شرف أهل الحديث


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

مقدمة:

فإن بعض الناس يقول: إن دعوة أهل الحديث إلى الأخذ بالكتاب والسنة بدون تقليد أحد معين هي التي جرأتهم على الاجتهاد في الشريعة والاستغناء عن تقليد المذاهب الأربعة والتمذهب بها. ويقول أيضاً: إن أهل الحديث لم يكونوا في زمن الصحابة ولا في زمن التابعين ولا تابع التابعين، ولم يكن أحد من السابقين متسمياً بأهل الحديث في زمن السلف الصالح، ومذهب أهل الحديث لا شك أنه مذهب خامس.

قلت: ولا شك أن قائل هذا القول ثلاثة من الناس:

(1)      إمـا جاهل بتاريخ أهل الحديث ومن هم؟ وما هي علاماتهم وما هو فضلهم؟

(2)      وإما مبتدع ضال لا يريد بهم إلا سوء الظن لينفر الناس عنهم، ويريد به قطع الطريق عن وصولهم إلى الاهتداء بالكتاب والسنة.

(3) وإما صاحب رأي متعصب لرأيه وهواه أو لمن يقلده.

أما الصنف الأول فهم الجهال العوام: الذين يجرون خلف كل ناعق وهم أعداء لما يجهلون.

وأما الصنف الثاني: فهم المبتدعة بأنواعهم في كل زمان ومكان: وهؤلاء قال فيهم الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله (ت489): (قد لهج بذم أصحاب الحديث صنفان: أهل الكلام وأهل الرأي، فهم في كل وقت يقصدونهم بالثلب والعيب وينسبونهم إلى الجهل وقلة العلم. وفي الحقيقة ما ثلموا إلا دينهم ولا سعوا إلا في هلاك أنفسهم، لأن الحق عزيز وكل مع عزته يدعيه. نعم إن على الباطل ظلمة وان على الحق نوراً، ولا يُبصر نور الحق إلا من حشى قلبه بالنور، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور، قال: فالمتخبط في ظلمات الهوى لا يوفق للعودة إلى الحق، كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون)([1]).

قال الأوزاعي رحمه الله (ليس من صاحب بدعة تحدثه عن رسول الله بخلاف بدعته بحديث إلا أبغض الحديث)([2]).

قال أحمد بن سنان القطان رحمه الله (ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه)([3]).

وقال قتيبة بن سعيد رحمه الله (إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث فإنه على السنة ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع)([4]).

قال عبد القادر الجيلاني رحمه الله (وعلامة الرافضة تسميتهم أهل الحديث ناصبة، وكل ذلك عصبية بهم وغياظ لأهل السنة، ولا اسم لهم إلا اسم واحد وهو أصحاب الحديث ولا يلتصق بهم ما لقبهم به أهل البدع)([5]).

وأما الصنف الثالث: فهم أهل الرأي المتعصبة لآراء الرجال: وقد ذكرهم الإمام أبو مظفر السمعاني رحمه الله(ت489) في الكلام السابق عن الصنف الثاني، وهؤلاء قال عنهم العلامة أحمد الدهلوي في كتابه (تاريخ أهل الحديث): (فإنك إذا قلت لواحد منهم: جاء الحديث الصحيح في تحريم القتال بمكة، لبادر وقال: في مذهبنا جواز القتال بمكة، وإذا قلت: جاء الحديث الصحيح بجواز وضع خشبة على جدار الجار، لقال: مذهبنا عدم الجواز، وإذا قلت: جاء الحديث الصحيح أن وقت الظهر ما لم يحضر العصر، لقال: مذهبنا إلى غروب الشمس، وإذا قلت: جاء الحديث الصحيح في صحة صيام من الذي أكل ناسياً في رمضان، لبادر وقال: عندنا بطل صومه ولزمه القضاء، وإذا قلت له: جاء الحديث الصحيح المتفق عليه: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين» لبادر يقول: في مذهبنا لا يجوز ركعتان في أثناء الخطبة يوم الجمعة. وإذا قلت له: جاء الحديث المتفق عليه في إلزاق المنكب بمنكب صاحبه، لبادر أن يقول: في مذهبنا لا يجوز هذا وعلى المصلي أن يبعد قدمه عن صاحبه بقدر أربعة أنامل في الصلاة) انتهى.

