ما يجوز وما لا يجوز من الغيبة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، و بعد :

فإنه قد اتفق أهل العلم على تحريم الغيبة للمسلم وذلك لنص الكتاب والسنة، قال الله - عز وجل -  ﴿ولا يغتب بعضكم بعضا﴾ الحجرات (12) ، قال القرطبي - رحمه الله -  (الإجماع على أنها من الكبائر) تفسير الحجرات. روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة  أن رجلا سأل رسول الله عن الغيبة فقال:  "الغيبة ذكرك أخاك بما يكره"  قيل: أفرأيت إذا كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته  وإن لم يكن فقد بهته ". وفي رواية : "الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه " صحيح الجامع (4062). وهناك غيبة جائزة دلّ عليها الكتاب والسنة ، قال الله - عز وجل - ﴿لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم سورة النساء(148). وعن عائشة ڤ  قالت: استأذن رجلٌ على رسول الله ﷺ فقال: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة"، فلما دخل ألان له الكلام ، قلت يا رسول الله : قلتَ الذي قلت ثم ألنتَ له الكلام؟ قال : أي عائشة : "إنّ شرّ  الناس من تركه الناس اتقاء فحشه" رواه البخاري(6054). وقد استدل البخاري - رحمه الله - بهذا الحديث على جواز اغتياب أهل الفساد والريبة، وقال الخطيب في الكفاية صـ54 ( فيه دليل على  أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة  للسائل وليس بغيبة ) وقال القرطبي - رحمه الله - ( وفي الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش أو نحو ذلك من الجور في الحكم، والدعاء إلى البدعة ، مع جواز مداراتهم واتقاء شرهم ما لم يؤدّ ذلك إلى المداهنة في دين الله ) فتح الباري(10/454). وعن فاطمة بنت قيس ڤ قالت: أتيت النبي ﷺ  فقلت: إنّ أبا الجهم ومعاوية خطباني ، فقال رسول الله ﷺ: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم  فلا يضع العصا عن عاتقه" رواه مسلم(1480).  فمعاوية فقير وأبو الجهم ضرّابٌ للنساء وقيل معناه كثير الأسفار.

وقد وقع في كلام جماعة من العلماء الاستثناء لصورٍ صرحوا بأنه يجوز فيها الغيبة. وسنذكر ما أورده النووي في شرح مسلم، ثم ما يتعقبه عليه العلماء مع ذكر الدليل عليه:قال بعضهم (القدح ليس بغيبةٍ في ستة : متظلم، ومعرّف، ومحذّرٍ، ومجاهرٍ فسقا، ومستفتٍ، ومن سأل الإعانة في  إزالة المنكر). قال النووي في شرح مسلم (ج16ص142) عند ذكر ما ورد في تحريم الغيبة ما لفظه لكن تباح الغيبة لغرض شرعي وذلك لستة أسباب :

1-    التظلم: فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما على إنصافه من ظالمه ويقول فلان ظلمني أو فعل بي كذا .قال الشوكاني - رحمه الله -  في رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة ( قد دل على جواز هذه الصورة قوله الله - عز وجل - ﴿ لا يحب الله الجهرَ بالسوء من القول إلا من ظُلم﴾ النساء 148. فهذا الاستثناء قد أفاد جوازَ ذكر المظلوم للظالم بما يبينُ للناس وقوع الظلم له ورفع صوته بذلك والجهر به في المواطن التي يجتمع الناس بها ، أما إذا كان يرجو منهم نُصرته ودفع ظلامته كمن له منهم قدرة على ذلك فالأمر ظاهر. ثم قال - رحمه الله -: فأدلة تحريم الغيبة تمنع ذكر المظلوم للظالم في غيبته والآية  قاضية بالجواز ، ولا يخفاك أن أدلة تحريم الغيبة أقوى لدلالة الكتاب والسنة والإجماع ، وآية جواز ذكر المظلوم للظالم ظنّيةُ الدلالة، وقد عارضها ما هو مثلها  من القرآن وانضم إلى ذلك السنة والإجماع فتصيرُ دلالة آية جواز ذكر المظلوم للظالم على ذكره بالسوء في وجهه ولا يجوز له ذكره في غيبته ترجيحا للدليل القوي فلا تكون هذه الصورة التي جعلها النووي عنوانا للصورة المستثناة صحيحة لعدم قيام مخصصٍ صحيحٍ صالحٍ للتخصيص يخرجها من العموم) انتهى كلام الشوكاني - رحمه الله -.

