الزكاة؟

 

بعد استقراء ما لا يقل عن عشرين مرجعًا من كتب أهل العلم المتقدمين – فقهاء ومفسرين – ودراسة أقوالهم، مع الرجوع إلى عدد من البحوث المعاصرة والندوات الفقهية فقد تبين أن العامل على الزكاة هو: (من استعمله ولي الأمر، أو من في حكمه، للقيام بأمور الزكاة، ممن لا غنى عنه فيها).
والمقصود من التعريف: تأكيد أن العامل لا يكون عاملاً على الزكاة إلا إذا كان مأذوناً له من ولي الأمر أو نائبه، وبمعنى آخر: يكون من طرف الدولة ومؤسساتها المرخصة لذلك.

ويؤكد هذا المعنى صراحةً الإمام ابن حزم رحمه الله عندما نقل الإجماع بقوله: "وقد اتفقت الأمة على أنه ليس كل من قال: (أنا عامل) عاملاً..، فكل من عمل من غير أن يوليه الإمام الواجبة طاعته فليس من العاملين عليها"[المحلى، 6/149].

 

وهذه مسألة غاية في الأهمية؛ والفائدة من الإشارة إليها أن إبراء ذمة صاحب المال ظاهرا وباطنا -كما تقدم- لا يكون إلى بأداء الزكاة للعامل المعيّن من ولي الأمر، وهو الذي يحق له الأخذ من الزكاة مقابل عمله. وفي المقابل؛ لا يُجزم بثبوت الأجر لمن تجاوز ولي الأمر، كما أنه من افتأت على ولي الأمر وتصرف من نفسه تطفلا بجمع الزكاة من أصحابها فإنه لا يعد عاملاً على الزكاة ولا يحق له الأخذ من مصرف العاملين عليها.

 

وتجدر الإشارة هنا أيضًا إلى بعض التصرفات غير المسؤولة من بعض المنادين بالإصلاح – زعموا - وهم بعيدون كل البعد عنه؛ بحيث يتجرأ الواحد منهم ويفتئت على ولي الأمر في مسؤوليته هذه؛ ويتسلط على أموال الناس باسم الدين وباسم الإصلاح، مع ما قد يصاحب ذلك من الترويج الكاذب والدعاوى المضللة، ولا تدري هل يصدق فيها؛ أم أنها ستذهب لتغذية تحزبات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تسأل بعد ذلك عن العواقب وما تجُره من ويلات على الدولة وبخس حق مستحقي هذه الزكاة. 

 

وبهذه المناسبة أوصي أصحاب الأموال بأن لا يتهاونوا في أمر زكاتهم، فليبذلوها مع حرصهم أن تُوجه لمؤسسات الدولة النائبة عن ولي الأمر، فإن ولي الأمر لم يقصر فيما أُوكل إليه شرعاً؛ فتراه قد أسس الهيئات وأوكل إليها مهمة جمع الزكاة وصرفها وفق مصارفها الشرعية.

وأُحذّر إخواني – أصحاب الأموال – من التصرفات غير المسؤولة التي تفتقد الصفة الشرعية لها في العمل على الزكاة، فإنه مع ما نعانيه اليوم من وجود التحزبات القائمة على أفكار وآراء شاذة بل ومنحرفة عن الصراط السوي؛ فإن هؤلاء المنتسبين إليها ولو كان ظاهرهم التدين والصلاح فإن توليهم العمل على الزكاة مخالف للشرع الحكيم.

 

والله أسأله سبحانه أن يوفق أصحاب الأموال لإخراج زكاة أموالهم، ويبصرهم بالطريق الصحيح لصرفها وأن يتقبلها منهم، وأن يهدي إخواننا ممن أساء الفهم وافتات على ولي الأمر بتجرؤه على الزكاة فيترك عنه تلك المخالفة الشرعية الصريحة ويتقي الله عز وجل في أموال المسلمين.

 

والله من وراء القصد

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 

محبكم
عبد الرحمن سلمان الحمادي
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين