خطورة التكذيب بالسنّة ورد الحديث


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

ظهرت عبر تاريخ الأمة فئات عدة وجّهت سهامها إلى السنّة النبوية الشريفة، مشكِّكة فيها، ومنكرة لحجيتها، فمنهم من يطعن في أسانيدها ورجالها الثقات..

ومنهم من يطعن في متونها وألفاظها، ومنهم من يرد السنّة جملة وتفصيلاً، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من هذا المسلك فقال: «يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله».

ومن المؤسف أن بعض المثقفين الذين ينادون بالعقل والحكمة تأثروا بهذه الثقافات السلبية، فأصبحوا يروجون الشبهات التي تعطل السنّة بأسلوب مباشر أو غير مباشر وهذا ما جعلني أكتب هذا المقال لعله يسهم في إزالة الشبهات العالقة في هذا الجانب، حيث إن الحجج على مكانة السنة النبوية الشريفة كثيرة، منها :

أولا: أن النصوص القرآنية تضافرت على حجية السنة النبوية، وتنوعت دلالاتها الصريحة في ذلك، فمنها النصوص الآمرة بطاعة الرسول عليه السلام، كقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، ومنها النصوص التي جعلت طاعة الرسول عليه السلام من طاعة الله، كقوله تعالى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ}﴿النساء: ٨٠﴾، ومنها النصوص التي جعلت اتباع الرسول عليه السلام من مقتضيات نيل محبة الله ومغفرته، كقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}﴿آل عمران: ٣١﴾، ومنها النصوص التي رتَّبت الإيمان على طاعة الرسول عليه السلام والتسليم لأمره، كقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}﴿النساء: ٦٥﴾، ومنها النصوص الآمرة بالرد إلى الرسول عليه السلام عند التنازع، كقوله تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ}﴿النساء: ٥٩﴾، ومنها النصوص التي تحذر من مخالفة أمر الرسول عليه السلام، كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٦٣﴾}﴿النور: ٦٣﴾، إلى نصوص كثيرة لا يمكن حصرها في هذا الموضع.

ثانيا: أن السنة النبوية بيان للقرآن الكريم، بتفصيل مجمله، وتفسير مبهمه، وتخصيص عامِّه، وتقييد مطلقه، ورد متشابهه إلى محكمه، وشرح أحكامه، وبيان ما سكت عنه، مثل تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها في النكاح..

ولولا السنة النبوية ما عرفنا كثيراً من الأحكام الشرعية، كأعداد الصلوات والركعات ومقادير الزكوات ومناسك الحج والعمرة وجل أحكام المعاملات والأحوال الشخصية من زواج وطلاق وغير ذلك، مما يؤكد لنا أن القرآن والسنة كلاهما مصدر للتشريع الإسلامي في أصول الدين وفروعه.

ثالثا: أن العلماء أجمعوا قرناً بعد قرن على الاحتجاج بالسنة النبوية، والعمل بها، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس»، ولذلك تضافرت جهود العلماء في القديم والحديث وتواترت النقول عن الأئمة الأربعة وغيرهم في تعظيم السنة والعمل بها والتعويل عليها في استنباط أحكام الدين..

ولم يزل العلماء في كل زمان يدافعون عن السنة النبوية، ويردون عنها شبه المشككين، إلى زماننا هذا الذي كثرت فيه المؤلفات في تقرير حجية السنة النبوية ورد الشبهات عنها، كما انتشرت أقسام الحديث في كليات الشريعة، وأصبح تخريج الأحاديث وتمييز صحيحها من ضعيفها من لوازم البحث والخطاب الديني.

رابعا: أن السنة النبوية حظيت بعناية فائقة تمحيصاً وتدقيقاً، فقد اعتنى بها الرعيل الأوَّل المتمثل في الصحابة رضي الله عنهم غاية الاعتناء، ونقلوها إلى الأجيال من بعدهم، واعتنى التابعون وأتباعهم بها، فحفظوها، ورحلوا من أجلها، ودوَّنوها بدقة فائقة، وألفوا فيها الدواوين من صحاح وسنن ومسانيد ومعاجم وغيرها، وقد بذل العلماء جهودا كبيرة لتوثيقها..

وتمييز الثابت منها من غير الثابت، ووضعوا الضوابط الدقيقة والمعايير الصارمة لحمايتها، وابتكروا علوماً جديدة لخدمة هذا الغرض، فألفوا كتب الرجال والتراجم والتواريخ والأسانيد والجرح والتعديل والعلل والمراسيل وغيرها، وألفوا شروح الحديث، وأسباب وروده، وبيان غريبه، وناسخه ومنسوخه وغير ذلك من الفنون والعلوم، ضمن تراث ضخم من الموسوعات الحديثية والفقهية التي لم تتوفر لأمة من الأمم.

خامساً: أنه ليس هناك تعارض وتضاد بين السنة النبوية الصحيحة ونصوص القرآن الكريم، ولا بين السنة والمعقولات الراجحة والمقاصد المعتبرة، وقد صنف العلماء كتباً عديدة في ذلك، ووضعوا قواعد للجمع والترجيح، بما يزيل أي لبس أو إشكال. وأخيراً فإني أوجه رسالة لكل مثقف تأثر بالثقافات السلبية التي تحاول تعطيل السنة قائلا له:

انتبه لعقلك ومسارك الثقافي فإن رد السنة النبوية له آثار وخيمة، فهو يؤدي إلى تعطيل كثير من أحكام الدين كما سبق، وهو أيضا سبب لنشر المفاهيم المغلوطة عن الدين بما في ذلك أفكار الإرهاب والتطرف والغلو..

ومن أوضح الشواهد على ذلك قصة محاورة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج الذين أساؤوا فهم القرآن، فرد على شبهاتهم بالقرآن والسنة النبوية المطهرة، حتى رجع منهم كثير من المغرَّر بهم، فالقرآن الكريم والسنة النبوية حصانة من الزيغ والانحراف، وهما الطريق الموصل للوسطية والاعتدال.