وقفة إشفاق مع قضايا الطلاق


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله صحبه ومن والاه وبعد:

فلا شك أن الله تعالى لم يشرع الطلاق إلا لحكم ومنافع عظيمة يعلمها سبحانه؛ وكم من أمر يكون في ظاهره الحزن والتعاسة وحقيقته الفرج والسعادة. وأمر الطلاق كغيره من الأحكام الشرعية التي شرعها الله سبحانه وتعالى, وهو من الأحكام التي تشملها أقسام الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب والحرام والمستحب والمكروه والمباح. وقد عم في زماننا هذا أمر الطلاق، حتى رأينا النسب العالية في ذلك، مما يؤذن بتفكك المجتمع، وضعف البناء الأسري الصحيح، ولعل الله ييسر كتابة أخرى عن أسباب والطلاق وطرق اجتنابها، وإنما المراد هنا تنبيهات يسيرة ووقفات لطيفة في الكلام عن قضايا الطلاق بشكل عام:

الوقفة الأولى: إذا قام كلا الزوجين بواجباته وعلم حقوق الآخر عليه, فلن يكون هناك حاجة للطلاق ولا الفراق, فتأدية الواجبات سبيل لنفي أسباب الخلاف والتي قد يكون من نتاجها الطلاق. فيعرف الزوج ما يجب عليه وله وكذا الزوجة, فيؤدي كلا منهما ذلك على أتم وجه.قال تعالى ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) [البقرة:228]
قال الجصاص في تفسيره : "أخبر الله تعالى في هذه الآية أن لكل واحد من الزوجين على صاحبه حقا ، وأن الزوج مختص بحق له عليها ليس لها عليه"(1).فالحياة الزوجة تتفاوت أحوالها بين فرح وترح، وسعادة وغضب. ومعكرات الحياة الخارجية قد تؤثر سلبا على علاقاتنا الأسرية. فلابد من استيعاب ذلك، وعدم اللجوء دوما إلى البتر والقطع، فمن العلاج للجروح والمشاكل ما يكون سببا للبرء والشفاء دون الحاجة للبعد والإقصاء.

الوقفة الثانية: في بقاء رابط الزوجية؛ وإمكان ذلك سبب للعفة، والامتناع عن مقارفة كثير من المنكرات المتعلقة بالشهوات، وسبب كذلك للحفاظ على الأبناء, فلا بد من الحرص على عدم وقوعه واللجوء إليه. فالحياة الزوجية الصالحة فيها من المصالح الشيء الكثير:

  • فالله جعل فيها السكن والطمأنينة قال تعالى: (وَمِنْ آيَاته أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا  وَجَعَلَ بَيْنكُمْ مَوَدَّة وَرَحْمَة)[الروم:21].

  • وفيها التعفف عن الحرام ومواقعة الآثام؛ ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج"(2) الحديث.

  • وفيها تكثير النسل ، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"(3).

  • وفيها تربية الأجيال وتنشئة الصالحين والذين نفعهم يتعدى حياة الوالدين إلى ما بعد مماتهم ولذا في الحديث " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ ومنها: وولد صالح يدعو له"(4).

وغير ذلك من المصالح العظيمة.

الوقفة الثالثة: على الزوجين بذل كل الأسباب المشروعة الممكنة في بقاء عقد الزوجية بينهما, إما بتنازل أحدهما عن بعض حقوقه إبقاء لعش الزوجيه, وحرصا على الأبناء, فلا يكون النظر هنا نظرا مصلحيا شخصيا بعيدا عن النظر في الأمور والمصالح الكبرى، وإما أن يكون بالاستعانة بالعقلاء من الطرفين لإصلاح الخلل وردم الخلاف ورجوع الأمور إلى جادة صوابها. فكم من ابن انحرف عن الطريق وفتاة ضلت السبيل بسبب عدم وجود البيئة الحاضنة لهما من الأبوين. وأشد ما يكون الأمر حين يقاسي الأبناء نزاعات الوالدين ويقفون في تخيير أليم وتجاذب صعب بين أب يفوز لرأيه وأم تنظر في انتصارها لقولها وموقفها.

الوقفة الرابعة: إذا افترق الزوجان فلا يكون ذلك سببا للفجور والشتائم ولا لإخراج معايب الآخر, وليس الطلاق مبررا للطعن والتشهير, فليس ذلك بالخلق الكريم, بل هو مخالف لأمر الله تعالى القائل: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:237].

الوقفة الخامسة: إذا تقرر أمر الطلاق، وكان هو المتعين علاجا لما قد يكون من مفاسد ستحصل في حال بقاء الزواج واستمراره، وصار هو حلا إذ تعذرت سبل بقاء الرابطة الزوجية، وانتهت سبل الإصلاح فينبغي أن يعلم أن للطلاق فقه من حيث وقته وزمانه؛ فلا يجوز للرجل أن يطلق امرأته وهي حائض ولا وهي في طهر مسها فيه. فعن ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق زوجته وهي حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : "مره ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله بها أن تُطلَّق لها النساء"(5).
ولعل من الحكم في ذلك أن في تأخيره ما قد يساعد على التأني والنظر والتراجع عن الطلاق كقرار يمكن تغييره.

الوقفة السادسة: حديث ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق ) ضعيف , فإنه رواه أبو داود والبيهقي في السنن الكبرى, وهو مرسل لا يصح مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فلأهل العلم رأي في توجيهه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:" يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق ) وهذا الحديث ليس بصحيح ، لكنَّ معناه صحيح ، أن الله تعالى يكره الطلاق ، ولكنه لم يحرمه على عباده للتوسعة لهم ، فإذا كان هناك سبب شرعي أو عادي للطلاق صار ذلك جائزاً ، وعلى حسب ما يؤدي إليه إبقاء المرأة ، إن كان إبقاء المرأة يؤدي إلى محظور شرعي لا يتمكن رفعه إلا بطلاقها فإنه يطلقها ، كما لو كانت المرأة ناقصة الدين ، أو ناقصة العفة ، وعجز عن إصلاحها ، فهنا نقول : الأفضل أن تطلق ، أما بدون سبب شرعي ، أو سبب عادي ، فإن الأفضل ألا يطلق ، بل إن الطلاق حينئذٍ مكروه" [لقاء الباب المفتوح].

هذه وقفات يسيرة حول الطلاق؛ أرجو أن تؤتي نفعها وتعطي ثمارها صلاحا وإصلاحا وبيانا. والله الموفق وهو المعين.

 

كتبه:د. محمد بن غالب العمري
22 محرم 1438
23 أكتوبر 2016

 

 


(1) أحكام القرآن الجصاص ص [1/453]

(2) البخاري ح [5065]، مسلم ح [1400]

(3)سنن أبي داود ح [2050]

(4) سنن الترمذي ح [1376]

(5) البخاري ح [4908]، مسلم ح [1471]