الإفتاء والواقع المؤلم في بعض وسائل الإعلام


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله العزيز السلام, بين للناس الحلال والحرام,  وجعل مرجع السؤال في الدين إلى الأئمة الأعلام, والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي بيّن الشرع للأنام أما بعد…

     فإن التجرؤ على الفتوى له أخطار كبيرة , و يترتب عليه آثام عظيمة, ومفاسد جسيمة , ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتدافعون الفتوى كما قال ابن أبي ليلى رحمه الله: “أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث، أو يسأل عن شيء، إلا ودّ أخاه كفاه”([1]).

      وقد ورث التابعون هذا الأدب العظيم فعن عمير بن سعيد قال : سألت علقمة عن مسألة ، فقال : ائت عبيدة فاسأله ، فأتيت عبيدة فقال : ائت علقمة ، فقلت : علقمة أرسلني إليك ، فقال : ائت مسروقًا فاسأله ، فأتيت مسروقًا ، فسألته فقال : ائت علقمة فاسأله ، فقلت : علقمة أرسلني إلى عبيدة ، وعبيدة أرسلني إليك ، فقال : ائت عبد الرحمن بن أبي ليلى ، فأتيت عبد الرحمن بن أبي ليلى ، فسألته فكرهه ، ثم رجعت إلى علقمة فأخبرته قال : كان يقال : ” أجرأ القوم على الفتيا أدناهم علمًا “([2]).

     ولم يكن هذا منهم فحسب , بل كان الواحد منهم يودّ أن لو قطع لسانه ولا يتكلم في دين الله بغير علم, وقد سُئل القاسم بن محمد بن أبي بكر عن شيء فقال رحمه الله :”لا أحسنه” فقال السائل: إني جئت إليك  لا أعرف غيرك. فقال القاسم:” لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه”. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه:” يا ابن أخي الزمها, فو الله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم”. فقال القاسم:” والله لأن يقطع لساني أحبّ إليّ من أن أتكلم بما لا علم لي”([3]).

     ولم يكن الواحد منهم يصدّر نفسه للفتوى حتى يستشير من هو أعلم منه فيشير عليه بذلك, وما أجمل ما قاله الإمام مالك رحمه الله: ” ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني : هل يراني موضعًا لذلك ؟ سألت ربيعة , وسألت يحيى بن سعيد , فأمراني بذلك , فقلت – أي خلف بن عمر- له : يا أبا عبد الله لو نهوك ؟! قال : كنت أنتهي , لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه “([4]).

    وقد قارن الإمام مالك رحمه الله حال زمانه بحال زمان الصحابة الذين يتدافعون الفتوى فقال رحمه الله:” إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل, ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة, فكيف بنا الذين غطّت الخطايا والذنوب قلوبنا”([5]).

    فأفضل القرون وأعمق الناس علماً وفهماً تهيبوا من الفتوى وتدافعوها , ولا يتصدر الواحد منهم للفتوى حتى يستشير ويؤذن له, بل إن الواحد يُفضّل قطع لسانه على أن يقول في دين الله ما لا يعلم …

   فواعجبًا كيف تجرأ بعض الناس في هذا الزمان على الفتيا في دين الله ؟!! وكيف تهافتَ  غير المتخصصين عبر وسائل الإعلام على الفتوى دون معرفة بالعلم وآداب الفتوى وضوابطها ؟!!

    إن هذا لأمر عظيم وخطب جلل, أبكى العلماء في القرون الأولى فقد رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم ! قال: ولَبَعْضُ مَن يفتي هاهنا أحقّ بالسجن من السّراق”([6]).

   قال ابن حمدان الحراني (695هـ) معلقاً على كلام ربيعة:” فكيف لو رأى زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا, مع قلة خبرته وسوء سيرته, وشؤم سريرته, وإنما قصده السمعة والرياء, ومماثلة الفضلاء والنبلاء والمشهورين المستورين والعلماء الراسخين والمتبحرين السابقين, ومع هذا فهم يُنهون فلا يَنتهون, ويُنبهون فلا يَنتبهون , قد أُملي لهم بانعكاف الجهال عليهم, وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم , فمن أقدم على ما ليس له أهلًا من فتيا أو قضاء أو تدريس أثم, فإن كان أكثرَ منه  وأصرَّ واستمر فسَق, ولم يحلّ قبول قوله ولا فتياه ولا قضائه , هذا حكم دين الإسلام والسلام, ولا اعتبار لمن خالف هذا الصواب, فإنا لله وإنا إليه راجعون“([7]).