2-    الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب : فيقول لمن يرجو قدرته ( فلان يعمل كذا فازجُرْهُ ، أو نحو ذلك). قال الشوكاني - رحمه الله - ( اعلم أن هذا الذي رأى منكرا، إن كان قادرا على تغييره بنفسه أو بالاستنصار به بأن يقول لجماعة المسلمين في المكان الفلاني من يرتكب المنكر فهلموا إلىَّ وقوموا معي حتى ننكره ونغيره ، فليس به حاجة إلى الغيبة وإلى تعيين فاعل المنكر وبيان اسمه، فإن لم يكن فيهم ذلك  الوازع الديني والغيرة الإسلامية  فهم لا ينشطون إلى إجابته، وإن وجد فيهم الوازع الديني وسيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كليلا فإنهم قد ينظرون مع التسمية والتعيين في فاعل المنكر، فإن كان قويا جليلا تركوه وإن كان ضعيفا قاموا إليه وغيروا ما هو عليه وهذا هو غربة الدين العظيمة ، وإن كانوا لا يقدرون على الإنكار إلا على المستضعفين فذلك فرضُهم وليس عليهم سواه وحينئذ لا بأس بالتعيين والغيبة. وجواز هذه الغيبة هو بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثابتة بالضرورة الدينية ).

3-        الاستفتاء: بأن يقول للمفتي ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا ، فهذا جائز للحاجة، والأحوط أن يقول: ما تقول في رجل أو زوج كان من أمره كذا؟ والتعيين جائز لحديث هند بنت عتبة ڤ  وقولها ( إن أبا سفيان رجل شحيح) متفق عليه. قال الشوكاني - رحمه الله - ( أن أدلة تحريم الغيبة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع وليس في تسويغها للمستفتي إلا سكوته عليه الصلاة والسلام عن الإنكار على هند لمّا قالت له ( إن أبا سفيان رجل شحيح ) وهذا السكوت منه عند سماع الغيبة من امرأة حديثة عهد بجاهلية لرجل حديث عهد بجاهلية مع كونه في تلك الحال لم  يكن قد ظهر منه ما يدل على خلوص إسلامه واستقامة طريقه، فهذا التقرير بالسكوت بعد ثبوت تحريم الغيبة لا ينبغي التمسك بمثله ولا يحلُ القول بصلاحيته للتخصيص لأن السامعين من المسلمين في تلك الحالة قد علموا تحريم الغيبة، وهذا على تقدير أن أبا سفيان لم يكن حاضرا في ذلك الموقف فإن كان حاضرا كما قيل اندفع التعلق بسكوته عليه الصلاة والسلام من الأصل ومع هذا فلا ضرورة ملجئة للمستفتي إلى التعيين فإنه يحصل الاستفتاء بالإجمال  لأن المقصود استفتاؤه الحكم الشرعي وبهذا تعرف أن هذه الصورة ليست من صور تخصيص تحريم الغيبة لعدم انتهاض دليلها ).

4-       تحذير المسلمين من الشر وذلك من خمسة وجوه منها وهي :-

1.       جرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين ، وذلك جائز بالإجماع بل واجب صونا للشريعـة

2.       الإخبار بغيبة عند المشاورة ( من باب : وإذا استنصحك فانصح له ) مسلم .

3.       إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا أو نحو ذلك ، تذكر للمشتري ذلك نصيحةً لا لقصد الإيذاء أو الإفساد.

4.       إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق أو مبتدع يأخذ عنه علما فعليك نصيحته .

5.       أن يكون له ولاية ولا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو لفسقه فيذكره لمن له عليه ولاية ليستدل به  أو يعرف حاله.

قال الشوكاني - رحمه الله - :

1.       الجرح للرواة والشهود والمصنفين ، واستدل على جواز ذلك بالإجماع وكلامه صحيح فإنه ما زال سلف الأمة وخَلفها يجرحون من يستحق الجرح وهكذا جرح الشهود فمن جرح من شهد في مال أو عرض أو بشهادة زور فإنه من النصيحة التي أوجبها الله على عباده .

2.       الإخبار بالغيبة عند المشاورة فالمشاورة ثابتة بالتواتر ، ومن جملة حقوق المسلم كما في صحيح مسلم ( وإذا استنصحك فانصحه ) ولكن ليس في هذا القسم من الضرورة المُلجئة إلى التعيين فإنه يمكن القيام بواجب النصيحة بأن يقول الناصح لا أشير عليك بهذا ، أو لا تفعل هذا ، فالتعيين والدخول فيما هو من الغيبة فضول من الناصح  ، فليس هذا القسم من الأقسام المستثناة من أدلة تحريم الغيبة.

3.       وكذلك إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا فلا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة لأن القيام بواجب النصيحة يحصل بقوله : لا أشير عليك بشراء هذا ، فله عن الدخول في خطر الغيبة منه مندوحة .

4.       وكذلك قوله إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق أو مبتدع ، لأن القيام بواجب النصيحة يحصل بالإجمال ولم يتعبده الله بالتفصيل وذكر المعائب والمثالب بل يكفيه أن يقول لا أشير عليك بمواصلة هذا أو لا أرى لك الأخذ عنه

5.       وكذلك قوله ومنها أن يكون له ولاية ولا يقوم بها فيذكره لمن له عليه ولاية ليستدل به ، فهذا القسم أيضا لا يصح جعله من الصور المستثناة ويكفي قوله : لا تستعمل هذا ، وإذا قال ذلك فقد فعل ما أوجبه الله عليه من النصيحة .

