محبة النبي ﷺ وعلاماتها


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،،، أما بعد

فإن محبةَ النبيّ ﷺ فرض على هذه الأمة، باتباع سنته، وامتثال أمره، والذبّ عنه، وحماية جنابه ﷺ، ولقد جعل الله تبارك وتعالى محبةَ نبيه  علامة على صدق محبةِ الله تعالى، فقالَ عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31].

وقد جعلَ النبِيُّ  محبتَهُ عنواناً ودليلاً علَى صِدْقِ الإيمانِ باللهِ تعالَى فقَالَ : (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)([1]).

صور من محبة الصحابة لرسول الله 

لقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع المثل في تحقيق هذا المعنى، فكانُوا أشدَّ الناسِ حُبًّا لهُ، وتعظيمًا لقدْرِهِ، وإجلالاً لشخصِهِ، وحِفْظًا لِمَقامِهِ، فها هو عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يقول لرسول الله ﷺ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِى. فَقَالَ النَّبِىُّ : (لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ). فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِىُّ : (الآنَ يَا عُمَرُ)([2]).

وعَنْ ثوبانَ رض الله عنه أنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ  فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنَّكَ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لأَكُونُ فِي الْبَيْتِ، فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ، فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي ومَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لاَ أَرَاكَ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ  حَتَّى نَزَّلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً﴾([3]).

وهذا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ رضي الله عنه أَسَرَتْهُ قُرَيشٌ، فَقَالَ له أَبُو سُفْيَانَ: يَا زَيْدُ أُنْشِدُكَ اللَّهَ، أَتُحِبُّ أَنَّكَ الآنَ فِي أَهْلِكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، مَا أَحَبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا يُشَاكُ فِي مَكَانِهِ بِشَوْكَةٍ تُؤْذِيهِ وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنَ قَوْمٍ قَطُّ أَشَدَّ حُبًّا لِصَاحِبِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ لَهُ ([4]).

قال عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ)([5]).

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ  فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟) قَالَ: حُبَّ اللهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).

قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ : (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).

قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ ([6]).

هؤلاء هم أصحاب رسول الله ﷺ، ومواقفهم في شدة محبته وتعظيمه أكثر من أن تحصى.

حبّ النبي  لأمته:

لقد كان رسول الله  حريصاً على أمته، ما ترك شيئاً من الخير إلا حثّ الأمة عليه، ولا علم شيئاً من الشر إلا حذرهم منه، وكان يدعو لهم ليلا ونهارًا، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رأيت من النبي  طيب النفس، قلت: يا رسول الله! ادع الله لي. قال: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنَبِهَا وَمَا تأخَّرّ مَا أسرَّت وَمَا أَعْلَنَتْ)، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حِجر رسول الله  من الضحك، فقال: (أيسُرُّك دُعَائِي)؟ فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟ فقال: (وَاللَّهِ إنها لدُعوتي لأُمتي في كُلِّ صلاة)([7]).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ  تَلَا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: 36] الْآيَةَ، وَقَولَ عِيسَى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي) وَبَكَى ﷺ.

(فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَاسْأَلْهُ مَا يُبْكِيهِ.

فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ  بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ.

فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوؤكَ)([8]).

علامات محبة النبي 

إنَّ محبَّة رسولِ اللهِ ﷺ لا تتحقق إلا باتباع هديه، وامتثال أمره ونهيه، فهو السبيل الأقوم الذي يبقى به العبد على الصراط المستقيم، وهوَ الزادُ الذِي يَبْلُغ بهِ جناتِ النعيمِ، ومن تمام محبته ﷺ:

أولاً: تصديقه  فيما أخبر.

فلا يكون عند الإنسان تردد فيما أخبر به النبي  فهو الصادق المصدوق، وأمين الله على وحيه، فكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4].

ثانياً: طاعته فيما أمر.

وقد تقرر وجوب طاعته  بالكتاب والسنة، وقرن الله تعالى طاعته بطاعته في غير موضع من كتابه، ومن عصاه فقد عصى الله، ومن عصى الله فله نار جهنم.

قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾ [الأحزاب : 36].

ثالثاً: اجتناب ما عنه نهى وزجر.

قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر : 7].

وقال عليه الصلاة والسلام: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ)([9]).

رابعاً: أن لا يُعبد الله إلا بما شرع.

فلا يُبتدع في دين الله ما لم يأت به الرسول ، سواء كان عقيدة، أو قولاً أو فعلاً، وكل من ابتدع شيئاً من ذلك فقد كذب بشهادته ﷺ، لأنه زاد في شرعه ما ليس منه، وفي هذا يقول ربّنا عزّ وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31].

يقول الحافظُ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ الله: (هذه الآيةُ الكريمةُ: حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبَّةَ اللهِ وليسَ هو على الطَّريقةِ المحمَّديةِ: فإنَّهُ كاذبٌ في دعواهُ في نفسِ الأمر، حتى يَتَّبِعَ الشَّرعَ المحمَّديَّ والدِّينَ النبويَّ: في جميعِ أقوالهِ وأحوالهِ)اهـ.

فلابدَّ لنا إن أردنا إثباتَ محبَّتِنا له ﷺ: أن نَحْذَرَ مخالفةَ هديِهِ  وسنَّتِهِ، حتى لا نكون ممَّن قال فيهم رسولُ الله ﷺ: (من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ) ([10]).

خامساً: ومن محبته عليه الصلاة والسلام، عدمُ الغلو فيه برفعه فوقَ منزلةِ الرسالةِ والعبودية في المدائحِ والإطراء، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ اللهِ ورسولُه)([11]).

قال له أنس رضي الله عنه: يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا! وخيرنا وابن خيرنا! فقال رسول الله ﷺ: (يا أيها الناس، قُولُوا بِقَوْلِكُم ولا يَسْتَجْرِينَّكُم الشيطان، أنا محمدٌ عبدُ الله ورسولُه، والله مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ)([12]). 
 

وبعد بيان هذه العلامات فإنه من المتقرر عند أهل السنة والجماعة أنّ الزيادة على ما جاء به النبي  -أيّاً كان الفعل- من صلاةٍ أو قيامٍ، أو إحياء ليلة باحتفال أو ذكرٍ أو دعاءٍ، فإنه بدعةٌ في الدين، وضلالةٌ لم يفعلْها النبيُّ ﷺ ولا أصحابُه، وقد حذر النبي ﷺ من عواقب ذلك فقال: (تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ) قَالُوا يَا نَبِيَّ اللهِ أَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلَا يَصِلُونَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي. فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ، فَيَقُولُ: وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟) رواه مسلم.

وما أحسن ما قاله الإمام مالك رحمه الله تعالى حيث قال: "ما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون اليوم ديناً".

وما أحسن قول القائل: وكُلّ خيرٍ في اتباع من سلف // وكُل شرِّ في ابتداع مَن خلف.

فاللهم ارزقنا محبة نبيك، واقتفاء أثره واتباع سنته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

كتبه: أبو عبد الله علي سلمان الحمادي

ليلة الأربعاء الخامس من ربيع الأول عام 1437هـ

 


([1]) رواه البخاري.

([2]) رواه البخاري.

([3]) الطبراني في الأوسط.

([4]) الطبقات الكبرى لابن سعد.

([5]) رواه مسلم.

([6]) رواه مسلم.

([7]) مسند البزار.

([8]) رواه النسائي.

([9]) متفق عليه.

([10]) متفق عليه.

([11]) رواه البخاري.

([12]) رواه أحمد.