وفاةُ النبيِّ ﷺ


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

   الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خاتم النبيين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله. وبعد،،

مقدمـــة :

   قال صلى الله عليه وسلم: " إذا أصيب أحدكم بمصيبةٍ فليذكرُ مصيبته بي؛ فإنَّها أعظم المصائب "([1]).  

 * وقال أيضاً: " يا أيها الناس أيُّما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبةٍ فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تُصيبه بغيري؛ فإنّ أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبةٍ بعدي أشد عليه من مصيبتي "([2]).

* يطلب منّا صلى الله عليه وسلم أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه، وبذلك تهون المصائب والخطوب، فلو فقد المسلم أبويه الحبيبين فليذكر وفاته صلى الله عليه وسلم، ولو فقد زوجته أو ابنه أو عزيزاً عنده فليذكر وفاته صلى الله عليه وسلم فتهون عليه المصائب، كيف لا وهو القائل: " لا يؤمنُ أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدهِ ووالده والناس أجمعين "([3]) .

كيف نوجد هذا الإحساس في نفوسنا؟

هذا هو موضوع درسنا اليوم.

 

اصبر لكلِّ مصيبةٍ وتجلَّـدِ            واعلم بأنّ المرءَ غيرُ مخلَّدِ

فإذا ذكرتَ مصيبةً تسلو بها               فاذكر مُصابَك بالنبيِّ محمدِ

                                              (أبو العتاهيــة)

      نذكرُ وفاته صلى الله عليه وسلم؛ لنذكِّرَ أنفسنا بهذا الحدث الجلل والمصاب الأعظمِ، ليكون تسليةً لأهل المصائبِ والمحن، وتذكيراً لأهل الغفلة والركون، وقطعاً لآمال مَن جعلوا هذه الدنيا داراً للبقاء والخلود.

  نذكر وفاته صلى الله عليه وسلم؛ لنزداد شوقاً إليه إلى أن نلقاه، ولنزداد شوقاً لمعرفة سنته وهديه لنعمل بها، ولنزداد حباً لسنته فنتمسك بها، وندعو الناس إليها ونصبر عليها.

وصف وفاته صلى الله عليه وسلم:

         روى الترمذي في الشمائل المحمديةِ وغيره عن سالم بن عبيد t قال: ( أُغميَ على رسول الله في مرضه، فأفاق فقال: حضرتِ الصلاةُ؟ فقالوا: نعم، فقال: مُرُوا بلالاً فليؤذن، ومُرُوا أبا بكرٍ أن يُصلي بالناس، قال: ثم أُغمي عليه فأفاق ( فقال مثل قوله )، قال: ثم أُغمي عليه فأفاق ( فقال مثل قوله )، قال: ثم إن رسول الله وجد خِفةً فقال: انظروا لي مَن أتّكئ عليه، فجاءت بريرةُ ورجلٌ آخر فاتَّكأ عليهما، فلما رآه أبو بكر ذهب ليَنكُص، فأومأ إليه أن يثبت مكانه حتى قضى أبو بكر صلاته، ثم إن رسول الله قُبض، فقال عمر: ( والله لا أسمعُ أحداً يذكر أن رسول الله قُبض إلا ضربته بسيفي هذا ) قال: فأمسك الناس، فقالوا: يا سالم انطلق إلى صاحب رسول الله فادعه، فأتيتُ أبا بكر وهو في المسجد، فأتيته أبكي دهشاً، فلما رآني قال لي: أقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: إن عمر يقول: لا أسمعُ أحداً يذكر أن رسول الله قُبض إلا ضربته بسيفي هذا، فقال لي: انطلق، فانطلقتُ معه، فجاء والناس قد دخلوا على رسول الله، فقال: أيها الناس أفرجوا لي، فأفرجوا له، فجاء حتى أكبَّ عليه ومسّه فقال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ٣٠﴾ [الزُّمَر:30] ثم قالوا: يا صاحب رسول الله، أقُبض رسول الله؟ قال: نعم، فعلموا أنه قد صدق، قالوا: يا صاحب رسول الله، أنُصلي على رسول الله؟ قال: نعم، قالوا: وكيف؟ قال: يدخل قومٌ فيصلون، ثم يخرجون، ثم يدخل قومٌ حتى يدخل الناس، قالوا: يا صاحب رسول الله، أيُدفن رسول الله؟ قال: نعم، قالوا: أين؟ قال: في المكان الذي قبضَ الله فيه روحه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكانٍ طيب، فعلموا أن قد صدق)([4])