   يقول هذا عن زمانه فكيف بزماننا الذي ظهر فيه من يلْبَس ثوب الشرع متملقاً بالعلم, مرونقاً كلامه به, متشبعاً بما لم يعطه , تراه عبر التلفاز يضرب أقوال العلماء بعضها ببعض مسقطاً منها ما لا يروق له , متسفهاً على الناس بأقواله وأفعاله , مرخصاً للناس ما لم يرخصْه الله ,  مائلاً إلى الدنيا في فتواه , صارفاً وجوه الناس إليه,  ممارياً بفتواه العامّة , مباهياً بها العلماء والعقلاء , مسلطاً لسانه على أهل الحق مداهناً به أهل الباطل, قد أضرَّ بنفسه حيث أقحمها القول  على الله بلا علم , وأفسد في مجتمعه بنشره هذا الهوى والجهل.

        قال ابن بالقيم رحمه الله :” وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء, وجعله من أعظم المحرمات , بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}([9]). فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش, ثم ثنّى بما هو أشدّ تحريمًا منه وهو الإثم والظلم , ثمّ ثلث بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك به سبحانه,  ثم ربع بما هوأشد تحريمًا من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعمّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرّمه: هذا حرام ولما لم يحلّه: هذا حلال, وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أنّ الله سبحانه أحلّه وحرمه”([10]).

   وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطر الجهال المتصدرين للفتوى على الفرد والمجتمع حيث قال  :” إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا“([11]).

فتصدر بعض المفتين غير المتأهلين سبب للضلال والإضلال… سبب للقتل وسفك الدماء … سبب للتفرق والاختلاف… سبب لوقوع المفاسد الاجتماعية والأخلاقية ومن تأمل قصة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أيقن بخطر الفتى بلا علم فعَنْ جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ , فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ:” قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ , إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ شَكَّ مُوسَى عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جسده“([12]).

ولما كانت الفتوى بهذه المكانة والخطورة, وكان أهل الفوضى قد انتشروا في هذا الزمان,حتى انتشر داء الكلام على الله وفي دين الله بلا علم , أحببت الإشارة إلى بعض التنبيهات التي تُعرّف الإنسان قدره حتى لا يفتي في دين الله, والتي يميّز بها الإنسان بين أهل الفتوى العلمية وبعض أهل الفوضى الإعلامية الذين تصدروا ولم يتأهلوا وأفسدوا ولم يصلحوا  .

 التنبيه الأول: أنه ليس كل من أحسن الكلام في العلم الشرعي يحسن الفتوى.

      فباب الفتوى أخصّ وأدقّ من باب العلم؛ و العلم  أوسع وأعمّ فليس كل متعلم يصلح للفتوى ؛  ولهذا قال الشافعي رحمه الله :”  لا يحل لأحد يفتي في دين الله إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله : بناسخه ومنسوخه , وبمحكمه ومتشابهه , وتأويله وتنزيله , ومكيّه ومدنيه , وما أريد به , وفيما أنزل , ثم يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبالناسخ والمنسوخ , ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن , ويكون بصيرًا باللغة , بصيرًا بالشعر , وما يحتاج إليه للعلم والقرآن , ويستعمل مع هذا الإنصاف , وقلة الكلام , ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار , ويكون له قريحة بعد هذا , فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام , وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي “([13]).

  فتأمل هذا القيد (وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي) فالذي عنده علم شرعي ولم تكتمل فيه صفات الفتيا ,  لا يجوز له أن يفتي , فكيف بطلّاب العلم المبتدئين والقصاصين ومفسري الأحلام والخطباء والوعاظ ممن لم يرتق إلى مراتب العلم وطلابه فضلًا عن أن يكون من أهل الفتوى.

     فعلى طالب العلم أن يعرف قدر نفسه, ولا تجرّه معرفته بشيء من العلم إلى الفتيا فيقع فيما لا يحسن , فيضرّ نفسه بعد أن كان منتفعاً , ويفتن غيره بعد أن كان بعيداً عن الفتن.

     ولْيلحظ المرء تلك الضوابط الدقيقة التي ذكرها الإمام الشافعي رحمه الله , ولتقاس على بعض المفتين المتصدرين الذين لا يحسنون حتى الكلام بالعربية فلغة العلم عن لسانه بعيدة , وتراكيب الجمل في كلامه ركيكة.