قلت: وفي أهل الكلام وأهل الرأي، وردت أبيات عن السلف، نذكر منها:

قال أبو مزاحم رحمه الله:

أهل الكلام وأهل الرأي قد جهلوا   ***   لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا
علم الحديث الذي ينجو به الرجل   ***   عنهـا إلى غيرهـا لكنهم جهلـوا

وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله:

تمسك بحبــل الله واتبع الهدى   ***   تمسك بحبــل الله واتبع الهدى
ولــذ بكتاب الله والسنن التي   ***   أتت عن رسول الله تنجو وتربح
ودع عنك آراء الرجال وقولهم   ***   فقـول رسول الله أزكـى وأشرح
 

قلت: فالذين يذمون أهل الحديث ثلاثة: جاهل ومبتدع وصاحب رأي.

أما أهل الحديث فهم أهل الحق وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهم الغرباء، وهم الفرقة الناجية، وهم الطائفة المنصورة، وهم أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أهل السنة والجماعة والسلف الصالح. فما هي علاماتهم وخصائصهم؟ وما هي البراهين على صحة منهجهم؟

للإجابة على هذه التساؤلات لابد من معرفة تاريخ أهل الحديث:

لا شك أن المسلمين في القرآن والسنة هم رسول الله وصحابته في أول الأمر، ولما ظهر أهل البدع من الخوارج وغيرهم في أواخر عهد الصحابة، قال ابن عباس رضي الله عنه: (أما نحن فأهل السنة وهم الجماعة الأولى للمسلمين وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وهم السلف الصالح أيضاً).

وحينما ظهر أصحاب الرأي الذين بالغوا في الأخذ بالآراء وقدموا القياس على النصوص في بداية القرن الثاني، قال أهل السنة نحن أهل الحديث، وهذا مشهور عن عبد الله بن المبارك التابعي الجليل وعن علي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهم رحمهم الله.

وسموا أهل الحديث لتتبعهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفظها والعمل بها وتقديمها على كل قول وتمييز صحيحها من ضعيفها.

قال ابن قتيبة رحمه الله (فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من جهته، وتتبعوه من مظانه، وتقربوا إلى الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله وطلبهم لآثاره، وأخباره براً وبحراً وشرقاً وغرباً)([6]).

قال الشافعي رحمه الله، (القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ([7]).

أصحاب الحديث هم الفرقة الناجية: قال صلى اله عليه وسلم: «تفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة» فذكر الحديث لأحمد بن حنبل رحمه الله فقال: (إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم!)([8]).

أهل الحديث هم الطائفة المنصورة: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خذلهم»([9]). قال الترمذي رحمه الله بعد رواية الحديث (قال محمد بن اسماعيل البخاري: قال علي بن المديني: هم أهل الحديث)

قلت: روى الخطيب رحمه الله في شرف أصحاب الحديث بسنده إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله قال: هم عندي أصحاب الحديث. وقال أحمد بن سنان ر حمه الله: (هم أهل العلم وأصحاب الآثار).

أهل الحديث أكثر الناس صلاة على رسول الله e: قال أبو نعيم، شيخ البخاري، رحمهم الله (هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها، لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله e أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخاً وذكراً)([10]).

قال سفيان الثوري رحمه الله(لو لم يكن لصاحب الحديث فائدة إلا الصلاة على رسول الله صلى الله علينه وسلم فإنه يصلي عليه ما دام في الكتاب) ([11]).

أهل الحديث هم أهل الحق: من قال بذلك من أهل العلم؟

قال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله(ت489) (مما يدل على أن أهل الحديث على حق، أنك لو طالعت كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون منه على طريقة لا يحيدون عنها، قولهم في ذلك واحد وفعلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضاً بل يرتقون إلى التكفير)([12]).

قال هارون الرشيد رحمه الله: (طلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث)([13]).

وساق الخطيب بسنده إلى أحمد بن سنان رحمه الله قال: (كان الوليد الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم)([14]).