وفي صحيح البخاري: (لما توفى رسول الله، وقام عمر فقال مقالته، أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجَّى في ناحية البيت عليه بُرد حِبرة، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أكبَّ عليه فقبَّله وبكى، ثم قال: ( بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتةُ التي كُتبت عليك فقد مِتّها )([5])  

وعند البخاري: (خرج أبو بكر، وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمرُ أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أمَّا بعد: مَن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤﴾[آل عمران:144] قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعُقرتُ حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويتُ إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمتُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات ) هذا موقف أبي بكر الصديق وشجاعته عند أعظم مصيبة مرت عليه، أما عمر فاهتز وأنكر، ولم يتمالك نفسه من الغضب والصدمة، ولكنه تراجع بعد ذلك، وأما عثمان فقد خرس ولم يتكلم بشيء من البكاء، وأما عليٌّ فقد استخفى في بيته من الحزن والألم، واضطرب الأمر على الصحابة، فكشفه الصديق بهذه الآيات التي تلاها )([6]).

قالت عائشة -رضي الله عنها-: ( دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستَن به، فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره ، فأخذتُ السواك فقضمتُه ونفضتُه وطيبتُه، ثم دفعتُه إلى النبيِّ فاستنّ به، فما رأيتُ رسول الله استنّ استناناً قط أحسن منه، فما عدا أن فرغَ رسول الله رفع يده أو إصبعه ثم قال: " في الرفيق الأعلى" ثلاثاً ـ ثم قُبض )([7]).

قالت عائشة -رضي الله عنها-: ( كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم رَكْوة أو علبة فيها ماء فجعل يُدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى .. حتى قُبض ومالت يده )([8]).  

قال أنس رضي الله عنها: لما ثقل رسول الله جعل يتغشّاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال لها: ( ليس على أبيكِ كربٌ بعد اليوم ) فلما مات قالت: يا أبتاه .. أجاب رباً دعاه، يا أبتاه .. جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه .. إلى جبريل ننعاه ) فلما دُفن قالت لأنس: كيف طابت أنفسكم أن تُحثوا على رسول الله التراب؟ )([9]).

 

جـزى اللهُ عنّا كلَّ خيرٍ محمـداً

 ***

فقـد كان مهديـاً وقد كان هاديـاً

 

وكـان رسول الله روحاً ورحمةً

 ***

ونـوراً وبرهانـاً من الله باديـا

 

وكـان رسول الله بالخير آمـراً

 ***

وكان عن الفحشاء والسوء ناهياً

 

أيُنسـى أبـَرُّ الناس بالناسِ كلِّهم

 ***

وأكرمُهم بيتـاً وشعبـاً وواديـاً

 

أيُنسى رسول الله أكرمُ مَن مشى

 ***

وآثـارُه بالمسجديـن كمـا هي

 

تكَـدَّرَ من بعـد النبـيِّ محمـدٍ

 ***

عليـه سلامٌ كلُّ ما كان صافيـاً

 

إذا المرءُ لم يلبسْ ثياباً من التُّقى

 ***

تقلّـب عُرياناً وإن كان كاسيـا

 

وخيـرُ خصالِ المرءِ طاعةُ ربِّهِ

 ***

ولا خيـر فيمَن كان لله عاصيـاً

*

يا نفـسُ لا بالمـوت تَعتبـري ولا

 ***

تُصغي لقول الدهر حين يقول

 

يا نـفسُ بعد المصطفى أفَتطمعـين

 ***

في الخُلـدِ؟ كلاَّ، ما إليه سبيـلُ

 

