لا تحلفوا إلا بالله


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

إن من نعم الباري جل وعلا على الإنسان أن جعل خِلقَتَه أجمل المخلوقات، وهيئته أفضل الهيئات، فهو متناسب الأعضاء، منتصب القامة، فما من شيء يحتاج إليه ظاهراً وباطناً إلا وهو مركّب فيه(1)، لهذا امتن الله تعالى عليه بهذه النعمة في مواضع عديدة من كتابه، قال جل وعلا: ﴿يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: 6 - 8] ، وقال ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]، ومن تلك النعم التي ميزه بها عن سائر مخلوقاته نعمة النطق، لهذا خصّها جل وعلا بالامتنان فقال ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ [البلد: 8، 9]، إلا أن هذه النعمة إن لم تُضبط بالشرع، ويُراعى فيها حدود الله فإنها تنقلب نقمة على صاحبها، إذ هي مصدر كثير من المعاصي، ومنبع ما لا يُحصى من المخالفات، يقول – صلى الله عليه وسلم – منبهاً على هذه الحقيقة، ومحذراً من تبِعاتِها: (إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاءَ كلها تُكفِّر اللسان – أي: تَذِل وتخضع له(2) – فتقول: اتقِ الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإنْ اعوجَجْتَ اعوجَجْنا) أخرجه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما وحسّنه الألباني رحم الله الجميع.

ومن آفات اللسان الكبيرة، ومزالقه العظيمة ذلكم العمل الذي جرى على ألسنة كثير من الناس، وفشى في كثير من المجتمعات مع ورود النصوص في النهي عنه، والتحذير منه، ووصفه بأشنع الأوصاف المنفّرة عن القيام به، ألا وهو الحلف بغير الله تعالى، وإليك – أخي القارئ – هذه الحادثة المبينة لعناية النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنهي عن الحلف بغير الله، ومبادرته بالإنكار على من صدر منه ذلك .

أخرج البخاريُّ  ومسلم من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أدرك عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وهو يسير في ركب، ويحلف بأبيه، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – (ألا إنَّ اللهَ ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، منْ كانَ حالفاً، فليَحلِفْ بالله أو ليصمت)، فبين – عليه الصلاة والسلام – أن مما نهانا عنه ربّنا جل وعلا الحلف بغيره سبحانه من الآباء وغيرهم كما سيأتي، وذلك أن الحلف بالله تعالى حقّ خالص لله، فلا يُحلف إلا بالله، كما لا يُصلى إلا لله، ولا يُنذر إلا لله، ولا يُصام إلا لله، ولا يُتوكل إلا على الله، ولا يُخاف إلا من الله، وما كان حقاً خالصاً لله لم يكن لغيره فيه نصيب(3).

ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – في آخر الحديث: (من كان حالفاً فليحلفْ بالله أو ليصمت)، يقول القرطبي – رحمه الله -: "وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته"(4)  .

ومن تأمّل هذا العمل – أعني الحلف بغير الله – وجد فيه مفاسد كثيرة، كل مفسدة أدهى من الأخرى وأعظم.

من ذلك: أن الحلف بغير الله فيه مشابهة للكفار في حلفهم بغير الله، وذلك أنّ حلف المسلمين لا يكون إلا بالله، وحلف الكفار يكون بغير الله تعالى على اختلاف أنواع المحلوف به عندهم، فمن حلف بغير الله فقد شابه الكفار في هذا العمل .

ومن ذلك: الوقوع في خصلة من خصال الجاهليَّة، فإن من المشهور المعروف أن من خصال الجاهليين في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – الحلف بغير الله، كالحلف بآلهتهم التي يعبدونها كاللات والعزّى وهُبل، أو الحلف بالآباء والأجداد، وغيرهم، ومما يوضح هذا قول ابن عمر – رضي الله عنهما -: وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال: أي النبي – صلى الله عليه وسلم –: (لا تحلفوا بآبائكم) رواه مسلم.

ومن ذلك: أن في الحلف بغير الله تعظيم غير الله بما هو مختص بالله تعالى(5)، وإذا كان الحلف خاصّاً بالله لم يكن لغير الله فيه نصيب – وإن قلَّ -، وهذه المفسدة تَجُرَّنا إلى ذكر مفسدة أخرى، وهي نتيجة في الحقيقة للمفسدة السابقة، وهذه المفسدة هي: الوقوع في تشبيه المخلوق بالخالق فيما هو مختص بالخالق جل شأنه، يبين هذا الإمام المقريزي – أحد علماء الشافعيَّة المِصْريين – فيقول – رحمه الله – في أثناء حديثه عمَّا هو مختص بالله من الأعمال: (ومن خصائص الإلهيَّة: السجود، فمن سجد لغيره فقد شبهه به، ومنها التوكل: فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها: التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به، ومنها: الحلف باسمه، فمن حلف بغيره فقد شبهه به)(6)، وهذا نص صريح من هذا الإمام على أن الحلف بغير الله فيه تشبيه المخلوق بالخالق فيما هو مختص بالخالق .

