هل الدماء نجسة أم طاهرة؟


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه من المسائل التي تهم المسلم في حياته وعبادته لأنها تتعلق بالطهارة والنجاسة, قال الإمام النووي رحمه الله: (أجمع العلماءُ لا اختلافَ بينهم على نجاسة دم الحيض للأدلةِ الصريحة في ذلك).

قال الشوكاني رحمه الله: (وأما سائرُ الدماء فالأدلة فيها مختلفة مضطربة....)([1]).

فمنهم من قال بنجاسة الدماء وهم الجمهور كما قال النووي رحمهم الله.

 وبعضهم فرق بين القليل والكثير.

ومنهم من قال بطهارة الدماء وهم الشوكاني وصديق حسن خان و الألباني والعثيمين في الشرح الممتع وغيرهم رحمهم الله.

أولًا:  القول بنجاسة الدماء وأدلته:

قال النووي رحمه الله: (أنه لم يعلم اختلاف في مسألة الدمِ إلا ما يحكي عن بعض المتكلمين من القول بطهارة الدم ....)([2]) واستدلوا بما يلي:

1-        قوله تعالى: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[الأنعام:145].
قالوا: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) أي الأشياء الثلاثة ومنها الدم, ورجس بمعنى نجس.

قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) }[المائدة:3].

2-          فالدم حرام فهو نجس.

3-        الأحاديث الآمرة بتطهير دم الحيض، منها ما رواه البخاري رحمه الله عن أسماء رضي الله عنها قالت: سألت امرأة رسول الله فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدمُ من الحيضة كيف تصنع؟ فقال رسول الله (إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بماء ثم لتصلي فيه([3]))، قالوا: وهذا الحديث يدل على نجاسة مطلق الدماء، وذلك لعدم ورود التفريق (لا تسوية بينهما في الأحكام) بين دم الحيض وسائر الدماء.

4-         قال ابن المنذر رحمه الله: (حكم سائر الدماء كحكم دم الحيض لا فرق بين قليل ذلك وكثيره)([4]).

5-        وعن معاذة رضي الله عنها أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها عن نضح الدم في الثوب فقالت: (اغسليه بماء فإن الماء له طهور)([5]) ، قالوا: هذا نص من عائشة رضي الله عنها على أن الدم نجس لأنه عام.

6-        ما ورد عن بعض السلف في الأمر بغسل الدماء كابن عمر رضي الله عنه وأنه كـان إذا احـتجم غسل أثر محاجمه/خ 1 تعليقاً/280، وعن ابن أبي شيبة عن عطاء قال (اغسل ما أصابك من دم الصيد) وعن سليمان بن طرخان قال (يُغسل قليلُ الدمِ وكثيرة) .

ثانياً:  القول بطهارة الدماء غير دم الحيض, وهو الراجح:

قال الشوكاني رحمه الله: (الأصلُ طهارةُ الدَم لعدَمِ وجودِ دليلٍ ناهضٍ يدل على نجاستِه) قال الألبانُي رحمه الله: (أما سائرُ الدماءِ فلا أَعلَمُ نجاستِها)([6]) .

أما الأدلة على طهارة الدماء غير دم الحيض، فهي:

1-         مباشرتُه صلى الله عليه وسلم لسَلتِ الدم عند إشعارِه بُدنَتَهُ بيدهِ الكريمةِ([7]) .

2-        أمُره صلى الله عليه وسلم بتركِ دماءِ الشهداءِ عليهم, وعدمِ غسلِها من أبدانِهِم وثيابِهِم([8]) عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبُي صلى الله عليه وسلم (ادفُنوهم في دمائهِم)، فتركهم في دمائِهِم.

والأشياءُ النجسةُ لا يحل مباشرتُها ولِهذا قال في البولِ (إن عامةَ عذاب القبِر في البول) فلو كان الدمُ نجساً لأمَرَ بَغسلِه، ولم يأمُر فدل على طهارتِه.

3-        ما رواه البخاري رحمه الله تعليقاً (1/280) (عن جابر رضي الله عنه أن النبَي  صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرمى رجلٌ بسهم فَنَزَفهُ الدُم فَركَعَ وسَجَدَ ومضى في صلاتِه)([9]).

الأنصاري لابَسَ الدمَ وصَلى به، فهو طاهر، قال الألباني رحمه الله: (ومن الظاهر أن النبَي عَلِم بها ولم يُنقل أنه أخبرهُ بأن صلاتهُ بطَلَت) .

ومن الأدلة:

-      أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يمنع من المسجد أن يجلس فيه الجريحُ والمستحاضةُ، فلو كان نجساً لأمرهم بالتَنزه من الدَّم.

-      جواز وطء المستحاضة ودمها ينزل، فلو كان الدمُ نجساً لحرم جماعها كما حَرم حال الحيضِ.

-      أنَّ المؤمن لا ينجس فيكون دمه طاهراً.

4-             ما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه نحر جزوراً فتلطخَ بدمها وفَرثها ثم أقُيمت الصلاُة ولم يتوضأ، رواه عبد الرزاق (1/125) وصححه الألباني رحمه الله في تمام المنة ص 52، والصحيحة (300).

