أصول «داعش» الفكرية وتفنيدها


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

إن التصدي للأفكار المتطرفة بالحجج النيِّرة أمر لازم، فالفكر السقيم يقارع بالفكر السليم، ولذلك أحببت أن أشارك في هذا الباب ببيان بعض أصول داعش الفكرية، مع تفنيدها بالبراهين القرآنية والنبوية، وذلك كالآتي:

أولاً: تهافت داعش على السلطة، والسعي إليها بالحديد والنار، واعتبار ذلك من أركان الدين.

وهذا منهج مغلوط مصادم لتعاليم الدين الحنيف، الذي جعل الغاية الأسمى هي إفراد الله بالعبادة، وتحقيق تقواه، والسعي بين الناس بالإحسان، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال سبحانه: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}، وقال جل شأنه: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.

ثانياً: جرأة داعش في تكفير المسلمين، والحكم عليهم بالردة، تارة بدعوى أنهم أخلّوا بباب الحكم بما أنزل الله، وتارة بدعوى الإخلال بالولاء والبراء، وتارة بدعوى تعطيل الجهاد.

وأقول جواباً على ذلك: لقد شدد العلماء في تكفير المعيَّن، وذكروا أن من تجاسر على ذلك استحق التأديب والتعزير من قبل الحاكم بما يكون رادعاً لأمثاله، وحذرت نصوص الشرع من ذلك أشد التحذير، قال تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا}، وقال النبي عليه السلام: «من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله».

ومن يتأمل سيرة الصحابة رضي الله عنهم يجد أنهم من أشد الناس ورعاً عن الخوض في التكفير، فهذا جابر بن عبد الله يُسأل: أكنتم تقولون لأحد من أهل القبلة كافر؟ فقال: لا، قيل: فمشرك؟ قال: معاذ الله، وفزع، بخلاف الخوارج الذين تجاسروا على التكفير ، حتى كفَّروا خيار الناس ، واستباحوا قتالهم ، فقد قيل لابن عمر: إن نجدة (أحد الخوارج) يقول: إنك كافر، فقال: كذب والله ما كفرت منذ أسلمت، وجاء رجل إلى ابن عمر يقول: إن ها هنا قوماً يشهدون عليَّ بالكفر، فقال: ألا تقول لا إله إلا الله فتكذِّبهم.

وأما المبررات التي تستخدمها داعش لتكفير المسلمين فليست سوى ذرائع لغسل أدمغة الأتباع لدفعهم حيث يريدون، ومنشأ الغلط عندهم تارة بجعل ما هو مباح وجائز كفراً أكبر..

فيجعلون سن القوانين التي لا تخالف شرع الله إخلالاً بالحكم بما أنزل الله، وإبرام التحالفات والشراكات الدولية لتحقيق المصالح العامة إخلالاً بالولاء والبراء وتعطيلاً للجهاد، متجاهلين أن الشرع أناط بولي الأمر إدارة السياسات الداخلية والخارجية للدولة بما يحقق المصالح العليا ويحفظ الضروريات الكبرى، وقد سبق هؤلاء إلى انحرافهم الخوارج الأوائل الذين كفَّروا الصحابة بدعوى تعطيل الشرع..

وكان شعارهم: لا حكم إلا لله، وجرى فيهم مقولة عليٍّ: كلمة حق أريد بها باطل، وتارة يجعلون المخالفة في أحد الأبواب المذكورة كفراً أكبر، مخالفين ما أطبق عليه العلماء من أنَّ مَن حكم بغير ما أنزل الله أو تحاكم إليه ظلماً وبغياً أو اتباعاً للهوى مع إقراره بحرمة هذا الفعل أنه لا يكفر بذلك، وإن كانت تلزمه التوبة والإنابة..

وأن الكف عن المسالمين والإحسان إليهم مبدأ إسلامي متين، وليس تعطيلاً للجهاد أو إخلالاً بالولاء والبراء، لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، وقوله: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} الآية.

ثالثاً: تساهل بل وحشية داعش في الدماء وإزهاق الأنفس.

وهذا باب خطير أيضاً مخالف لما قررته الشريعة من تعظيم الدماء، وتحريم سفكها، وأن الأصل في دم الآدمي أنه معصوم مسلماً كان أو غير مسلم، ونصوص الشرع متضافرة على ذلك، قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}..

وقال النبي عليه السلام: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»، بل قال عليه السلام: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه ..وإن كان أخاه لأبيه وأمه»، فهذا وعيد في حق من يشير مجرد إشارة بحديدة، فكيف بمن يقتل ويفجر؟! وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً مر في المسجد ومعه سهام، فأمره النبي عليه السلام أن يمسك بنصالها، كي لا يخدش مسلماً، فإذا كان الشرع احترز عما قد يتسبب في مجرد إحداث خدش، فكيف بسفك الدم وإزهاق الروح؟!

وهكذا أيضاً في التعامل مع غير المسلمين، فقد قال النبي عليه السلام: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة»، وقال: «من أمَّن رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً»..

وهذا نبي الله موسى عليه السلام يعتذر عندما يأتيه الناس يوم القيامة فيقول: إني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، فاعتبر قتل النفس التي لم تكن مؤمنة ذنباً في الدنيا والآخرة، مع أن قتله لها كان خطأ لا عمداً، فماذا تفعل داعش التي لا تراعي حرمة لمسلم ولا لذي عهد إذا سئلت عن ذلك يوم الجزاء.