هدي الصحابة في علاج الإرهاب [1]


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

لقد واجه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانهم تحديات الإرهاب والتطرف من قبل الفئات الضالة، وعاصروا ما حدث من تسلُّل الفكر التكفيري إلى بعض العقول وهم ليسوا بصحابة، وما جرهم ذلك إلى استحلال الدماء والأموال والأعراض، فوقفوا بالمرصاد لهذه المعتقدات الخطيرة والمواقف العدوانية.

 

وبذلوا الوسع في اجتثاث هذا الجزء الغريب عن جسد الأمة، فقام علماء الصحابة يحاجونهم بالكتاب والسنة، وينشرون المعتقدات السليمة التي تبين سماحة الإسلام ووسطيته، ويعلون القيم الحقيقية الأصيلة التي تحفظ على الأمة وحدتها واجتماعها واستقرارها.

 

ولم يزل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يحاول ثني الخوارج عن باطلهم، ويحاورهم ويراسلهم ويناصحهم ويتلطف معهم في العبارات، كلُّ ذلك حقناً للدماء ولعلهم يرجعون إلى صوابهم، بل أرسل إليهم ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، الإمام المفسِّر الجليل، فناظرهم ودفع شبههم وأزال اللَّبس من أذهان المغرَّر به منهم، وحاجَّهم بأدلة الكتاب والسنة، ونَقَض زيف ما كانوا عليه من الغلو والتشدد والتكفير، فقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، أرحم الناس بالخلق، وأحرصهم على هداية من ضلَّ الطريق.

 

ولعل قصة المناظرة المشهورة بين ابن عباس والخوارج من أهم المصادر التي يستلهم منها علاج الإرهاب والتطرف، حيث سنقف مع أربع فقرات منها لنعلق عليها بما يتيسر:



الفقرة الأولى: قول ابن عباس رضي الله عنهما: «خرجتُ إليهم (أي إلى الخوارج)، ولبستُ أحسن ما يكون من حُلَل اليمن، فأتيتهم وهم مجتمعون في دارهم، فسلَّمتُ عليهم، فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، فما هذه الحُلَّة؟ قال: قلت: ما تعيبون عليَّ؟! لقد رأيتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ ما يكونُ من الحُلَل، وقرأتُ قول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}».

 

أراد هنا ابن عبَّاس رضي الله عنهما بفقهٍ دقيقٍ وحكمةٍ عاليةٍ أن يَلفت انتباه الخوارج بادئ ذي بدءٍ إلى أمر مهم، وهو أنَّ ما هم عليه من التنطُّع والغلو والتقشُّف المبالَغ فيه مجانِبٌ للصواب، وأن التجمُّل والتزيُّن وارتداء الحلل الجميلة لا ينافي الزهد الشرعي كما يتوهمون، ولهذا احتجَّ عليهم في ذلك بالنص القرآني والهدي النبوي، وذلك ليكسر من حدَّة الغلوِّ في نفوسهم، ويهيِّئهم لقبول الحق والرجوع عن تشددهم، فإن أساس شبهتهم من جهة الغلوِّ والتشدُّد، فيكون ذلك كالتوطئة بين يدي المناظرة.

 

الفقرة الثانية: قول ابن عباس، رضي الله عنهما، في وصف الخوارج: «دخلتُ على قومٍ لم أر قطُّ أشدَّ منهم اجتهاداً، جباههم قَرِحَةٌ من السجود، وأياديهم كأنها ثَفِنُ الإِبل (أي أنَّ جلود أكفِّهم غَلُظَت من طول السجود كغلظ رُكَب الإبل)، وعليهم قُمُصٌ مُرَحَّضة (أي باليةٌ من كثرة الاستعمال والغسل)، مُسَهَّمةٌ وجوههم (أي متغيِّرٌ لون وجوههم) من السهر».

 

وهنا يبيّن لنا ابنُ عبَّاس، رضي الله عنهما، في هذه الفقرة ما كان عليه الخوارج من شدة العبادة والزهادة، وأنهم بسبب ضعف حصيلتهم العلمية وقلة تفقُّههم في الدين وابتعادهم عن علماء الصحابة الربانيين واغترارهم بقرَّائهم الذين جهلوا حقائق الدين، بسبب ذلك وقعوا في الغلو في التعبُّد، والتشدد في الدين، وتبنِّي آراء متطرفة أودت بهم إلى التكفير وسل السيوف الظالمة باسم الإسلام زوراً، وفي ذلك تنبيهٌ لكلِّ عاقل لئلاَّ يغترَّ من أحدٍ بكثرة العبادة والتقشُّف ورفع الشعارات الرنانة ما لم يكن على جادة الكتاب والسنة.

 

الفقرة الثالثة: قول ابن عباس، رضي الله عنهما، للخوارج: «أتيتكم من عند صحابة النبي، صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، لأبلِّغكم ما يقولون، فعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بالوحي منكم، وليس فيكم منهم أحد».

 

وهنا ينبّه ابن عبَّاس، رضي الله عنهما، الخوارج إلى فضل الصحابة، رضي الله عنهم، ولزوم اتباعهم، وأن التشدد الذي عليه الخوارج أمر دخيل على الإسلام، ومخالفٌ لهدي الصحابة، رضي لله عنهم، ولهذا دلّل على كون فكر الخوارج دخيلاً بأنه ليس فيهم من الصحابة أحد، فكأنه يقول لهم: ألا تدلُّ مخالفتكم لمن هو أعلم وأتقى وأورع منكم ومن زكاهم الله ورسوله على أنكم مخطئون ضالون؟!

 

الفقرة الرابعة: قول ابن عباس، رضي الله عنهما، للخوارج : «أرأيتم إن قرأتُ عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيِّه، صلى الله عليه وسلم، ما يردُّ به قولَكم أترضون؟».

 

وفي هذه الفقرة تنبيهٌ لحملة العلم الشرعي ليتسلَّحوا بأدلة الكتاب والسنة، ويردوا بها الشبهات المضلِّلة، فإن الخطاب الديني المنحرف لا يُدمغ إلا بالخطاب الديني القويم.

 

ثم بدأت المناظرة بين ابن عباس، رضي الله عنهما، والخوارج، فكانوا يعرضون شبهاتهم، وكان يفنِّدها بالعلم الشرعي الدامغ الذي لا مدفع فيه من الحجة كما يقول الحافظ ابن عبد البر، رحمه الله، حتى رجع من الخوارج فئةٌ كثيرةٌ من المغرَّر بهم والمخدوعين، جاء في روايةٍ أنهم ألفان، وفي روايةٍ أخرى أنهم أربعة آلاف، كلُّهم تائب، وبقيت باقيةٌ من الذين عاندوا وكابروا.

 

فماذا فعل هؤلاء؟ وكيف تعامل معهم عليٌّ رضي الله عنه؟ وما هي الدروس المستخلصة من ذلك؟ هذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم بإذن الله تعالى.