فضائل سورتي البقرة وآل عمران


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد ..

فمن سور القرآن ذات الفضل سورتي البقرة وآل عمران، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في الحث على قراءتها وبيان فضلها.

فتعالوا بنا نتعرف على شيء من فضل هذه السورتين.

سورة البقرة ثاني سورة في المصحف سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنام القرآن، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سِنَامًا وَسِنَامُ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ » رواه البيهقي والطبراني.  فلماذا سميت بسنام القرآن ؟

سنام الشيء أعلاه، وقد تضمنت هذه السورة أصول العلم والتشريع، إذ احتوت على ذكر كتاب الله تعالى الهادي للتقوى، فوصف حال أهل الهدى ثم الكافرين ثم المنافقين، ثم تضمنت الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده فجاء الأمر بعبادة الله تعالى في أول أمر في القرآن على ترتيب السور فقال سبحانه : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [البقرة:21] ثم ذكر الدلائل على ذلك من الخلق، وكذلك النهي عن الشرك هو أول نهي ورد في القرآن على ترتيب المصحف إذ قال سبحانه :" فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " [البقرة:22] .

وذكر فيها الوعد والوعيد ومبدأ النبوة والهدى بذكر قصة  آدم عليه الصلاة والسلام، وبين فيها عداوة الشيطان للإنسان وسببها ، وانتقل لخطاب بني إسرائيل ببيان قصة موسى عليه الصلاة والسلام، وذكر فيها الرد على ضلال اليهود وكذبهم، وذكر فيها تقرير أصول الدين ببيان أركان الإسلام وما ينبغي الإيمان به، وذكر فيها أهم شرائع الإسلام فذكر الصلاة والصوم والحج والصدقة، وذكر أصول المعاملات من البيع والشراء والتجارة وطرق تداول الأموال، بل أطول آية فيها هي آية الدين الذي يعتبر العمود الفقري للتجارة، وبيّن حرمة الربا، وذكر فيها أصول الأحوال الشخصية من الزواج وبدايته، وما قد يَعرض له من منغصات وطريقة علاجها، ثم ذكر نهاية الزواج إما بطلاق أو وفاة، وما يترتب على ذلك من العدة والنفقة وتربية الأولاد ونفقتهم ، فكل ذلك وغيره من أصول ذُكر في هذه السورة بما لا تراه في سورة أخرى .

ومن فضائل هذه السورة أن فيها حرزاً من الشيطان الرجيم، فروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ » . رواه مسلم

وروى ابن حبان بسند حسنه بعض أهل الحديث لغيره وفيه " مَنْ قَرَأهَا فِي بَيْتِهِ لَيْلاً، لَمْ يَدْخُلِ الشيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلاثَ لَيَالٍ، وَمَنْ قَرَأهَا نَهَاراً لَمْ يَدْخُلِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلاثَةَ أيَّامٍ "

وأخبر -صلى الله عليه وسلم- عن تأثير هذه السورة على السحرة الذين يستعينون بالشياطين فقال صلى الله عليه وسلم: " اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ" أي السحرة . رواه مسلم.

ومن فضلها أنْ تنزلت الملائكة لقراءتها، فعن أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ-رضي الله عنه- قَالَ: يَا رسول الله:بَيْنَا أنَا أقْرأُ اللَّيلَةَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ إِذْ سَمِعْت وَجْبَةً مِنْ خَلْفِي فَظَنَنْت أنَ فَرَسِيَ انْطَلَقَ. فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: « اقْرأْ أبَا عَتِيكٍ » فالْتَفَتُّ فإذا مِثْلُ الْمِصْبَاح مُدَلّى بَيْنَ السماء وَالأرْضِ، وَرَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: « اقْرأْ أبَا عَتِيك ». فَقَالَ: يَا رسول الله فَمَا اسْتَطَعْتُ أنْ أَمْضي، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- « تِلْكَ الْمَلائِكَةُ تَنَزَّلَتْ لِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أمَا إنَّكَ لَوْ مَضَيْتَ لَرأيْتَ الْعَجَائِبَ ». رواه ابن حبان.

ومن فضائل هذه السورة أنها احتوت على أعظم الآيات فضلاً وهي آية الكرسي وأواخر السورة، فروى مسلم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- « يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟»

قَالَ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

 قَالَ: « يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ »

قَالَ قُلْتُ : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } .

قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: « وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِر » .

وروى مسلم كذلك عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ.

فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ، فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ" .

وروى الترمذي عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ  عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ  بِأَلْفَيْ عَامٍ , وَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَلَا تُقْرَآنَ فِي دَارٍ فَيَقَرَّ بِهَا شَيْطَانٌ ثَلَاثَ لَيَالٍ » والحديث صحيح.

وأما عن فضلها مع سورة آل عمران فإنه فضل عظيم ينبغي لمن سمعه أن يتدارك نفسه ويقبل على هاتين السورتين حفظاً وتعلماً ، فروى مسلم في صحيحه عن أُمَامَةَ الْبَاهِلِي-رضي الله عنه- قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: « اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا »

ما أعظمه من فضل للقرآن الكريم أن يأتي شفيعاً لأصحابه، وما أعظمه من فضل لهاتين السورتين في ذلكم اليوم العظيم، الذي يقف الناس فيه لرب العالمين حفاة عراة غرلاً ينتظرون فصل الحساب.

والزهراوان تثنية الزهراء، والزهراء تأنيث الأزهر، وهو المضيء الشديد الضوء، أي المنيرتين لنورهما وهدايتهما، وعظم أجرهما.

وقوله « فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ » الغمامتان : أَيْ سَحَابَتَانِ تُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا عَنْ حَرِّ الْمَوْقِفِ .

وقوله " غَيَايَتَانِ" :  كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيره.

وقوله : " أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ "  أَيْ طَائِفَتَانِ (مِنْ طَيْرٍ) جَمْعُ طَائِرٍ (صَوَافَّ) جَمْعُ صَافَّةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى الصَّفِّ أَوِ الْبَاسِطَاتُ أَجْنِحَتُهَا مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.

تأتي هاتين السورتين تحاجان عن صاحبهما أي تجادلان عن صاحبهما بالشفاعة له، فلا عجب أن يقضي الصحابة -رضوان الله عليهم- دهراً من أعمارهم لتعلم هذه السور، فابن عمر أمضى أربع سنوات في حفظ سورة البقرة، فروى ابن سعد في الطبقات عن ميمون أن ابن عمر-رضي الله عنهما- تعلم سورة البقرة في أربع سنين، وليس ذلك لضعف حفظهم وإنما للمنهجية التي سلكوها في الحفظ، وهي التي رواها أبو عبد الرحمن السلمي بقوله :"حدثنا الذين يُقرؤوننا القرآن أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ويعرفوا ما فيها من علم وعمل " .

ومن فضائل تدبر أواخر سورة آل عمران ما رواه ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قَامَ -صلى الله عليه وسلم-  فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ. قَالَتْ: وَكَانَ جَالِساً فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ. قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ الأرْضَ.

فَجَاءَ بِلاَلٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ الله تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟

قَالَ: " أَفَلاَ أكُونُ عَبْداً شَكُوراً؟ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَة، وَيْل لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا": {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماوات}  الآيَةَ كُلَّهَا "

جميع هذه الفضائل تدفع المسلم إلى تعلم هاتين ن السورتين وحفظهما وتدبر معانيهما والعمل بأحكامهما، فبادروا رحمكم الله قبل فوات الفوت .

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه، وجعلنا من أهل القرآن.