5-              قول الحسن البصري رحمه الله: (ما زال المسلمون يُصلونَ في جِراحاتِهِم) البخاري معلقاً بصيغة الجزم - كتاب الوضوء، وهذا يدل على طهارة الدم.

6-             وروى مالك رحمه الله: (وكان سالمُ بن عبدالله يُخرِج من أنفه الدمَ، فيمسحُهُ بأصابِعِه ثمَ يَفتُلُهُ ثم يُصَلى ولا يتوضأ, وعن سعيدِ بنِ المسيبِ مَثلهُ)([10]).

7-             كان الصحابةُ رضي الله عنهم يخوضون المعارك فَتَتَلوثُ بالدماءِ أبدانُهم وثيابهُم، ولم يُنقَل أن النبَي صلى الله عليه وسلم أمرهم بَغسل ذلك, بل ثبت أنهم كانوا يُصلون بدمائهم.

8-             في مصنف ابن أبي شيبة رحمه الله عن حصين أن سأل إبراهيم  النخعي عن الرجل في ثوبه الدمُ وهو في الصلاة، فقال (إن كان كثيرا فليق الثوبَ عنه، وإن كان قليلا فليمض في صلاتهِ).

9-             في مصنف عبد الرزاق رحمه الله عن طاوس أنه سُئل عن دم البراغيثِ في الثوب فقال (لا بأس به).

10-       الأصل طهارة الأعيانِ ولا دليل على نجاسة الدم والأصلُ براءة الذمةِ إلا لنص: قال الشوكاني رحمه الله: (الأصل طهارة الدم لعدم وجود دليل ناهض يدل على نجاسته.....) ([11]).

11-        (ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن صَلى لما طُعن وجُرحهُ يَثعبُ دماً)([12].

12-  ذكر البخاري في صحيحه (فتح 1/280) آثاراً منها:

قال طاوس ومحمد بن علي عطاء وأهل الحجاز: ليس في الدم وضوء وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها الدمُ ولم يتوضأ، وقال ابنُ عمر والحسن فيمن يحتجم: ليس عليه إلا غَسلُ محاجمه، قالوا: فخروج الدم لا ينقضُ الوضوء بخلاف غيره من البول والغائط فإنه ناقض للوضوء لأنه نجس.

وأم الجواب على أدلة القائلين بنجاسة الدم فهي:

·       أما عن قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ )  [المائدة:3].  فلا تلازم .بين التحريم والنجاسة.

·       وأما عن قوله (قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) }[الأنعام:145]. فالآية مسوقة للتحريم ولم تسق لبيان الطهارة والنجاسة بل لبيان ما يحل ويحرم، وكذلك فإن قوله (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) الضمير راجع إلى لحم الخنزير فقط، وأن معنى (رجس) أي حرام أو قذر أو عذاب أو نجس.

·       وأما القول بالتسوية بين دم الحيض وغيرها من الدماء: فلا دليل على ذلك من السنة والأصل براءة الذمة إلا لنص, كما أنه مخالف لما ثبت في السنة في حديث الأنصاري رضي الله عنه الذي صلى وهو يموج دماً, وكذلك ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه نحر جزوراً فتلطخ بدمها وصلى به.

·       وكذلك حمل نجاسة دم الحيض على سائر الدماء لا يصح للفارق بينه وبينها في اللون والرائحة فضلاً عما يتعلق به من أحكام.

·       وأما دعوى الإجماع من النووي رحمه الله وغيره فهي منقوضه (بنقله نفسه في المسألة في المجموع وقال أنه قول الجمهور ثم ذكر المخالفين لهم) وبما ورد آنفا عن السلف، كذلك بقول ابن رشد رحمه الله في البداية (1/62) (.... واختلفوا في دم السمك...).

وهذا يدل على اختلافهم في نجاسة الدماء، فلم يصح الاستدلال بالإجماع في هذه المسألة، بل وجب الرجوع فيه إلى النص، والنص إنما دل على نجاسة دم الحيض، وما سوى ذلك فهو على الأصل وهو الطهارة، فلا يخرج منه إلا بنص تقوم به الحجة ولا نص على النجاسة مطلقاً.

·         وأما الآثار عن السلف فلا تصريح فيها بنجاسة الدم، وأن مجرد غسل الدم لا يعني نجاسته.

·       فترجع طهارة الدماء عدا دم الحيض فإنَّه نجس بالنًّص والإجماعِ.


 

([1]) نيل الأوطار (18)

([2]) المجموع (2/577)

([3]) صحيح البخاري (307)

([4]) ابن المنذر (2/147)

([5]) الدارمي بإسناد صحيح  (1/191)

([6]) سيل الجرار (1/44)

([7]) مسلم (912)

([8]) البخاري (1436)

([9]) سنن أبي داود  (193)

([10]) مالك في الموطأ (1/39)

([11]) السيل الجرار (1/44)

([12]) فتح الباري (1/281)