الحنيفية السمحة, بلا تشدد ولا جفاء


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الإسلام دين السماحة، والرحمة، والسهولة، واليسر في جميع تشريعاته العقديّة التعبديّة الأخلاقـية، وتأمل قول الرحيم الرحمن تجد مصداق ذلك بيّنًا حيث يقول: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}([1]).

فقاعدة اليسر والسماحة في دين الإسلام من القواعد المهمة؛ لذلك قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الذي بعث بالحنيفية السمحة :”إن الدين يسر، ولن يَشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه، فسَدِّدوا وقاربوا ([2]).

فـــما أعظم هذا الكلمة، وأجمعها للخير؛ فقد احتوت على وصايا نافعة، وأصول جامعة، فقد أسّس صلى الله عليه وسلم في أولها هذا الأصل الكبير فقال :(إن الدّين يسر) أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتروكه، فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره: وهي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتوصل مقتديها إلى أجلّ غاية وأفضل مطلوب، وهي العقائد الصحيحة البسيطة التي تتقبلها العقول السليمة والفطر المستقيمة، وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة، وبفواتها يفوت الصلاح كله، وهي كلها ميسرة مسهلة، كل مكلّف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه، ولا تكلفه، فالصلاة خمس في اليوم، والزكاة جزء قليل كل حول، والصوم في السنة مرة، والحج في العمر مرة.([3])

ثم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن مقابل اليسر في الدّين التشدد الذي يفضي إلى الانقطاع فقال:” ولن يَشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه

وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسل- من التشدد فقال -صلى الله عليه وسلم-:”إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين([4]).

بل وأوصى معاذاً وأبا موسى رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن فقال-صلى الله عليه وسلم-:”يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا([5]).

بل ولم يكتف بذلك حتى قال -صلى الله عليه وسلم- في مجمع الحج للصحابة رضي الله عنهم:”يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين([6]).

ما أجملها من كلمات غابت عن بعض المنتسبين للدين الإسلامي، حتى كانوا على صنفين من حيث التشدد:

الأول: متشدد في العبادة، يزيد فيها ما لم يشرعه الله ورسوله.

الثاني: متشدد على نفسه، في نفس العبادة المشروعة، حتى كلّف نفسه ما لا تطيق، فكَلَّ وانقطع.

ودين الإسلام دين تمسك وتوسط؛ ولذا بين -صلى الله عليه وسلم- الطريقة المثلى فقال بعد أن حذر من التشدد:” فسَدِّدوا وقاربوا “ فالسداد: لزوم التوسط في الأعمال، والمقاربة: الاقتراب من فعل الأكمل إن لم تسطيعوه.

 فلا تشدّد في دين الإسلام؛ بل مبناه على الحنيفية السمحة فهو حنيف أي: مائل عن الباطل مستقيم على الحق متمسك به، وسمح: أي سهل مبناه على السهولة، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ}([7]).

ولا ننسى تلك القصة التي حفظها المسلمون منذ نعومة أظفارهم وهي لما جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالّوها.

 فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً.

وقال: آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر.

وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني([8]).

فالتشدد في الدين مذموم، ولكن لا يفهم من ذمّ التشدد أن الشرع يسوغ التساهل في دين الله بالوقوع في المحرمات، كما أنه لا يفهم من التمسك بفعل الواجبات والمستحبات تشدّد في الدين.

 قال العلامة السندي -رحمه الله-:”وليس المراد منه-أي ذم التشدد-المنع من طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة؛ بل المنع من الإفراط المؤدّي إلى الملال والمبالغة”.

فالتشدد في دين الله مرفوض مذموم فاعله، كما أن التمسك بدين الله مطلوب محمود فاعله، فلا يُخلط بين التشدد والتمسك حتى لا يُختلط بين المتنطع والمتبع وشتان بينهما.

شَّتان بين الحالتَيْنِ فَإِنْ تُرِدْ … جَمْعًا فما الضِّدَّانِ يَجْتَمعَانِ.

فعلى المسلم أن يسلك الوسطية الإسلامية مجانبًا طريقة المتشددين تاركاً طريقة المتساهلين، لا من المفرطين ولا من الجافين، رفيقًا سمحًا معتدلًا على وفق الشريعة، فإن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه.

فَلا تُفَرِّطْ ولا تُفْرِطْ وكُنْ وَسَطًا …. وَمِثْلَ مَا أمَرَ الرَّحْمَنُ فاسْتَقِمِ

_______________________________

 ([1]) البقر:185

 ([2])رواه البخاري(39).

([3]) ينظر: بهجة قلوب الأبرار للسعدي(101).

 ([4])رواه البخاري(220).

 ([5])رواه البخاري (3038)، ومسلم(1733).

 ([6])رواه ابن ماجه (3028)، وصححه الألباني.

 ([7]) الحج:78

 ([8])رواه البخاري (5063)