يا نـفسُ كـم تعصين إلهك جهـرةً

 ***

والقلـب مِنِّي بالذنوبِ عليـلُ

 

يا نـفسُ كـم تعصين وربـُّك ناظرٌ

 ***

ويرى فِعالَكِ والدُّجى مسدولُ

 

من بعد موت المصطفى هل لامرئٍ

 ***

في الدهـر يوماً للبقاء سبيـلُ؟

أبو العتاهية

في غُسل رسول الله صلى الله عليه وسلم:

اختلف الصحابة في كيفية تغسيله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: ( لمَّا أرادوا غسل النبي قالوا: ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا أو نُغسله وعليه ثيابه؟ فلمَّا اختلفوا، ألقى الله عليهم النوم، فكلمهم مكلمٌ من ناحية البيت لا يدرون مَن هو: أن اغسلوا رسول الله وعليه ثيابه، فغسلوه وعليه قميصُه، يصبون الماء فوق القميص . قالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرتُ ما غسّله إلا نساؤه )([10]).

 قال الألباني في أحكام الجنائز: وفي مرسل الشعبي أنه غسّل النبي مع عليٍّ الفضلُ بن عباس وأسامةُ بن زيد. ([11])

 قال عليٌّ t: ( غسّلتُ رسول الله فجعلتُ أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئاً، وكان طيباً حياً وميتاً ) ([12]).

 وكُفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثوابٍ بيض سحوليةٍ، ليس فيها قميصٌ ولا عمامة، كما في الحديث المتفق عليه عن عائشة([13]).

 قال ابن كثير: صلَّى الصحابة على رسول الله فُرادى، لم يؤمُّهم أحدٌ عليه، وهذا أمر مجمع عليه لا خلاف فيه.([14])

واختلف الصحابة في مكان دفنه صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة وابن عباس: لما قُبض رسول الله وغُسّل اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: ما نسيتُ ما سمعت من رسول الله يقول: ( ما قبض الله نبياً إلا في الموقع الذي يحب أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه ) ([15]).

 

ماذا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وجلت القلوب، ولكن ما العمل؟

العمل العملُ بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، علينا بمبدأ التمحيص وعدم تلقي غير الثابت من الأحاديث، علينا أن ننظر عمّن نأخذ ديننا، علينا بالعلم ومجالسة العلماء، علينا بالأخذ بوصية عمر بن عبد العزيز حيث قال: ( انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، وإني خفت زوال العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم مَن لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا )([16]) .

 فدروسُ العلم تجعلنا نصحب النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الشاعر:

            أهل الحديثِ همُ أهل الرسول، وإن         لم يصحبوا نفسَه أنفاسه صَحبوا

فلنصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، فلنصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيامه، فلنصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلوكه، فلنصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في آدابه وأخلاقه وفي كل هديه، ولا نقبل بعد القرآن إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فحديثه فيه الشفاء وفيه النجاة؛ فيه النجاة من التعصب لأحد أو مذهب أو حزب أو غير ذلك.

وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.


 

([1]) السلسلة الصحيحة: (1106)، رواه مالك والطبراني.

([2]) صحيح سنن ابن ماجه: (1300)

([3]) صحيح مسلم: (44)، متفق عليه.

([4]) صحيح ابن ماجه: (1027)، مختصر الشمائل: (333)

([5]) صحيح البخاري: (4452)

([6]) صحيح البخاري: (4454)

([7]) صحيح البخاري: (4451)

([8]) صحيح البخاري: (4449)

([9]) صحيح البخاري: (4462)

([10]) صحيح أبي داود: (3141)، رواه الحاكم وابن حبان والبيهقي وغيرهم.

([11]) أحكام الجنائز: (51)

([12]) أحكام الجنائز: (50) رواه الحاكم وابن ماجه.

([13]) صحيح مسلم: (941)

([14]) البداية والنهاية: (5/ 232)

([15]) أحكام الجنائز: (127)، صحيح الترمذي: (1018)

([16]) صحيح البخاري معلقاً بصيغة الجزم، كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم.