حقُّ الجارِ


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ:

فقد اعتنى الإسلام بالجار عنايةً كبيرة، وقد بلغت الأحاديث النبوية حد التواتر في بيان ذلك.

ومنها:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)([1])، وفي رواية عند مسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)([2])، وإكرام الجار: هو الإحسان إليه؛ لأن هذا الحديث فسَّر الحديث الذي قبله.

والجار حقه من الحقوق المؤكدة في الإسلام: والأحاديث التي تبين حقوق الجيران، و إكرام هذا الجار، و الترهيب من إيذائه، وإلحاق الضرر به أحاديث كثيرة جدا بلغت حد التواتر المعنوي.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)([3])، جبريل عليه السلام يوصي محمداً صلى الله عليه وسلم مرات كثيرة، قال: (حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)، أي: سيجعله من الورثة، وفيه بيان بعض حقوقه من الإحسان إليه و إكرامه.

وأيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)([4])، هذا الجار دائماً خائفٌ مِن جاره أن يؤذيه، وأن يسيء إليه، هذا الجار الذي لا يأمن جاره شروره، لم يؤمن الإيمان الكامل، الإيمان الحقيقي.

وأيضا جاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا)([5]) فجعل صلى الله عليه وسلم إكرام الجار والإحسان إليه من الإيمان، وعدم الإحسان إلى الجار مِن نقص الإيمان.

فإكرام الجار يكون ببرِّه بأنواع الإحسان، وأيضا كفُّ الشرِّ عن هذا الجار، وسنذكر أمثلة على ذلك.

الجيران ثلاثة:

1- جار مسلم وذو قرابة، (له ثلاثة حقوق): حق الإسلام، وحق القرابة، و حق الجوار.

هذا الجار المسلم له حقوق المسلم كبقية المسلمين وإذا كان من الأرحام ومن ذوي القربى، له حق الصلة و القرابة، وله حقُّ الجوار.

2- جار مسلم ليس بذي قربى، (له حقان) وهما: حقُّ الإسلامِ، وحقُّ الجوار.

3- جار ليس بمسلم ولا ذي قربى: (له حق الجوار فقط).

 إذاً: حتى غير المسلمين من الجيران لهم حق الجوار في ديننا، وهذا يبين سماحة ديننا، ويبين رحمة هذا الدين، وأخلاقه العظيمة وآدابه، حتى هذا الجار المشرك له حقوقٌ ولا يجوز أذيته كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري عند شرحه لهذا الحديث: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ).

يقول: (وَاسْمُ الْجَارِ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَالصَّدِيقَ وَالْعَدُوَّ، وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ، وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَالْقَرِيبَ وَالْأَجْنَبِيَّ)([6])، فاسم الجار في هذا الحديث يشمل المسلم والكافر، والعابد و الفاسق، والصديق والغريب، والنافع والضار، حتى لو كان هذا الجار يسبب الضرر والأذية يجب إعطاؤه حقه كجار، فلا تعامله بالمِثل، فحق الجار قد اعتنى به الإسلام.

وأولى الجيران بالإحسان: مَن يكون أقربهم باباً؛ لأنه يشاهد ما يدخل في بيت جاره، ويطَّلعُ على إحسان الجار، وإذا رآه والباب قريبٌ منه سلَّم عليه؛ فيرد عليه السلام، فأولى الجيران بالإحسان من يكون أقربهم بابا؛ ولذلك عائشة رضي الله عنها قالت: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا)([7]).

تقول عائشة رضي الله عنها: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟)، عندي هدية واحدة فإلى أيِّ جارٍ أعطي منهما، قال صلى الله عليه وسلم: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا)، فأولى الجيران بالإحسان مَن يكون أقربهما بابا.

والإسلام كذلك قد اعتنى بإكرام الجار: وجَعَلَ الإحسانَ إليه في مرتبة الإيمان: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)([8])، (أَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا)([9])، فجعل الإسلام الإحسان إلى الجار من مرتبة الإيمان أعلى من مرتبة الإسلام؛ لعِظَمِ حقِّ الجارِ؛ لأن الجيران قد يحصل بينهم بحكم التجاور ما يوجِبُ الوَحشَةَ والتنافرَ والخلافَ، فجاء الأمر بالإحسان لإزالة هذه الشحناء، وهذه الوحشة بين الجيران.