التنبيه الثاني: أن من حَرَص على الفتوى, ولم يكن قد تأهّل ولم يضطر لها , قلّ توفيقه واضطرب في فتواه .

  قال أبو بكر الخطيب والصيمري :” قلّ من حرص على الفتوى وسابق إليها, وثابر عليها إلا قلّ توفيقه واضطرب في أمره , وإذا كان كارهًا لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه , وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره , كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه وفتياه أغلب”([14]).

 ومن رأى بعض من تصدّر الفتوى في وسائل الإعلام اليوم يرى مصداق هذا الكلام فيهم , فكم من المتصدرين غير موفق في أقواله , مضطرب في فتواه ,  فيحرم ما كان يحلّه, ويحلّ ما كان يحرمه  بالأمس , وينتقد ما كان يحسنه , ويحسن ما كان ينتقده فيما قبل, في لقاء واحد تراه يقرر أمراً ويبني صرحاً ثم يأتي  بنقيضه فيسرع في نَقْض صرحه، وهَدمِ بنيانه وكما قيل:

                       وتهدم ما تبني بكفّك جاهداً … فأنت مدى الأيام تبني وتهدم

 وهذه – والعياذ بالله -علامة ضلال وخذلان وقد قال حذيفة رضي الله عنه فيمن هذه صفته:” إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وأن تنكر ما كنت تعرف وإياك والتلون في دين الله تعالى فإن دين الله واحد“([15]).

 التنبيه الثالث: من شروط المفتي وصفاته.

   قال ابن الصلاح الشهرزوري :”أما شروطه وصفاته فهي: أن يكون مكلّفاً, مسلماً, ثقة, مأموناً, متنزهاً من أسباب الفسق, ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد , وإن كان من أهل الاجتهاد , ويكون فقيه النفس, سليم الذهن, رصين الفكر, صحيح التصرف والاستنباط, مستيقظاً”([16]).

ولاحظ من هذه الشروط ثلاثة :

  • أن يكون ثقة مأموناً , لا مجهولاً غير مأمون العلم ولا سليم العقيدة.

  • أن يكون منزهاً من أسباب الفسق أي غير واقع في كبائر الذنوب , ولا مصراً على صغائرها.

  • أن يكون منزهاً من أسباب خوارم المروءة. والمروءة هي: كمال النفس بصونها عمّا يوجب ذمها عرفًا ولو مباحًا في ظاهر الحال([17]).

فإذا رأيت من بعض المتصدرين للفتيا في الواقع الإعلامي مروءة مخرومة , وأخلاقاً مجذومة , ومناهج منحرفة ,فاعلم أن فتواه ليست أهلاً للاعتماد, و تقريراته ليست صادرة عن تقوى واجتهاد  .

التنبيه الرابع: دعائم الفتوى .

تقوم الفتوى على خمس دعائم مَن أخلّ بها أو ببعضها أخلّ بفتواه, وقد بيّن الإمام أحمد هذه الدعائم فقال رحمه الله :”لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها: أن تكون له نية -أي حسنة لله-, فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور, ولا على كلامه نور.

الثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.

الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو عليه, وعلى معرفته.

الرابعة: الكفاية – أي كفاية مال – وإلا مضَغه الناس.

الخامسة: معرفة الناس.

    علق ابن القيم على كلام الإمام أحمد قائلاً:”وهذا مما يدل على جلالة الإمام أحمد ومحلّه من العلم والمعرفة , فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل من المفتي بحسبه” ([18]).

   أين هذه الدعائم من بعض المتصدرين للفتوى في واقع الإعلام ؟!!  لا تجد عند بعضهم مسْكَة من هذه الدعائم, فالنية عند بعضهم  الشهرة والمال كما يدل عليه الحال والمآل, والأفعال عند بعضهم على غير الحلم والوقار , أما القوة العلمية فهي عند بعضهم معلومات ثقافية مبعثرة ضعيفة , وأما المعرفة بالناس عند بعضهم, فلا تكاد تتصل إلا عبر طريق شاشة التلفاز, فكيف يتصدر من هذا حاله؟! وكيف يوثق بقوله وأفعاله؟!

التنبيه الخامس: من  تسرع وتساهل في الفتوى لم يجَزْ أن يُستفتى.

  من نظر في بعض مفتي الإعلام المتصدرين من أهل الفوضى, يجد عندهم تسرعاً وتساهلاً في الفتوى, ولهفًا لسماع السؤال, وتعطشاً لاستقبال المستفتين, على خلاف ما كان عليه أهل العلم الأولون.