قال الإمام الشافعي رحمه الله (عليكم بأهل الحديث فإنهم أكثر صواباً من غيرهم)([15]).

قال الزعفراني رحمه الله من أكابر أصحاب الشافعي: (ما على وجه الأرض قوم أفضل من أصحاب الحديث يتبعون أثار النبي صلى الله عليه وسلم)([16]).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اعتقاد أهل الحديث هو السنة المحضة لأنه هو الاعتقاد الثابت عن النبي e)([17]). وقال بعد ذلك (علماء أهل الحديث أعلم بمقاصد الرسول من أتباع الأئمة بمقاصد أئمتهم) ثم قال (هم أجل قدراً من هؤلاء وأعظم صدقاً وأعلاهم منزلة وهم من أعظم الناس صدقاً وأمانة وعلماً)([18]).

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)  [الإسراء:71] ، قال نقلاً عن السلف: هذا أكبر الشرف لأهل الحديث لأن إمامهم النبي;صلى الله عليه وسلم)([19])

قد علمنا مما سبق أن أهل الحديث هم أهل الحق، فما هي البراهين على صحة معتقدهم؟

البراهين على صحة منهج أهل الحديث (مختصر من كتاب الدهلوي):

قد ثبت بالأدلة القطعية الصريحة أن أهل الحديث طائفة قديمة من يوم النبوة كان أولهم الصحابة رضي الله عنهم، وهذه بعض البراهين على صحة منهجهم.

1- قال صلى الله عليه وسلم: «نضر الله أمرأ سمع مقالتي هذه فوعاها، فأداها كما سمعها»([20]). فشهد لمن سمع الحديث ووعاه وأداه كما سمعه، بصحة ما أتى به عنه صلى الله عليه وسلم وجعلهم عدولاً.

إذ أمرهم بالتبليغ عنه بقوله: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» ، وشهد لهم أيضاً بأنهم قائمون منصورون بالحق إلى قيام الساعة في الحديث المتفق عليه. فهذه الأخبار منه صلى الله عليه وسلم من أعلام النبوة بصيانة الحديث وحفظه وتبليغه وعدالة ناقليه نقلاً صحيحاً تاماً.

وأول من قام بذلك الصحابة وهم أول من لقب بأهل الحديث في حياتهم وبعد مماتهم، فثبت بهذا البرهان أن طريقة طائفة أهل الحديث ليست بمذهب جديد بل هي أصل الأصول الذي كان عليه رسول الله وصحابته.

2- قال الشعبي التابعي الجليل، رحمه الله (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما حدثت إلا بما أجمع عليه أهل الحديث)([21])، وثبت أنه أدرك خمسمائة من الصحابة وسمع من ثمانية وأربعين منهم([22]) وأخذ العلم عنهم ولذا ذكرهم بلقبهم فهم أهل الحديث، وهذا فيه دليل واضح على أن الصحابة رضي الله عنهم، أول من لُقب بأهل الحديث إلى يومنا هذا.

3- أن جميع أهل البلاد التي افتتحها الصحابة كانوا متصفين بلقب أهل الحديث كما قال أبو منصور عبد القادر بن طاهر البغدادي رحمه الله (أن ثغور الروم والجزيرة والشام وأذربيجان كل أهلها كانوا على مذهب أهل الحديث وكذلك ثغور أفريقية الأندلس واليمن)([23]). فالفاتحون الصحابة نشروا المذهب الحق قبل ظهور التمذهب والفرق وبقي الناس عاملين بالحديث غير مقلدين في الدين حتى جاءت المذاهب والفرق فظهر أن مذهب أهل الحديث ليس بمذهب جديد بل هو أصل الأصول.

4- التابعون أخذوا علم الحديث عن الصحابة، اتصفوا به، وكان يُقال لهم في عصرهم: أهل الحديث وأصحاب الحديث قبل ظهور التمذهب والفرق:

*ذكر الذهبي رحمه الله أن الخليفة عبد الملك بن مروان أملى أربعمائة حديث على الإمام الزهري، فقال: أنتم أصحاب الحديث([24]).

