وقفات مع قصيدة الموصلي المزعومة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد:

فقد انتشرت قصيدة منسوبة إلى ابن يوسف الموصلي المسعودي تحكي حالًا يكون في مستقبل الأيام، نشرها جمع من الناس على أنها قصيدة تنبأ صاحبها فيها بما يكون في الشام والعراق، وقد سألني أحد الفضلاء عنها، وبعد النظر والتأمل تبين أنها قصيدة مكذوبة في النسبة والتأريخ.

وقبل بيان بطلان صحة القصيدة وبطلان وجودها في القرن الثامن كما هو مزبر في رأسها ومقدمتها.

لابد من بيان أن علم الغيب وما يكون في مستقبل الأيام لا يؤخذ من الشعراء والأدباء والمفكرين بل هو مما استأثر الله بعمله.

فمن أول أوصاف المؤمنين ما جاء في قوله تعالى: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" [البقرة : 3]، وإذا كان الأنبياء والرسل وهم من اصطفاهم الله تعالى من بين العباد لا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله تعالى عليه، فمن باب أولى غيرهم من الصالحين فضلا عن غيرهم.

قال العلامة ابن باز رحمه الله: "الغيب لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه الرسل ولا غيرهم، الغيب لا يعلمه إلا الله، وإنما يعلم الرسول ما أوحي إليه، قال تعالى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل : 65]، وقال: (فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : 26 ، 27]، فقد يخبرهم بعض المغيبات، كما أخبر الله نبينا عن أشراط الساعة وعن بعض أمور الجنة والنار، إلى غير ذلك، فالغيب لا يعلمه إلا الله، لكنه سبحانه يطلع بعض أنبيائه ورسله على بعض الغيب".

وعلى هذا فما جاء في هذه الأبيات مما يخبر عن أمور غيبيه لا يجوز تصديقه ونشره.

ولعل قائلا  يقول: قد ذكرت فيها أمورا واقعة كما هو حاصل في الشام والعراق، فيقال: هذا من زيادة التعمية والكذب، حتى يصدقالناس أن هذه القصيدة أبانت شيئا من واقع الناس منذ ما يقارب سبعة قرون!!

وأما بيان كذبها فيتضح فيما يلي:

 

أولًا: لم أجد خلال بحثي في طبقات الشعراء والأدباء في القرن الثامن من يقال له "ابن يوسف الموصلي المسعودي" فهو اسم لا وجود له في الواقع.

 

ثانيـًا: هناك أمور ذكرت مخالفة للشرع، فمن ذلك:

قوله: وكسرى من الشرق يأتي لكم ....... وقد كاد كيدا شديد الغضب

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني .

 

تحديد أمور غيبية وذكرها بالوصف والعدد كقوله:

تعيشونَ دهراً ترونَٓ الرِّيَبْ ...  ولا يدفعُ المرءُ هَولَ الخُطَبْ

ويستَعمِرُ الشآمَ سفَّاحُها   ... ويجني رؤوسَ الورى كالعنبْ

ويبقى بها خمسةٌ كاملة  ... سنينا طوالا يجُزُّ العربْ

فما هذا إلا ادعاء لعلم الغيب، واقتفاء لما ليس للشاعر ولا لغيره علم به.

 

ثالثـًا: مما يدل على وضعها أن بها عبارات لا تعرفها العرب الأقحاح نحو:

الشنب، كما في قوله "ويحلقُ كلُّ الذكور الشَّنَبْ".

فإن المراد به عند الشاعر "الشارب" وهذا غير معروف في اللغة، فالشنب في اللغة حدة في الأسنان، قال الجوهري: "الشَنَبُ: حِدَّةٌ في الأسنان، ويقال بَرْدٌ وعُذوبَةٌ. وامرأةٌ شَنْباءُ، بَيِّنَةُ الشَنَبِ. قال الجَرْميّ: سمِعت الأصمعيَّ يقول: الشَنَبُ: بَرْدُ الفمِ والأسنانِ" الصحاح في اللغة  (1/370).

جاء في كتاب "العامي الفضيح"، من اصدارات مجمع فقه اللغة: "استعار المحدثون الشَّنَب للشّارب واستعملوه فيه حتى تناسَوُا الأصل".

وهذا مع ركاكة اﻷسلوب في القصيدة والأخطاء النحوية بما يمجه كل متذوق للشعر.

 

رابعـًا: يلوح من وضع القصيدة وعباراتها مقاصد سيئة، من ذلك:

ـ إضعاف النفوس عن قتال الخوارج وذلك بالتسليم أن ذلك واقع لا محالة، كما في قوله:

 وآهٍ على موصلي والعراق... يجيءُ ظلامٌ شديدُ الرَّهَبْ

ويفترقُ الناسُ فيهِ افتراق... كموجٍ تلاطمَ ثُمَّ اضطربْ

ويخرجُ "عائشُ" من بينهم... ليقلبهم وهْوَ فيها انقلبْ

ويقتلُ منهم مِئاتُ المِئات... وضيعا حقيرا رفيعَ النسبْ

ويسطو على كعبةِ الله في... ثلاثٍ ، ويملؤها بالذهبْ

ويسلبُ من حجَّ فيها وطاف ... ويحرقُ فيها صحيحَ الكُتبْ.

فما مآل من يسمع هذه الأبيات ويصدقها سوى الخنوع لهذا الواقع، وتصديق هذه التنبؤات.

 

ـ ذكر عائش في قوله:

ويخرجُ "عائشُ" من بينهم... ليقلبهم وهْوَ فيها انقلبْ".

فلو أن الشاعر ذكر داعش لضحك منه الأطفال، ولكنه ذكر عائش ليربط بعضهم هذا الاسم  بما قاربه وهو داعش !!

 

ـ في القصيدة تنقص من العرب في قوله:

"فلله نبرأُ من وقتكم... ولله نبرأُ منكم عربْ"

ولعل القائل لهذه الأبيات شعوبي أعجمي ضاق ذرعا بالعربية والعرب، حتى وجد متنفسا هنا ليذمهم، فإن كان ذمهم على وجه ذلك فبئس قوله الذي أوصله إلى البراءة منهم؛ كما تبرأ الشعر والتاريخ من قصيدته.

 

ـ خشى أن يكون قائلها شيعيًا رافضيًا، يظهر ذلك فيما وضعه من أبيات تفرح الرافضة من الإساءة إلى بيت الله الحرام كما في قوله :

"ويسطو على كعبةِ الله في ... ثلاثٍ، ويملؤها بالذهبْ"

 

ـ وكذا ذكره لأصح الكتب وأنها ستحرق، وهي الكتب التي ضاق منها الرافضة كالصحيحين، حيث قال:

ويسلبُ من حجَّ فيها وطاف ... ويحرقُ فيها صحيحَ الكُتبْ.

 

وفيما سبق ـ إن شاء الله من وقفات سريعة ـ كفاية في بيان عدم صحة كون هذه القصيدة من القرن الثامن، وإنما هي قصيدة محدثة وضعها من وضعها ليمرر أمورًا ويحقق أهدافا معينة.

 

ونصيحة أخيرة:

لا تكن مقلدًا في النقل، تتلقف ما ينقل لك بالتسليم، لاسيما فيما يظهر منه النكارة وأن مصدره غير موثوق، بل الواجب النظر والبحث والتوثيق.

وفق الله الجميع لما فيه رضاه.

كتبه : محمد بن غالب العمري
17 / 10 / 1435هـ