   قال ابن الصلاح الشهرزوري رحمه الله :”لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى, ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى , وذلك قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقّها من النّظر والفكر , وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنقصة , وذلك جهل, ولئن يبطئ ولا يخطئ أكمل به من أن يعجل فيُضل ويَضل… وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه , أو التغليظ على من يريد ضرّه ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه, ونسأل الله تعالى العافية والعفو”([19]).

    وقد كان علماء المسلمين يتريثون في المسألة أيما تريث, لا سيّما المعضلة منها فعن سُحنون أن رجلًا أتاه فسأله عن مسألة فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام:” مسألتي أصلحك الله اليوم” ثلاثة أيام . فقال له: “وما أصنع لك يا خليلي, مسألتك معضلة, وفيها أقاويل وأنا متحيّر في ذلك” فقال له:” وأنت أصلحك الله لكل معضلة” فقال له سحنون:” هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار, ما أكثر ما لا أعرف, إن صبرت رجوت أن تنقلب بمسألتك, وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامض, تجاب في ساعة” فقال له:” إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك” فقال له:” فاصبر عافاك الله ثم أجابه بعد ذلك”([20]).

    أين هذه التؤدة والتأني من بعض واقع الإفتاء الإعلامي اليوم ,  فإن البعض يبادر بالجواب قبل تتمة السؤال أو قبل فهمه ,أو يناقش السائل ولمّا يكمل كلامه ويطرح قضيته, فسرعان ما يقع في الوهم والخطأ, ويكثر عنه ذلك, حتى تكون صفة ملازمة لكل حلقة يخرج فيها ولكل مقطع ينشره, وهو مع هذا فرح فخور معجب بنفسه مغرور .

التنبيه السادس : المفتي لا يرخص للناس فيما حرم الله, ولا يقنّط من رحمة الله.

قال علي رضي الله عنه: “ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يرخص للمرء في معاصي الله , ولا يدع القرآن رغبة إلى غيره إنه لا خير في عبادة لا علم فيها ولا خير في علم لا فقه فيه ولا خير في قراءة لا تدبر معها“([21]).

تأمل صفة هذا الفقيه وقارن به حال بعض أهل الفوضى اليوم فهم بين متساهل في فتواه, يفتي بما يطلبه المشاهدون متذرعاً بقاعدة اليسر والتسهيل في الدين, وبين متشدد في فتواه  يقنط الناس من رحمة الله.

التنبيه السابع: على المفتي أن لا يُدخل المستفتي في الأمور الغامضة والإشكالات.

   من الآداب المهمّة على المفتي أن يبيّن جوابه بياناً مزيلاً للإشكال ,  وإذا كان في المسألة تفصيل فمن الخطأ أن يطلق الجواب دون تفصيل ([22]).

  وكذلك على المفتي أن لا يطيل الإجابة حتى لا يستشكل السائل ولا تشتبه عليه الإجابة , قال ابن حمدان رحمه الله :” وعلى المفتي أن يختصر جوابه, فيكتفي فيه بأنه: يجوز أو لا يجوز , أو حقّ أو باطل , ولا يعدل إلى الإطالة والاحتجاج ليفرّق بين الفتيا والتصنيف, ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير , ولصار المفتي مدرسًا , ولكل مقام مقال”([23]).

   وقد ذكر أبو القاسم الصّيمري عن القاضي أبي حامد المروروذّي :”أنه كان يختصر في فتواه غاية ما يمكنه واستفتي في مسألة قيل في آخرها : أيجوز ذلك أم لا  ؟ فكانت فتواه: لا, وبالله التوفيق”([24]).  وهذا الاختصار مقيد بأن لا يكون فيه  إخلال بالحكم والبيان.

   وحتى لا يوقع المستفتي في الإشكال والاشتباه فإن العلماء نصّوا على أن المفتي لا يذكر للمستفتي من الأدلة إلا ما كان نصاً واضحاً , أما الأقيسة وطرق الاجتهاد وأوجه الاستدلال فلم تَجَر العادة بذكرها([25]).

  ومن تأمل هذا التنبيه وقارن به بعض الإفتاء الإعلامي وجده على الصورة التي حذر منها العلماء, فبعضهم يدخل السائل في قياسات عقلية ضعيفة , وفي استدلالات واهية هزيلة, لا يُستفاد منها إلا وقوع السائل والسامع في الإشكالات , أو خدمتها  لمصلحة المفتي الإعلامي ومنهجه الذي يريد أن يروج له عبر الشاشات.