* وذكر الخطيب رحمه الله في تاريخ بغداد قال: (موازين أصحاب الحديث من الكوفيين والمدنيين عبد الملك بن أبي سليمان وعاصم الأحول وعبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد الأنصاري)([25]) والمعلوم أن هؤلاء جميعاً من التابعين وقد حدثوا عن الصحابة، فالتابعون كان يقال لهم أهل الحديث في عصرهم.

5- أتباع التابعين أخذوا علم الحديث من التابعين وكانوا يتسمون بأهل الحديث، ويفخرون به ويفرحون، وهذه بعض أقوالهم:

·       قال يزيد بن هارون رحمه الله (أصحاب الحديث قد آذوني ـ يعني في القراءة ـ وإذا غابوا عني غموني)([26])

·       قال سفيان الثوري رحمه الله (الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض) وقال أيضاً (إن أهل الحديث لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم)([27]).

·       قال سفيان بن عيينة رحمه الله: (ما أرى طول عمري هذا إلا من كثرة دعاء أصحاب الحديث)([28])

·       قال أحمد بن حنبل، رحمه الله: (إن شعبة كان من أشد أصحاب الحديث)([29]).

مما سبق يتبين لنا ابتداء أهل الحديث من يوم النبوة والإسلام، فأولهم الصحابة والتابعون ولا يزال لقبهم أهل الحديث قرناً بعد قرن إلى قيام الساعة فلآخرهم كمثل أولهم، كما نقله الحافظ السيوطي على ما رواه المقدسي في كتاب الحجة بإسناد متصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في آخر أمتي قوماً يعطون من الأجر مثل ما لأولهم»([30])، فقيل لإبراهيم بن موسى: من هم؟ قال: أهل الحديث([31]).

6- إن الأئمة الأربعة، رحمهم الله، كانوا على مذهب أهل الحديث:

* فالإمام أبو حنيفة رحمه الله، كان على مذهب الحديث الصحيح، قال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه أصول الدين(1/313) (وأصل أبي حنيفة في الكلام كأصول أصحاب الحديث إلا في مسألتين فهو القائل، رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي)([32]) فثبت أن الإمام أبو حنيفة كان في العقائد والأصول وفي تحريم التقليد كمذهب أهل الحديث.

* والإمام مالك، رحمه الله، كان إمام أهل الحديث في عصره، قال الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه (1/59) (أئمة أهل الحديث مثل مالك بن أنس وشعبة وسفيان)

* والإمام الشافعي، رحمه الله، كان على مذهب أهل الحديث، قال النووي رحمه الله في ترجمة الشافعي: (ثم رحل إلى العراق ونشر علم الحديث وأقام مذهب أهل الحديث)([33]).

* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(ثم إن الإمام الشافعي، رحمه الله، أخذ عن مالك، رحمه الله، ثم كتب كُتب أهل العراق وأخذ مذهب أهل الحديث واختاره لنفسه)([34]) وروى الخطيب رحمه الله بسنده إلى الشافعي قال: (إذا رأيت رجلاً من أهل الحديث فكأني رأيت النبي حياً)([35])

* أما أحمد بن حنبل، رحمه الله، فهو إمام أهل الحديث بالاتفاق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة (4/143).

فثبت أن الأئمة الأربعة متفقون على وجوب اتباع الكتاب والسنة دون تقليد ولم يرضوا أن يتمذهب أحد بمذهبهم ولم يجيزوا التقليد في الدين.

* روى الحاكم رحمه الله بإسناد صحيح: كان الإمام أحمد يقول (لا تقلد مالكاً ولا الأوزاعي ولا النخعي، وخذ الأحكام من حيث أخذوا، من الكتاب والسنة)([36]).

* وروى الحاكم والبيهقي رحمهم الله عن الشافعي أنه قال للمزني: (لا تقلدني في كل ما أقول، لا حجة في قول أحد دون رسول الله)([37]).

