إنها فتنة .. ادفعوها بالتقوى


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

في خضم ما نواجهه في هذه الأيام من فتن، وفي ظل ما نكابده من سهامٍ حاقدة على أهل العلم والأمراء(*)،  أود أن أساهم بقلمي في سبيل القضاء على هذه الفتنة، بدفعها وإطفائها بالتقوى.

اعلم أخي الكريم - وفقك الله لكل خير - أن التقوى كلمة كثيراً ما تتكرر على الألسنة، وكثيراً ما نسمعها من حولنا، فبين قائل: "اتق الله" أو قائل "ألا تتقي الله" أو "أوصيك بتقوى الله" ونحوها من العبارات.

فهل يُكرر الإنسان كلاماً لا يعقل معناه؟!لو تأملنا القرآن الكريم، لوجدنا هذه الكلمة كثيرة التكرار فيه، فمن ذلك قوله تعالى: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] [البقرة: 197].

[وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] [الأعراف: 26].

فما هي التقوى التي يقول الله لأهلها: [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا] الآيات [النبأ: 31 - 36].

ما هي التقوى التي مدح الله أهلها فقال: [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ] [القمر: 54، 55].

ما هي التقوى التي يقول الله فيها: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] [آل عمران: 102]. ويقول: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] [المائدة: 27]

ما هي التقوى التي يقول الله فيها : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] [التوبة: 119]، وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا] [الأحزاب: 70].

 

أيها الأحبة: إن حقيقة التقوى عَرّفها طَلْقُ بن حبيب وهو أحد الصالحين، عرفها تعريفاً محكماً جامعاً مانعاً، وذلك لما قامت فتنة ابن الأشعث عندما خرج على الحجاج بن يوسف الثقفي - وكثير منا يعرف هذه الفتنة - فالحجاج عُرف عنه أنه كان مستبداً ظالماً سفاكاً للدماء، وكان له قائد لجيشه يقال له ابن الأشعث، وكان قائداً محنكاً لا يشق له غبار، ولا يكاد ينهزم في معركة، وكانت بينه وبين الحجاج نفرة شديدة، كلّ منهما يُبغض الآخر بُغضاً شديداً. فما لبث ابن الأشعث أن خرج على الحجاج، وخلع البيعة من عبد الملك بن مروان، وكانت الجيوش معه، فوقعت بينهما حروب طاحنة، أزهقت فيها الأنفس، وأريقت فيها الدماء، فصار الناس في هرج ومرج.

فجاء الناس إلى طلق ابن حبيب يسألونه عن هذه الفتنة، فقال لهم: إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتَّقوى؛ قالوا: وما التَّقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله، على نورٍ من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على، نورٍ من الله، تخاف عقاب الله [مصنف ابن أبي شيبة].

قال ابن القيِّم معلقاً على هذا التعريف للتقوى: "وهذا من أحسن ما قيل في حدِّ التَّقوى" [الرسالة التبوكية].

وقال الذَّهبي: «أبدعَ وأوجز, فلا تقوى إلاَّ بعمل، ولا عمل إلاَّ بتروٍّ من العلم والاتِّباع, ولا ينفع ذلك إلاَّ بالإخلاص لله, لا ليقال فلان تاركٌ للمعاصي بنور الفقه, إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها, ويكون التَّرك خوفًا من الله, لا ليمدح بتركها؛ فمن داوم على هذه الوصيَّة فقد فاز" [سير أعلام النبلاء].

وقال ابن القيِّم كذلك: "فإنَّ كلَّ عملٍ لابدَّ له من مبدأ وغاية فلا يكون العمل طاعةً وقربةً حتَّى يكون مصدره عن الإيمان, فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض لا العادة ولا الهوى، ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك, بل لابدَّ أن يكون مبدؤه محضَ الإيمان وغايتُه ثوابَ الله وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب" [الرسالة التبوكية].

فقول طلق رحمه الله: "عمل بطاعة الله" معناه أن كل ما كان داخلاً في مسمى الطاعة؛ فإنه داخل في التقوى.

وقوله: "على نور من الله" أي أن تكون هذه الطاعة مبنية على علم وبصيرة، والعلم هو نور من الله، قال تعالى: [قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ] [المائدة: 15].

