أعمدة السعادة العشرة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

تحصيل السعادة من أولويات كل إنسان، ومطلب جميع العقلاء، والكل يُطلق خيله في مضمار الحياة، لعله يظفر بهذا الكنز الثمين، فيعيش في هناء وراحة، ولذلك، أحببت أن أدلي بدلوي، فضمَّنت مقالي عشرة أعمدة للسعادة، وذلك بعد الاطلاع على عدة بحوث في هذا الباب، لعل الله أن ينفع بها، فأقول:

العمود الأول: الإيمان، فهو يزوِّد الإنسان بمقومات السعادة، فيعطيه معنى للحياة، ويغذيه بطاقة تعينه على تحمل المشاق ومواجهة الأقدار بالصبر والرضا، وينمي لديه حس المسؤولية، بالإيمان باليوم الآخر والجزاء، فيكون أقل قابلية للانزلاق في الجرائم والشرور، كما أن الإيمان بالجنة يهون عليه كل فقر ونقص في الدنيا، والإيمان يجعل صاحبه يتسامى على العالم، ويتغلب على كل ما فيه من ضعف بالتعلق بخالقه، واليقين به.

فيمتلأ صدره راحة وانفعالات إيجابية، وتتصاغر أمامه المعضلات بالارتباط بقوة مطلقة فوق هذا العالم، قال الفضيل بن عياض: «من علامات السعادة: اليقين في القلب»، والإيمان يوطد دعائم الأسس الأخلاقية، ويحمي الإنسان من الأنانية المفرطة.

ويبث في نفسه الرحمة وحسن معاملة الناس، ما يورثه الراحة والاطمئنان، وفي دراسة أجراها د. إد داينر أستاذ علم النفس بجامعة إلينوي الأميركية، وأحد كبار علماء منظمة جالوب، بيَّنت أن المؤمنين بالله والحياة بعد الموت، أكثر رضا بحياتهم وأكثر نظرة إيجابية للحياة.

العمود الثاني: العلم، فهو يفتح بصيرة الإنسان، فيرى من أمور الحياة ما لا يراه غيره، ومن أسرار السعادة ما لا يبصره من هو دونه، قال الحكماء: «أصل العلم الرغبة، وثمرته السعادة»، وأظهرت دراسات حديثة، أن الأشخاص الذين يتقنون القراءة والكتابة أكثر سعادة، والله تعالى يقول: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ}.

العمود الثالث: العافية، فهي نعمة عظيمة، ومن أعظم أسباب السعادة، وفي الحديث: «سلوا الله العفو والعافية، فإن أحداً لم يُعط بعد اليقين خيراً من العافية»، والعافية هي سلامة الدين من الفتنة، وسلامة البدن من الأمراض والمحنة.

العمود الرابع: الأمان، وهو من أعظم النعم المورثة للسعادة، وقد تكرر في الذكر الحكيم، التنويه على أهميتها، قال الماوردي: «من أسباب صلاح الدنيا أمن عام، به تطمئن النفوس، وتنتشر الهمم، وليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش، لأن الخوف يمنع الناس من القيام بمصالحهم».

العمود الخامس: الاكتفاء، والرضا بالعيش، قال ابن حبَّان: «مِن أكثر نعم اللَّه على عباده القناعة»، وفسر باحثون معاصرون السعادة بأنها الدرجة التي يحكم عندها الفرد بأن نوعية حياته على درجة عالية من الرضا، وذلك لا يتحقق من دون القناعة، فقد قام علماء نفس بدراسة حول العلاقة بين الدخل والسعادة، ووجدوا أن حجم الدخل لا ينم كثيراً عن الرضا، فهناك من يملكون مالاً كثيراً وليسوا سعداء، لعدم تمكنهم من تحقيق ما يريدون، نتيجة رغباتهم المادية الزائدة، وهؤلاء مهما كان مستوى دخلهم.

فإنَّ هناك دائماً سيارة أغلى أو منزلاً أفخر أو مقتنيات أكثر كلفة يطمحون إليها، ولذلك، فهم يشعرون دائماً بحاجتهم إلى المزيد من المال، مهما بلغوا من ثراء، وآخرون يملكون قدراً أقل من المال ولكنهم سعداء، لأنهم يحققون رغباتهم المنسجمة مع إمكاناتهم.

وتوصل الباحثون إلى المعادلة الآتية: وهي أن السعادة مجموع ما نملك على ما نريد، وأن سبب تفاوت الفقراء والأثرياء في السعادة، هو بسبب تفاوتهم في الرغبات، لا الدخل، وهذا يفسر الشعور بالسعادة لدى بعض الفقراء، وعدم الشعور بالسعادة لدى بعض الأثرياء، وصدق نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام إذ يقول: «ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس».

العمود السادس: العلاقات الأسرية والاجتماعية، فإنها من أعظم أسباب السعادة، قال الراغب الأصفهاني: «الأهل نعم العون على بلوغ السعادة، فمَن كَثُر أهله وخالصوه، صار له بهم عيونٌ وآذانٌ وأيدٍ»، وقال الحكماء: إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، أي هو محتاج إلى مدينة فيها خلق كثير لتتم له السعادة، فكلٌّ يحتاج إلى غيره، ولذلك، فلا بد له من مصافاة الناس ومعاشرتهم العشرة الجميلة.

العمود السابع: الانتماء، وهو ارتباط الفرد بأسرته ومجتمعه ووطنه، فالبشر يستمتعون بالانفعالات الإيجابية، بسبب الانتماء إلى مجموعة متماسكة لها مكونات مماثلة، ويتجلى هذا الشعور في الولاء الوطني.

العمود الثامن: العطاء وأعمال الخير المتعدية، أي التي يتعدى نفعها للناس، وفي الحديث: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس»، وفي الحديث: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه»، وقال أبو الليث السمرقندي: «من علامات السعادة، أن يكون المرء نافعاً للخلق».

العمود التاسع: التفكير الإيجابي، وهو تهيئة العقل ليلاحظ النعم أكثر من الاهتمام بالأمور المزعجة، وتحري الاختيارات الحكيمة، والتضحية بالمتع قصيرة الأجل، من أجل أهداف أكثر قيمة، وقد ربط العلماء بين العقل والسعادة، قال ابن حبَّان: «عمود السعادة العقل، ولو صُوِّر العقل صورةً لأظلمت معه الشمس لنوره»، وقال بعض الباحثين المعاصرين: «السعادة موجودة في رأسك»، والتفكير الإيجابي يولد طاقات إيجابية، كالأمل والطموح والتفاؤل، ويغيِّر نظرة الإنسان لواقعه وللحياة.

العمود العاشر: الإرادة، والقدرة على ضبط السلوك، والسيطرة على النفس، وترجمة مقتضيات التفكير الإيجابي إلى واقع معاش، فكم من فكرة إيجابية بقيت حبيسة العقل، نتيجة ضعف الإرادة، وفي الحديث: «استعن بالله ولا تعجز».