*وروى الإمام ناصر السنة الفلاني رحمه الله في الإيقاظ صـ102 بإسناد متصل إلى الإمام مالك رحمه الله قال: (إنما أنا بشر أُخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه)

*وذكر الفلاني أيضاً صـ73 عن أبي حنيفة، رحمه الله، قال: (لا يحل لأحد أن يعمل بأقوالنا ما لم يعلم من أين قلنا) وفي قول الإمام صراحة أنه لا يباح لأحد أن يعمل بقول الإمام بغير أن يعلم دليل قوله.

فعلمنا مما سبق أن الأئمة الأربعة كانوا على منهاج من مضى قبلهم من أهل الحديث.

وقد يقول قائل: توجد أقوال منسوبة إلى الأئمة الأربعة وهي مخالفة للنصوص الصريحة؟ نقول له:

أولاً: هذه الأقوال إما أن تكون موضوعة عليهم منسوبة إليهم بالقصد والخطأ:

·       فقد ذكر في مذهب الشافعي أنه يقول بأن إتيان المرأة في دبرها حلال بالقياس وهذا كذب عليه، قال الربيع تلميذ الشافعي رحمه الله (والله الذي لا إله إلا هو لقد كذب ابن الحكم على الشافعي في ذلك)([38]).

·       وذكر عن مالك رحمه الله أنه أباح نكاح المتعة ومذهب مالك تحريم ذلك كما قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (10/12).

·       وذكر الخطيب رحمه الله في تاريخ بغداد (14/135) أن أبا حنيفة رحمه الله قال لأبي يوسف (ويحهم كم يكذبون علي في هذه الكتب ما لم أقل).

·       وقال ملا مين الدين الحنفي رحمه الله في دراسات اللبيب صـ56 (وليس كل ما يُنسب إلى الأئمة الأربعة وينقل في كتب مذهبهم ثابت النسبة إليهم، بل أكثر ذلك مما ارتكبه من غلب عليه الرأي من أتباعهم).

ثانياً: هذه الأقوال لو صحت عنهم لعذرناهم لعدم وصول الحديث إليهم أو عدم صحته عندهم ولقد ذكر شارح مقدمة ابن رشد رحمه اللع أن نسبة بعض ما في المدونة إلى مالك لا يصح ومثل بمسألة السدل في الصلاة المنافية لقول الإمام مالك في الموطأ عن القبض.

7- البرهان السابع على صحة منهج أهل الحديث: أن كثيراً من تلاميذ الأربعة كذلك ماتوا على مذهب أهل الحديث ولم يقلدوا إمامهم في الدين بل خالفوهم في الأصول والفروع عند ظهور الحق.

قال الشهرستاني رحمه الله في (الملل والنحل): إن المجتهدين محصورين في صنفين: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، فأصحاب الحديث هم أصحاب مالك وأصحاب الشافعي وأصحاب الثوري وأصحاب أحمد بن حنبل وثبت عن كثير من تلاميذ الأئمة أنهم خالفوا أصولهم حينما ظهر الحق.

8- أن كثير من العلماء الأفاضل قد رجعوا عمّا كانوا عليه من التمذهب والتقليد إلى مذهب أهل الحديث، ومنهم علي القارئ وابن المقريزي وعبد القادر الجيلاني والسلطان الغزنوي وغيرهم رحمهم الله.

9- إن الأئمة الأعلام من التابعين وأتباعهم الذين كانوا في عصر الأئمة الأربعة أو بعدهم مثل الأئمة أنفسهم وتلامذتهم، والأئمة الأوزاعي والليث بن سعيد وربيعة الرأي والدارقطني والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والطبري وابن خزيمة وابن حبان والخطيب البغدادي وابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وأمثالهم كثير رحمهم الله، كانوا جميعاً على مذهب أهل الحديث ولم يكونوا مقلدين للأشخاص والمذاهب ودليل ذلك أنهم كانوا من نقاد الحديث ونقدوا مسائل المذاهب الأربعة في تصنيفاتهم وأجمعوا على اتباع الكتاب والسنة دون التقليد في الدين وقاموا هم ومن اتبعهم من الناس على مذهب أهل الحديث، جيلاً فجيل إلى يومنا هذا، وهذا يُعد من أكبر الأدلة على أنهم أهل الحق وانهم الطائفة القائمة بأمر الله.