ومن عمل عملا بلا علم، أو على غير هدى فإن ذلك مردود عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه مسلم.

وحقيقة العلم هي ما كان نابعاً من الكتاب والسنة، على فهم سلف هذه الأمة، لا على فهم أهل الزيغ والهوى:

العلم: قال الله قال رسوله *** قال الصحابة هم أولو العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة *** بين الرسول وبين رأي فلان

 

إن العلم الصحيح هو الذي يجر إلى عمل صالح، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والخير والسعادة والكمال والصلاح منحصر في نوعين: في العلم النافع والعمل الصالح" [مجموع الفتاوى].

وقوله: "ترك معصية الله" هذا الترك، ترك عام شامل لجميع المعاصي من أعظمها إلى أصغرها، وأعظم المعاصي الشرك بالله، ثم البدع، ثم بقية الذنوب.

وترك المعاصي أمر شاق، لا يطيقها كل أحد، ولهذا قال ميمون بن مهران: "أعمال البر يعملها البرّ والفاجر، وأما ترك المعصية فلا يقوى عليه إلا صِدّيق".

فالبر والفاجر من الناس يشتركون في حبهم للخير، وبذل أموالهم في ما يُرضي الله من وجوه الخير، أما ترك المعصية فلا يقوى عليها إلا من كان صدقاً مع الله في قوله، وفي عمله، وفي اعتقاده.

وكل إنسان يعلم من نفسه هل هو صدّيق أو لا.

قوله: "على نور من الله" بأن يكون الترك مبني على علم، تركتَ لأنك علمت أن الله نهى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حذّر.

قوله: "رجاء ثواب الله .. مخافة عقاب الله" أي أن يكون ذلك إخلاصاً لله تعالى ورجاءً فيما عنده، وخوفاً منه. لا يكون ذلك رياءً وسمعة، أو أن يكون ذلك الفعل أو الترك لوجود والٍ أو مسؤول عليك.

أيها القارئ الكريم، بعد أن وقفنا على هذا التفسير لكلمة التقوى، هل بقي شيء من الدين لم يدخل في معناها؟! 

لا، لا يوجد شيء من الدين إلا وهو داخل في معنى هذه الكلمة.

فإذا عرفنا هذا المعنى؛ علمنا دلالة قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ" [آل عمران: 102]، وعلمنا معنى قوله: "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" [المائدة: 27].

وختاماً – أخي الكريم – 

إن علاقة حديثي عن التقوى مع ما نعايشه من فتن في هذا العصر - لا سيما الفتنة التي أشعلها كثير ممن ينتسب إلى الصلاح، وكثير ممن جعل الإصلاح شعاراً يطبل فيه - إن العلاقة تكمن في أن هذه الفتن لا بد وأن يُتصدى لها بالتقوى، وأن تُدفع وتُطفأ بالتقوى.
وليس من التقوى أن تُلوى نصوص الشريعة لتهييج الناس، وتأليبهم على ولاة الأمر.

ليس من التقوى أن تُخلع البيعة التي هي عصمة من الوقوع في الفتن.

ليس من التقوى أن تُثار العواطف، بدعوى الظلم، وبدعوى حفظ الحقوق، وبدعوى إنكار المنكر.

إن حقيقة التقوى إنما تكون بالوقفة الصادقة مع الله جل وعلا، بامتثال أوامره، واتباع سنة رسوله، لا أن نتلاعب في نصوص الشريعة ونكيفها على وفق ما تهواه أنفسنا.والله المستعان



وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتبه أبو عبد الله علي سلمان الحمادي
ليلة الثامن من ربيع الأول لعام 1433من الهجرة النبوية
الموافق: 31/1/2012م

 

 


(*) إن أهل البدع والأهواء يحرصون حرصاً شديداً على تسليط سهامهم على العلماء والأمراء، لأن عامة الناس تتمسك بهذين الركنين، فبهما تندفع الفتن، وتستقيم الحياة، وبزعزة الثقة عن هذين الركنين فإن الناس يفقدون ثقتهم فيهما، فحينها يخلوا الجو لأهل الأهواء والبدع في نشر أفكارهم، واستدراج عامة الناس، باسم الدين والإصلاح، وصدق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم حين قال: "دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" رواه البخاري ومسلم.