مكانة العقل في الإسلام


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

مكانة العقل في الإسلام كبيرة، ومنزلته رفيعة، فهو مناط التكليف، ومن أعظم النعم والتشريف، وقد امتن الله به على الإنسان، لأنه يميز به بين النافع والضار، ويدرك به التكاليف الشرعية، ويتدبر به الآيات القرآنية، ويفهم به الأحاديث النبوية، ويجتهد به في أموره الدنيوية، فهو واسطة لا غنى للإنسان عنها في إدراك أمور دينه ودنياه، ولهذا، اعتنى الإسلام به عناية كبرى، نظراً لأهميته، فمن مظاهر عناية الإسلام بالعقل:

أولاً: إنه اعتبر العقل إحدى الضرورات الخمس الكبرى التي ينبغي المحافظة عليها، وحرَّم كل ما يضر بالعقل ويغيِّبه، كالخمور والمسكرات والمفتِّرات، وشرع العقوبات الرادعة لمن يتعاطى ذلك، حفاظاً على هذه النعمة العظيمة.

ثانياً: إنه دعا العقل إلى اتباع البرهان، وأمر بنبذ الجهل والهوى والكبر والتعصب والتقليد الأعمى والجدل بالباطل والخرافات والأوهام والسحر والشعوذة والدجل، لأن هذه الآفات كلها تعطل العقل عن وظيفته، فيتمسك صاحبه بالخطأ ولو ظهر عواره، ويُعرض عن الصواب، ولو استبانت أنواره، قال تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}.

ثالثاً: إنه دعا العقل إلى التفكر والتأمل، سواء كان التفكر في نصوص الشرع بحسن فهمها والعمل بها، أو التفكر في مجالات الكون الفسيح، وما أودع الله فيه من عجائب المصنوعات، الدالة على وحدانيته وعظمته وجلاله، والقرآن مليء بالآيات الداعية إلى النظر في سنن الكون وقوانين الحياة، قال تعالى:{قل انظروا ماذا في السماوات والأرض}، وعندما أُنزلت على نبينا الكريم عليه السلام، قوله سبحانه: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}، كان في حال عجيبة من التأثر، حيث سئلت عائشة رضي الله عنها:

أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: «يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي»، قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرَّك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حِجْره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت عليّ الليلة آيةٌ، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إن في خلق السموات والأرض} الآية»..

وقد عاب الله على من يعطلون عقولهم عن وظائفها، ولا يسخرونها في التفكر، سواء في آياته الشرعية، كما في قوله: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، أو في آياته الكونية، كما في قوله: {وكأيِّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}.

رابعاً: إن القرآن حافل بالحجج العقلية الدامغة على توحيد الله وصدق رسله وإثبات المعاد وغير ذلك، فمن ذلك على سبيل المثال، قوله تعالى: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}، فهذا برهان عقلي قاطع، أي: إما أن يكونوا خُلقوا من العدم، ومعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وإما أن يكونوا خَلقوا أنفسهم، وهم يعلمون أنهم لم يخلقوا أنفسهم، فلا يبقى إلا أن لهم خالقاً، هو الله تعالى.

خامساً: إن الإسلام دعا إلى تنمية العقول بالحث على التعلم والاستزادة منه، لأن العلم زاد العقول، والنصوص الشرعية حافلة بالحث على طلب العلم، وبيان كثرة فضائله ومزاياه، وقد صنف العلماء الكثير من المصنفات التي تتناول ذلك.

سادساً: إنه حث العلماء على إعمال العقول بالاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية في الحوادث والنوازل المستجدة، وذلك في مختلف الأزمنة والأمكنة، وفق ضوابط وشروط مذكورة في مواضعها، يقول النبي عليه السلام: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر».

سابعاً: إن الشرع قائم على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، ومرجع ذلك إلى الشرع والعقل اللذين هما أخوان نصيران، يقول ابن القيِّم: «الشريعةٌ عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلُّها، وحكمةٌ كلُّها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة».

ثامناً: إنه تعامل مع العقل تعاملاً واقعياً، فاعترف بقصوره، وحث على تكميله، ومن هنا، جاء الحث على المشاورة، لتتكامل العقول وتجتمع الآراء، ومن رحمة الله بعباده، أنه أرسل الرسل وأنزل الكتب لهدايتهم إلى تفاصيل ما لا تهتدي إليه العقول، بما يتوافق مع فطرهم السليمة..

ولا يتعارض مع عقولهم المستقيمة، فكل ما هو من مقتضيات العقل الصحيح، فليس في الشرع ما يعارضه البتة، ولذلك يقول ابن القيم: «الكتاب المنزَل والعقل المدرِك حجَّة الله على خلقه».