5-    أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته فيجوز ذكره بما يجاهرُ به ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر .

قال الشوكاني - رحمه الله -  ( إن كان المقصود بجواز ذكره بما جاهر به هو التحذير للناس فقد دخل ذلك في الصورة الرابعة  والتحذير يمكن بدون ذكر ما جاهر به بأن يقول لمن ينصحه: لا تعاشر فلانا أو لا تذهب إليه فإنه لم يأت دليل يدل على جواز ذكره بما جاهر به بل ذلك غيبة محضة وأما ما يُروى من حديث ( اذكروا الفاسق بما فيه كيما يحذره الناس ) فلم يصح ذلك بوجه من الوجوه وإن كان المقصود بجواز ذكره بما جاهر استعانة الذاكر على الإنكار عليه فيدخل في الصورة الثانية . ثم قال - رحمه الله - ( فإن استدل المُستدل على جواز هذا بما وقع منه عليه الصلاة والسلام من قوله  " بئس أخو العشيرة " متفق عليه. فيقال له أولا إن هذا القول لا يجوز لنا الاقتداء به فيه لأن الله قد حرم علينا الغيبة وحرمها رسول الله ﷺ  وعلى ذلك الإجماع . فعلى هذا يكون وقوعه منه عليه الصلاة والسلام في حكم المخصص له من ذلك العموم. وأيضا فالنبي ﷺ  يعلم ما لم نعلم ويأتيه الوحي بما لم يأتنا  وأيضا فذلك الرجل لم يكن إذ ذاك قد صلح إسلامه وبقي أثر الجاهلية عليه وقد كان رسول الله ﷺ يتألف أمثاله بالكلام والمال فلا يحل لأحدنا أن يعتمد إلى من يعلم أنه خالص الإسلام صحيح النية فيه مؤمن بالله ورسوله فيغتابه بمعصية فعلها أو خطيئة جاهر بها مستدلا على ذلك بحديث ( بئس أخو العشيرة ).

6-    التعريف: فإن كان معروفا بلقبٍ كالأعمش والأعرج ونحوها، جاز تعريفه به ويحرم ذكره بها تنقّصا ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى.

قال الشوكاني - رحمه الله -   ( وأما الصورة السادسة وهي التعريف بالألقاب فأقول : قد نهى عن ذلك القرآن الكريم ، قال الله - عز وجل - ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾ وهذا النهي يدل على تحريم التلقيب ولا يجوز شيء منه إلا بدليل يخصص هذا العموم وزاد على هذا الدليل أدلة تحريم الغيبة ، فإن  كان ذكر ذي اللقب بلقبه في غيبته كان الذاكر جامعا بين تحريم الغيبة وتحريم التلقيب وإن كان ذكر ذي اللقب في وجهه كان الذاكر واقعا في التلقيب المحرم. فإن قلت: إذا كان ذكره باللقب أقرب إلى تعريفه كمن يشتهر بالأعرج والأعور ونحو ذلك ، قلت : هذه الأقربية لا تحلل ما حرمه الله فينبغي ذكره بالأوصاف التي لا تلقيب فيها ومما يزيدك على هذا قوله عليه الصلاة والسلام لمن  سمعها تذكر امرأة أخرى بأنها قصيرة فقال ( لقد قلت كلمة واحدة لو مزجت بماء البحر لمزجته) أبو داوود والترمذي وهو صحيح . فإن قلت:هذه دواوين الإسلام وسائر المصنفات في السنة مشحونة بذكر الألقاب كالأعمش ونحوها قلت: لا يصح إيراد مثل هذا في مقابلة النهي القرآني المصرح بتحريم التنابز بالألقاب. فإن قلت: فما كان صاحب اللقب لا يُعرف إلا به ولا يعرف بغيره أصلا، قلت: إذا بلغ الأمر إلى هذه النهاية لم يكن ذلك اللقب لقبا بل هو الاسم الذي يعرف به  صاحبه، وكذلك فإن ما وقع في المصنفات من ذكر الألقاب فإن أهلها وإن كانت لهم أسماء فغيرهم يشاركهم فيها فلا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بذكر الألقاب وحينئذ لم يبق لتلك الأسماء فائدة لأن المقصود منها أن يتميز بها صاحبها عن غيره ولم يحصل هذا بل إنما حصل من اللقب فكان هو الاسم المميز في الحقيقة فلم يكن ذلك من التنابز بالألقاب وهكذا يرتفع الإشكال عن القارئ لتلك الكتب فلا يقال له أنه يروي الألقاب ويغتاب أهلها بقراءتها في كتب السنة ) انتهى كلام الشوكاني - رحمه الله -.

قلت : ممّا سبق يتبين لنا أن الغيبة من كبائر الذنوب ، وقد دلت الشريعة على جوازها للحاجة وفي حدود ضيقةٍ جداً .

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.