كسر مفاتيح إبليس


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

إنَّ من أشدِّ الأسلحة فتكاً بالمجتمعات وسبباً في إضعافها وتقويضها: سلاح التحريش والتحريض والتفريق، فهو من أعظم الدسائس الشيطانية، لما يتضمن من مفاسد لا تتناهى، من ذهاب الأنفس والأعراض والأموال وفساد الدين والدنيا، قال الله تعالى في وصف المنافقين: {ولأَوْضَعُوا خِلالكم يبغونكم الفتنة} أي يسعون في تفريق جماعتكم وتشتيت كلمتكم وإفساد ذات بينكم، بالنميمة والفتنة وبث الكراهية والبغضاء.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»، أي يسعى في تحريض بعضهم على بعض بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها، ولذلك قال العلماء: «لا أشرَّ على إبليس من تفريق كلمة المؤمنين».

 

وقد حذَّر الشرع من التحريش أشدَّ التحذير، وسدَّ ذرائعه ومسبباته، وبيَّن لنا طرقاً من خلالها نكسر مفاتيح إبليس التي يريد بها فتح أبواب الشرور والفرقة، فمن الوسائل المعينة على كسر هذه المفاتيح..

 

أولاً: التحذير من الإحداث في الدين والاختلاف فيه، لما يؤدي إليه ذلك من إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام وتفريقهم شِيَعاً وأحزاباً، مما يتسبب في تفريق كلمتهم وفساد ذات بينهم، حتى يكفِّر بعضهم بعضاً، ويسفك بعضهم دم بعض، قال تعالى: {إنَّ الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شِيَعاً لستَ منهم في شيء}، وقال سبحانه: {ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيِّنات}، وقال عزَّ وجلَّ: {ولا تتَّبعوا السُّبل فتفرَّق بكم عن سبيله}.

 

قال العلامة الشاطبيُّ رحمه الله: «دلَّت هذه الشَّواهدُ على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع، وأوَّلُ شاهدٍ عليه في الواقع: قصةُ الخوارج، إذْ عادَوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم».

 

ثانياً: التحذير من المماراة في الدين، وهي المجادلة التي تؤدي إلى الخصومة والشقاق بين الطَّرفين، كأن يتعصب كلٌّ لرأيه ويسعى للانتصار لنفسه، فتقع العداوة وتختلف القلوب، ويخرج النقاش عن حدِّ قصد الحقِّ إلى طلب المغالبة وتحقير الغير والاستعلاء عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقّاً».

 

ثالثاً: تحريم ما يورث العداوات من الخمور والمسكرات والميسر والربا وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك من المحرَّمات، قال الله تعالى: {إنَّما يريد الشَّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة}، فنهى عن هذه الأمور لسدِّ باب الاختلاف والعداوة بين المسلمين، ولما في ارتكابها من الصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة.

 

رابعاً: التحذير من الغيبة والنميمة والسخرية والتفاخر والحسد وسوء الظن وسائر الأخلاق المذمومة، والنميمةُ: نقلُ كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم وتفريقهم، ففي الحديث: «شرارُ عباد الله المشَّاؤون بالنميمة المفرِّقون بين الأحبة»، وفي الحديث أيضاً: «إيَّاكم والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً».

 

خامساً: تغليب جانب العفو والصفح عند الإساءة، والتجاوز عن الهفوات والزلات، ومقابلة التعامل السيئ بالتعامل الحسن، قال الله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجرُه على الله}، وقال سبحانه: {وأن تعفوا أقربُ للتقوى}، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما زاد اللهُ عبداً بعفوٍ إلا عزّاً»، ويقول الشاعر:

 

وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ من اعتدى * ودافِعْ ولكن بالتي هي أحسنُ

 

سادساً: الترغيب في إصلاح ذات البين وإعلاء منزلته؛ لما فيه من جمع الكلمة وإزالة الشحناء وزوال الفرقة، قال الله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم}، وفي الحديث: «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ إصلاح ذات البين»، فهذا فضلُ من يسعى إلى جمع الكلمة وإزالة الفرقة أنه ينال بذلك درجةً فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخاصَّة نفسه.

 

 لذا علينا أن نتأمَّل هذه النصوص العظيمة، وما فيها من التحذير من إفساد ذات البين، لنكون بحقٍّ وصدقٍ طلاَّب وحدةٍ واجتماعٍ ووئامٍ وفق ما شرع الله وأمر، حينئذٍ سنكونُ قادرين بإذن الله على التصدي لمكائد إبليس وكسر مفاتيحه.