التنبيه الثامن: خطر إيثار الدنيا على فتوى المفتي.

   إن خطر إيثار الدنيا على فتوى المفتي كبير, ولا بدّ على من آثرها أن يقول على الله بلا علم وقد نبّه ابن القيم رحمه الله على هذا الداء الخطير فقال:” كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبّها , فلا بدّ أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه, وفي خبره والزامه , لأن أحكام الرب سبحانه كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرئاسة, والذين يتبعون الشهوات فإنهم لا تتمّ لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحقّ ودفعه كثيرًا , فإذا كان العالم والحاكم محبّين للرئاسة, متبعين للشهوات, لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضادّه من الحقّ, ولا سيّما إذا قامت له شبهة , فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى , فيخفى الصواب , وينطمس وجه الحق, وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به ولا شبهة فيه, أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج من التوبة. وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ }([26]).وقال تعالى فيهم أيضاً:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ([27])فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرَض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا, وإن عُرض لهم عرَض آخر أخذوه فهم مصرّون على ذلك, وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق, فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن حكمه وشرعه ودينه خلاف ذلك, أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه, فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون , وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه, وأما الذين يتقون فيعلمون أن الدار الآخرة خير من الدنيا, فلا يحملهم حبّ الرئاسة والشهوة على أن يؤثروا الدنيا على الآخرة,             وطريق ذلك أن يتمسكوا بالكتاب والسنة, ويستعينوا بالصبر والصلاة, ويتفكروا في الدنيا وزوالها وخستها, والآخرة وإقبالها ودوامها, وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران, فإن اتباع الهوى يعمى عين القلب, فلا يميّز بين السنة والبدعة, أو ينكسه فيرى البدعة سنة, والسنة بدعة. “([28]).

 هذا هو الواقع المؤلم في بعض الإفتاء الإعلامي اليوم فإن بعض المفتين لا يخرج على التلفاز إلا لغرض دنيوي من طلب شهرة, وحب سمعة, واشتراط نقود حالّة ومؤجلة, وإذا جلس أمام الشاشات ظن أنه جلس على كرسي الملك فتراه منتفخاً متعاظماً يطمس الحق الذي ضدّه ويرفع الشبه التي تخدمه بأدلة عقلية سقام, رافعاً صوته على الأنام , متشدقاً في الكلام , بلا أدب ولا احترام.

                 ولو أن أهل العلم صانوه صانهم….ولو عظموه في النفوس لعظما

                      ولكن أهانوه فهانوا، ودنسوا….محياه بالأطماع حتى تجهما.

 التنبيه التاسع: الحذر من فتنة الإصابة في الإجابة.

    إن أجاب المفتي فأصاب, فليحمد الله على توفيقه, ولا يعجب بنفسه ويفتخر بها فإن للإصابة فتنة أشدّ من فتنة المال.

   قيل لسحنون بن سعيد:”إنك لتسأل عن المسألة لو سئل عنها أحد من أصحابك لأجاب فتتوقف فيها. فقال رحمه الله :”إن فتنة الجواب بالصواب أشدّ من فتنة المال“([29]).

   فتأمل هذه الفتنة, وانظر كم مفتوناً قد فُتن بها يظن أنه حاز السبق والشرف بإصابته , بل يظن أنه العالِم الفريد الفذّ في زمانه, ولم يعلم أنه وقع في شراك هواه ونفسه , ولو كان عاقلاً لشكر الله وهضم نفسه, ونسب الفضل لأهله , لكنه جحده واتبع هواه .

   هذا فيمن كان مصيباً في فتواه…. فكيف بمن كانت فتواه على جهل وهوى وفلسفة ليست من الهُدى وهو يظن أنه مصيب للحق والهُدى؟!!

هذه جملة من التنبيهات أرجو أن تكون مرشدة مبصرة للمسلم, مفرقة له بين أهل الفتوى وأهل الفوضى .

   وليحذر كل مسلم على نفسه من هذه السنوات الخداعات, ومن تصدّر كلّ رويبضة عبر الشاشات فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ, وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ” قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ:” السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ  فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ”([30]).

