أنوار السيرة النبوية تبدد ظلام «داعش»


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

إن السيرة النبوية بأنوارها الساطعة وإشراقاتها المضيئة تبدد ظلام كل إرهاب وتطرف، فهي سيرة رحمة وحلم وصفح وتسامح وأخلاق عالية زكية، هي سيرة خاتم رسل الله، حبيبنا وقرة أعيننا محمد عليه السلام، الذي زكَّى رب العالمين أخلاقه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وأخبر عن عظم رحمته وشفقته على الناس فقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}، وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وأخبر عن لينه ورفقه في التعامل مع من حوله فقال: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.

لقد تضمنت سيرة نبينا عليه السلام أرقى صور التسامح والرحمة والمعاملة الجميلة، فعندما كان في مكة صبر أشد الصبر على أذى قريش، وعندما هاجر إلى المدينة أرسى فيها دعائم التعايش السلمي، وبقي اليهود ينعمون فيها بالأمن والسلام لا يُظلم منهم أحد حتى نقضوا العهود والمواثيق، وعندما أراد عليه السلام العمرة هو وأصحابه سنة 6 للهجرة منعه أهل مكة، ثم عرضوا عليه الصلح في الحديبية، فقبل منهم ذلك، وبقي ملتزماً بهذا الصلح إلى أن نقضه أهل مكة، فسار إليهم النبي عليه السلام، وعندما فتح مكة سامح أهلها، وغلَّب جانب العفو العام على المعاقبة، مع ما لاقاه منهم طيلة 20 سنة من صنوف الاعتداء، فقد آذوه أشد الأذى، وأخرجوه من بلده، ونكلوا بأصحابه، واعتدوا على المدينة مراراً، يوم بدر وأحد والخندق، ونقضوا الصلح، ومع هذا صفح عنهم، وكانت لهذه المعاملة الجميلة الأثر البالغ في اعتناقهم للدين الإسلامي الحنيف.

يقول أُبيُّ بن كعب: أصيب يوم أُحد من الأنصار أربعة وستون، وأصيب من المهاجرين ستة وحمزة، فمثَّلوا بقتلاهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً من الدهر لنُربيَنَّ عليهم - أي: لنزيدن على ما قتلوا منا -، فلما كان يوم فتح مكة نادى رجل لا يُعرف: لا قريش بعد اليوم – أي: اقتلوهم كلهم -، فأنزل الله تعالى على نبيه: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}، فقال النبي عليه السلام: «نصبر ولا نعاقب»، وقال آمراً أصحابه: «كفوا عن القوم»، رواه أحمد والترمذي بإسناد حسن.

لقد حرص نبينا عليه السلام على إظهار التسامح الإسلامي، وترسيخ أجمل الصور عن الدين الحنيف في مواقف متعددة، منها أنه عليه السلام لما آوى إلى شجرة ذات يوم، وعلق بها سيفه، تسلل إليه رجل من المشركين، وقام على رأسه الشريف بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله»، فسقط السيف من يده، فأخذه الرسول عليه السلام فقال: «من يمنعك مني؟» قال: كن كخير آخذ، قال: «أتشهد أن لا إله إلا الله»، قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فذهب إلى أصحابه، فقال: قد جئتكم من عند خير الناس، رواه أحمد.

لقد كانت محبة الخير للناس والفرح بهدايتهم أحد أبرز ركائز السيرة النبوية، فهذا غلام يهودي يخدم النبي عليه السلام، فمرض، فعاده النبي عليه السلام، وقعد عند رأسه، فقال له: «أسلم»، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي عليه السلام وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار» رواه البخاري.

وعندما قدم نفر على النبي عليه السلام، فقالوا: يا رسول الله، إنَّ دَوساً عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: «اللهم اهد دوساً وأت بهم» متفق عليه.

كما رسخ النبي عليه السلام في أصحابه تعظيم الدماء، وحرمة سفكها، فها هو أسامة بن زيد لما تمكن من رجل من المشركين كان قتل عدداً من المسلمين، ورفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله، فلما أُخبر النبي عليه السلام بذلك دعاه فسأله: «لم قتلته؟» قال: يا رسول الله، أوجع في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً، وسمى له نفراً، وإني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله، فقال رسول الله عليه السلام: «أقتلته؟» قال: نعم، قال: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» قال: يا رسول الله، استغفر لي، قال: «وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»، رواه مسلم.

ولم يقتصر الوعيد النبوي في حقِّ من سفك دم مسلم فقط، بل جاء الوعيد أيضاً في حقِّ من اعتدى على المعاهدين، فقال النبي عليه السلام: «من قتل معاهَداً لم يرح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً» رواه البخاري.

إن سيرة نبينا عليه السلام حافلة بالمعاني العظيمة الجليلة، التي تدحر كل إرهاب وتطرف، وترسِّخ كل رحمة وتسامح.