ولأجل هذه المحاذير العظيمة التي يقع فيها الحالف بغير الله، والمفاسد الكبيرة المترتبة على ذلك تكاثرت النصوص عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنهي عن الحلف بغير الله بصيغ متنوعة، وألفاظ مختلفة، وفي مناسبات متعددة، عن سعيد بن عُبيدة قال: كنت عند ابن عمر، فحلف رجل بالكعبة، فقال ابن عمر: وَيْحَك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك) رواه ابن حبان وغيره.

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون) رواه أبو داود والنسائي.

والمراد بالأنداد المنهي عنها في الحديث: ما كان يتخذ آلهة من دون الله تعالى(7).

وعن عبدالرحمن بن سمرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم) رواه مسلم.

والطواغي: هي الأصنام.

وعن بريدة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف بالأمانة فليس منَّا) رواه أبو داود بإسناد صحيح .

وعن قُتَيْلَة بنت صَفِيّ الجهنيَّة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (من حلف فَلْيَحْلِفْ بربِّ الكعبة) رواه الإمام أحمد وغيره وهو صحيح، ومقصود الحديث: من أراد الحلف فلا يحلف بالكعبة(8)، وإن كانت عظيمة في النفوس، كبيرة في القلوب، وإنما يُحلف بربِّ الكعبة جل جلاله وتقدست أسماؤه .

وبهذا التحذير الشديد المتواصل منه – صلى الله عليه وسلم – يُعلم قُبح الحلف بغير الله وخطورته، وأن هذا النهي منه – صلى الله عليه وسلم – عامٌّ: فيشمل كلَّ ما سوى الله تعالى سواء كان المحلوف به نبيّاً من الأنبياء، أو مَلَكاً من الملائكة، أو كان المحلوف به أباً أو أمَّاً أو رأس الولد، أو كان المقسم به الشرف أو الأمانة ونحو ذلك مما لا حصر له ولا عدّ، والأحاديث صريحة في العموم، يقول – صلى الله عليه وسلم –: (كل يمين يُحلَف بها دون الله شرك) أخرجه الحاكم وهو صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد أشرك) رواه أحمد وأبو داود.

وبما أنَّ الحلف بغير الله تعالى شرك بِنَصِّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وحكمه فإن يمين الحالف إذا كانت بغير الله غير منعقدة باتفاق الأئمة كما نص على ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى (9).

ومما يجدر التنبيه عليه: أن الحكم بالشرك الوارد في الحديث على من حلف بغير الله محمول على الشرك الأصغر، غير مخرج من الملّة، وفي إيضاح هذا وتقريره يُقال: إن الحلف بغير الله تعظيم – كما تقدم – و "هذا النوع من التعظيم لا يصلح إلا لله عزَّ وجل، وتعظيم غير الله بما لا يكون إلا لله شرك، لكن لَمّا كان هذا الحالف لا يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله لم يكن الشرك شركاً أكبر، بل كان شركاً أصغر، فمن حلف بغير الله فقد أشرك شركاً أصغر ..." (10)، وقد قرر هذا غير واحد من العلماء المعتبرين المشهورين كالطحاويِّ وغيره(11)، ولهذا وجب على من صدر منه الحلف بغير الله أن يبادر بالتوبة والاستغفار والعمل بما أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: (من حلف فقال في حلفه باللات والعُزّى فليقل: لا إله إلا لله ...) متفق عليه.

لقد كان لتقرير هذه المسألة من نبينا – صلى الله عليه وسلم – وتأكيده على حُرْمَتِها أثرها البالغ في نفوس أعلم الناس بشرع الله، وأفهمهم لمراد الله ومراد رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأحرصهم على تطبيق دين الله وهم الصحابة – رضي الله عنهم -، لهذا تعددت الآثار عنهم بالتحذير من الحلف بغير الله، والتشديد على من يصدر منه ذلك.

من ذلك ما رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء بسنده إلى خُنَاسِ بْنِ سُحَيْمٍ، قَالَ: أَقْبَلَتُ مَعَ زِيَادِ بْنِ جَرِيرٍ مِنَ الْكُنَاسَةِ، فَقُلْتُ فِي كَلَامِي: لَا وَالْأَمَانَةِ. فَجَعَلَ زِيَادٌ يَبْكِي وَيَبْكِي، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي أَتَيْتُ أَمْرًا عَظِيمًا، فَقُلْتُ لَهُ: أَكَانَ يُكْرَهُ مَا قُلْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ، «كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَنْهَى عَنِ الْحَلِفِ بِالْأَمَانَةِ أَشَدَّ النَّهْيِ». 