    وليكن المسلم متمسكاً بوصية ابن مسعود رضي الله عنه حين قال:” لا يَزالُ النَّاسُ بخيرٍ ما أتاهم العلمُ عن كبرائهم ؛ فإِذا أتاهم من قبل أَصاغِرِهم هَلكوا”([31]),حريصًا على تلقي العلم بحقه ومن أصوله وعلى أهله, حتى تزول هذه الفوضى في الفتوى, وقد وصف العلامة ابن عثيمين رحمه الله حال هؤلاء المتطفلين وخطرهم وما هو الواجب على أهل الحق في زمن خروجهم فقال رحمه الله:” ومنهم من يرغب العلم وطلب العلم الذي هو في وقتنا هذا قد يكون أفضل أعمال البدن؛ لأن الناس في الوقت الحاضر في عصرنا هذا محتاجون إلى العلم الشرعي لغلبة الجهل وكثرة المتعالمين الذين يدعون أنهم علماء وليس عندهم من العلم إلا بضاعة مزجاة، فنحن في حاجة إلى طلبة علم يكون عندهم علم راسخ ثابت مبنيّ على الكتاب والسنة من أجل أن يردّوا هذه الفوضى التي أصبحت منتشرة في القرى والبلدان كلّ إنسان عنده حديث أو حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدّى للفتيا ويتهاون بها وكأنه شيخ الإسلام ابن تيمية أو الإمام أحمد أو الشافعي أو غيرهم من الأئمة, وهذا ينذر بخطر عظيم إن لم يتدارك الله الأمة بعلماء راسخين عندهم علم قوي وحجة قوية… فالحاصل : أنه لابدّ للأمة الإسلامية من علماء راسخين في العلم, أما أن تبقي الأمور هكذا فوضى, فإنهم على خطر عظيم ولا يستقيم للناس دين ولا تطمئن قلوبهم ويصير كل واحد تحت شجرة يفتي وكل واحد تحت سقف يفتي وكل واحد على قمة جبل يفتي وهذا ليس بصحيح, لابد من علماء عندهم علم راسخ ثابت مبني على الكتاب والسنة وعلى العقل والحكمة “([32]).

 فما أعظمها من وصية نافعة , ونصيحة واقعيّة صادقة, وتحذير من داء فتك بالمجتمع في ذلك الوقت الذي لم يكن منفتحاً كوقتنا هذا , فكيف بنا اليوم ونحن نرى أهل الفوضى يفتون لكل أحد, من كل بلد, في كل شيء عبر التلفاز والفيس بوك والتويتر والواتساب وغيرها من وسائل التواصل التي جرأت بعض الناس على القول في دين الله بلا علم  , فلابدّ من وقفة صادقة وجد في طلب العلم , مع الأخذ بيد من لا يعلم, ومنع أهل الفوضى من العبث بالفتوى والعلم.

أسأل الله أن يقينا شرّ الفتن والمفتونين,

وأن يهدينا سبيل أهل الحق والحكمة المستقيمين.

 والحمد لله رب العالمين

 


([1])الفقيه والمتفقه (2/24).

([2]) أخلاق العلماء للآجري (120-121).

([3]) جامع بيان العلم وفضله (2/837).

([4]) الفقيه والمتفقه (2/326).

([5]) صفة المفتي (136).

([6]) جامع بيان العلم وفضله (2/1225).

([7])صفة المفتي والمستفتي (142).

([8]) النحل:116

([9]) الأعراف :33

([10]) إعلام الموقعين (2/73-74).

([11]) رواه البخاري (100), ومسلم (2673).

([12]) رواه أبوداود (336).

([13]) الفقيه والمتفقه (2/331).

([14]) صفة المفتي والمستفتي (141).

([15]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة لللالكائي (1/101).

([16]) أدب المفتي والمستفتي (86) وينظر الفقيه والمتفقه (2/330).

([17]) ينظر: حاشية الصاوي على الشرح الصغير(4/682).

([18]) إعلام الموقعين (5/105).

([19]) أدب المفتي والمستفتي (111).

([20])أدب لمفتي والمستفتي (81)

([21]) العلم لأبي خيثمة (143).

([22]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي (134-135), صفة المفتي والمستفتي (241).

([23])صفة المفتي والمستفتي (251).

([24])أدب المفتي والمستفتي (141).

([25]) ينظر: صفة المفتي والمستفتي (265).

([26]) مريم 59

([27]) الأعراف 169

([28]) الفوائد (156-157).

([29]) صفة المفتي والمستفتي (140).

([30]) رواه أحمد في مسنده(7899).

([31]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/94).

([32]) شرح رياض الصالحين (2/149-151).