فبهذه البراهين تبين لنا أن طائفة أهل الحديث هم أهل الحق وأن طريقتهم ليست بمذهب خامس ولا جديد بل هم من يوم الإسلام على أصل الإسلام الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولهم الصحابة، وأنهم هم المتمسكون بالكتاب والسنة في الحقيقة لأن رسول الله شهد لهم بصحة ما أتوا به عنه من عصره إلى قيام الساعة عندما قال: « لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله » متفق عليه. وهم طائفة أهل الحديث كما قرره جماهير العلماء قديماً وحديثاً ومنهم العلماء ومنهم طلبة العلم ومنهم العوام.

علامات وخصائص أهل الحديث.

1- محبة القرآن والحديث واتباعهما ظاهراً وباطناً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(أدنى خصلة لأهل الحديث محبة القرآن والحديث والبحث عنهما والعمل بما علموه منهما)([39]) وقال أيضاً (وهم أعلم الناس بأقوال رسول الله وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها تصديقاً وعملاً وحباً وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها)([40]).

2- أهل الحديث والسنة ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتعصبون لمذهب ولا جماعة ولا حزب وإمام ولا قبيلة ولا مدينة ولا غيرها، وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)  [الإسراء:71] ، قال نقلاً عن السلف: هذا أكبر الشرف لأهل الحديث لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم;) رغم ذلك فهم يحبون الأئمة وعلماء الإسلام ويعتبرونهم أكرم هذه الأمة وخيرتها بل يرون أن احترامهم واجب وفضلهم كبير وعلمهم واسع ولا يستغنون عن اجتهاداتهم لفهم الكتاب والسنة.

3- أهل الحديث والسنة يحافظون على جماعة المسلمين ويلتزمون الطاعة في المعروف، فهم مجمعون على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين في غير معصية: في صحيح مسلم (3/1476) عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس» قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع»

4- أهل الحديث والسنة يحكمون الكتاب والسنة في كل مسألة في حياتهم فهم يعملون بقوله تعالى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ)  [النساء:59] وهم لا يعارضون القرآن والسنة بعقل أو رأي أو قياس أو قول ونحو ذلك.;.

5- اشتغالهم بالحديث تعلماً وعملاً وتعليماً: قال أبو مظفر السمعاني رحمه الله (ت489) (رأينا أصحاب الحديث للسنة أطلب وفيها أرغب ولها أجمع وأخذوها من معادنها وجمعوها من مظانها وحفظوها ودعوا إلى اتباعها وعابوا من خالفها) ثم قال: (فتدبر رحمك الله: أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألف الصحف وفصل الصحيح والسقيم ثم استعمل أثاره كلها حتى فيما عدا العبادات من أكله وطعامه وشرابه ونومه ويقظته ودخوله وخروجه وجميع سيرته وسننه، ثم دعا الناس إلى ذلك كمن أفنى عمره في اتباع أهوائه وآرائه وخواطره؟ فانظر أي الفريقين أحق بأن يُنسب إلى اتباع السنة)([41]).

* فما هي حقيقة الانتساب للسلف أهل الحديث؟ أن يتعلم منهجهم وعقيدتهم عن طريق حضور مجالس العلم ومطالعة كتبهم، ثم يعمل بهذا المنهج ويُعلمه للناس، ويصبر على ذلك.

* أين هم أهل الحديث هذه الأيام؟ أهل الحديث هم أهل السنة وشعارهم اتباع السلف الصالح وترك البدع. قال الإمام الأصبهاني رحمه الله من علماء القرن الخامس ـ(شعار أهل السنة اتباع السلف الصالح وتركهم كل ما هو مبتدع ومحدث)([42]).

إذاً أهل الحديث هم اتباع السلف الصالح، والسلف هم الصحابة وأهل القرون الثلاثة الأولى ومن انتسب إليهم يُسمى (سلفي) فالذي يلتزم بنصوص الكتاب والسنة ويفهمهما بفهم السلف الصالح يُسمى(سلفي) وقد أثبت هذه التسمية كثير من الأئمة الذين ألفوا في العقيدة ومنهم:

* الحافظ إسماعيل الأصبهاني رحمه الله: فقد كرر ذكر مذهب السلف مرات كثيرة في كتابه الحجة في بيان المحجة.

* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً)([43]) وهو رحمه الله التزم ذكر السلف لتمييز عقيدتهم عن الفرق المبتدعة، ففي الفتوى الحموية تكررت لفظة السلف أكثر من ثلاث وثلاثين مرة.

فأهل الحديث في هذا الزمن هم السلفيون أتباع السلف الصالح، والنسبة إلى السلف نسبة قديمة جداً، وليست من الحزبية في شيء ولا يجوز أن تقارن بالشعارات والأحزاب الوليدة. والمنهج السلفي لم يؤسسه فلان وفلان وإنما هو عقيدة خالصة وشريعة قديمة أوحاها الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وطبقها مع صحبه الكرام وتبعهم على ذلك التابعون بإحسان.

فأهل الحديث ليسوا مذهباً جديداً إنما هم أصل الإسلام وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وهم أهل الحق وهم أتباع السلف الصالح، فلا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق.

ألا هل بلغت …… اللهم فاشهد

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 


 

([1]) من كتاب الانتصار لأصحاب الحديث(1-3)

([2]) رواه الخطيب البغدادي(ت463) في شرف أصحاب الحديث بإسناد حسن

([3]) رواه الخطيب البغدادي أيضاً وهو صحيح

([4]) ذكره الخطيب في شرف أصحاب الحديث صـ72

([5]) كتاب الغنية صـ71

([6]) تأويل مختلف الحديث صـ71.

([7]) اجتماع الجيوش لابن القيم صـ59.

([8]) صحح سنده ابن حجر في الفتح (13/306) ورواه الخطيب بسنده في شرف أصحاب الحديث.

([9]) أحمد والترمذي.

([10]) ذكره الخطيب بسنده في شرف أصحاب الحديث.

([11]) رواه الخطيب بسنده في شرف أصحاب الحديث.

([12])  كتاب الانتصار لأصحاب الحديث صـ45.

([13]) الخطيب في شرف أصحاب الحديث.

([14]) سنده صحيح.

([15]) ذكره ابن حجر في تولي التأسيس صـ110 والآداب لابن مفلح (1/238)

([16]) نقله الذهبي في السير (12/246).

([17]) منهاج السنة (4/59).

([18]) منهاج السنة(4/59).

([19]) تفسير ابن كثير (5/307)

([20]) حديث متواتر.

([21]) تذكرة الحفاظ للذهبي (1/73).

([22]) تهذيب التهذيب (5/37).

([23]) أصول الإسلام للبغدادى (1/317).

([24]) تذكرة الحفاظ للذهبي (1/97)

([25]) تاريخ بغداد (13/345) و(14/105) بإسناد إلى ابن عمار.

([26]) ذكره الخطيب في شرف أصحاب الحديث صـ104

([27]) كتاب البغدادي شرف أصحاب الحديث صـ105 ، وسفيان الثوري شيخ الأوزاعي ومالك وابن المبارك وشعبة وسفيان بن عيينه وغيرهم.

([28]) المرجع السابق صـ52 سفيان بن عيينه أدرك أكثر من ثمانين تابعياً وكان يُعد من حكماء أهل الحديث تاريخ بغداد(9/179).

([29]) شرف أصحاب الحديث صـ16.

([30]) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه بسند ضعيف وله شواهد فهو به حسن إن شاء الله

([31]) شرف أصحاب الحديث صـ46

([32]) حاشية ابن عابدين (1/63)

([33]) تهذيب الأسماء واللغات (1/44)

([34]) منهاج السنة (4/134)

([35]) شرف أصحاب الحديث صـ47

([36]) إعلام الموقعين لابن القيم (2/392)

([37]) اليواقيت والجواهر للشعراني صـ244

([38]) تفسير ابن كثير (1/397)

([39]) فتاوى ابن تيمية (4/59)

([40]) الفتاوى (3/347)

([41]) الانتصار لأصحاب الحديث صـ52

([42]) الحجة في بيان المحجة (1/364)

([43]) الفتاوى (4/149)