وها هو حبر الأمّة وترجمان القرآن يقول في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22]: (الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاه سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان وحياتي ... لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بإسناد جيد.

ومراد ابن عباس – رضي الله عنهما – أن الآية عامّة في تحريم الشرك بأنواعه، فهي وإن كانت في الأكبر إلا أنها تشمل ما دونه، ومنه الشرك في الألفاظ، الذي منه الحلف بغير الله، كالحلف بحياة المخلوق كما مثَّل بذلك ابن عباس – رضي الله عنهما - .

وقال ابن مسعود – رضي الله عنه -: (لأن أحلف بالله كاذباً أحبّ إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً) رواه الطبراني في المعجم الكبير وصححه الألباني في الإرواء.

ولعلَّ البعض يستغرب هذا من ابن مسعود، لكن يُقال: لا غرابة إذا عُرِف أن (الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله توحيد، وتوحيد معه كَذِب، خير من شرك معه صدق)(12) .

ولأهمية هذا الموضوع اعتنى مدوّنو السُنّة، وعلماء الحديث بالنصوص الواردة في المسألة، فأوردوا تلك الأحاديث الواردة في النهي عن الحلف بغير الله في مصنفاتهم وبوَّبوا عليها أبواباً عديدة تُظهر حرصهم، وشدة غَيْرَتِهِم على حقوق الله تعالى، وحمايتهم لدينه جل وعلا(13) .

وبما تقدم من النصوص السابقة نستفيد عدة فوائد:

1-    تحريم الحلف بغير الله لما سبق من النصوص في ذلك، ولما اشتمل عليه هذا العمل من مفاسد.

2-    أن النهي عن الحلف بغير الله عامّ، لعموم الأدلة في النهي عن ذلك، دون التفريق بين مخلوق وآخر.

3-    أن النهي عن ذلك يشمل جميع صور حالات الحلف بغير الله، سواء على جهة التعظيم أو لا، وسواء على سبيل الجدّ أو المزاح وما شابه ذلك.

4-    عناية النبي – صلى الله عليه وسلم – بقضايا التوحيد، وسدِّه كل ما يؤدي إلى خدشه أو الإخلال به ولو كان يسيراً في أنظار الناس، أو مَحلِّ تساهل عندهم، ولهذا نظائر، منها: ما رواه النَّسائي في عمل اليوم والليلة من حديث ابن عباس أن رجلاً أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فكلمه في بعض الأمر فقال: ما شاء الله وشئت، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – (أجَعَلْتَني لله عَدْلاً ؟ قُلْ: ما شاء اللهُ وحده)، وهكذا شأنه – صلى الله عليه وسلم – في سائر المسائل المخالفة لتوحيد الله أو المؤدية إلى الإخلال به، مما يدل على شدة اهتمامه ببيان هذه المسائل وإيضاحها .

ختاماً: لا يعارض ما تقدم بيانه قوله – صلى الله عليه وسلم – للأعرابي الذي جاء يسأل عن الإسلام، ثم أدبر وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه: (أفلح وأبيه إن صدق) أو (دخل الجنة وأبيه إن صدق) متفق عليه.

فإن المسألة قد تناولها العلماء بالبحث، وأجابوا عنها بأجوبة عديدة تربو على سبعة أجوبة، أسعدها بالدليل وأقربها للصواب، وعليه أكثر الشراح (14)، قول من قال بالنسخ، وأن ذلك كان جائزاً في أول الأمر، ثم ورد النهي بنقل الحكم من الإباحة إلى التحريم.

والدليل على ذلك: أن يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تُنَدِّدون وإنكم تُشْرِكون، تقولون: ما شاء الله  وشئت، وتقولون: والكعبة، ( فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربّ الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثم شئت ) رواه النسائي وأحمد والحاكم وغيرهم وهو صحيح.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

وكتبه يوسف حسن محمد الحمادي


 

(1) انظر: تيسير الكريم الرحمن (914، 929) .

(2) انظر: فيض القدير (1 / 286) .

(3) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (1 / 80 – 81) (27 / 93) .

(4) الجامع لأحكام القرآن (6 / 175) .

(5) انظر: فتح الباري لابن حجر (11 / 531) .

(6) انظر: تجريد التوحيد المفيد (45) .

(7) انظر: النهاية في غريب الحديث (5 / 35) .  

(8) انظر: فيض القدير  (6 / 120) .

(9) فتاوى ابن تيمية (11 / 506) .

(10) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (2/ 215).

(11) انظر:  شرح مشكل الآثار (2 / 297) .

(12) فتاوى ابن تيمية (1 / 81) .

(13) انظر البخاري مع الفتح (11 / 530)، ومسلم مع شرح القاضي  (5 / 400)، وصحيح ابن حبان (10 / 199) وما بعدها.

(14) انظر فتح الباري (11/534).