والإحسانُ أمرٌ زائدٌ على المحبةِ وإن كان لا يستلزمُ المحبةً: عندك جارٌ أنت لا تحبه، لكن يجب عليك الإحسان إليه لأنه جارك، ويجب كف الأذى عنه، فقد يحسِنُ إلى جاره أو الذي يكرهه لأنه مأمور شرعاً بالإحسان إليه، فعلينا أن نجعل الإسلام هو الحكم في تعاملنا و مشاعرنا وعواطفنا مع الناس، فلا أقول: هذا قريبي، فإن أغضبني لا أعطيه حقه، بل يجب إعطائه حقه؛ لأنه مِن ذوي الأرحام وذوي القرابة ولو كنت تكرهه.

نجد الآن أكثر الناس يتعاملون مع بعضهم بالعاطفة، وبردَّة الفعل: ولا يتعاملون بالإسلام، فالإسلام هو أن تعطيه حقه وإن قصَّر هو في حقك، وإن هو قَطَعَك، فيجب عليك أن تصل مَن قطعك؛ لأنه واجب عليك أن تصل أرحامك وإن هم قطعوك، فإن لم يقوموا هم بهذا الواجب فقم أنت به، وكذلك مع الجار، قم بواجب الإحسان إليه وإن هو قطعك.

والأحاديث كثيرة في الإحسان إلى الجار: وقد جاء منها في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لاَ يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ)([10])، فلا يجوز لك أن تمنعه.

وقد يظن بعض الناس أن إكرام الجار هو مجرد كف الأذى عنه فقط: وهذا غير صحيح، فإن مِن إكرام الجار احتمالُ الأذى منه، وليس فقط كفُّ الأذى عنه، فتحتمل أذاه لو آذاك وأغضبك.

كذلك الإحسان إلى الجار بالقول الحسن: والسلام، وطلاقة الوجه، ومشاركته في أفراحه وفي أحزانه، والسؤال عنه، وتفقُّده، وتفقُّد أولادِهِ إذا غاب، فهذا مِن ديننا.

ولذلك: صح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ)([11])، فالأمر ليس بالهين، فعلينا أن نعود إلى الإسلام، ونرجع إلى أخلاق الإسلام.

تفقد الجيران من حقوقهم: ومشاركتهم في أفراحهم وفي أحزانهم، إذا مات عندهم أحد فنذهب إلى تعزيتهم، وإذا كان عندهم فرح أو زواج نجيبُ الدعوة؛ لأن ذلك من حقوق الجار.

والإسلام جعل الجار الصالح من السعادة: فمن سعادة المؤمن أن يكون جاره من الصالحين، وهذه نعمة عظيمة، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يختارون الجار قبل الدار، قبل أن يشتري هذه الدار يسأل عن جيرانه فيها، فإذا علم أنهم صالحون يشتري الدار بأي ثمن؛ لأن الجار الصالح من السعادة.

صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح ابن حبان أنه قال: (أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضِّيقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ)([12])، فيجب الصبر على أذى الجار.

والصبر على أذى الجار سبب لمحبة الله عزّ وجل للعبد: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ: الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ)([13])، فالصبر على أذى الجار من أسباب محبة الله عزَّ وجل.

ومن الإحسان إلى الجار: إذا استعانك أَعَنتَهُ، وإذا استقرضك أقرضْتَهُ، وإذا مَرِضَ عُدْتَه، وإذا دعاك إلى الطعام أجبته، وإذا نسي الله ذكَّرتَهُ، وإذا مات اتبعت جِنازته، فهذا من الإحسان إلى الجار.

وأذية الجار من كبائر الذنوب: قال رجل يا رسول الله: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ)([14]).

فأذية الجيران من كبائر الذنوب: وهي معصيةٌ متوعَّدُ صاحبها بالنار، وهذا دليلٌ على أنها مِن كبائر الذنوب.

فالجار في الإسلام شأنه عظيم، وحقه كبير، فحفظ حق الجار من ديننا، ومن إيماننا، وعلينا أن نتعلم الإحسان إلى الجيران، والصبر على أذاهم، وكيف نتعامل معهم.

وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين

 


 


([1])  متفق عليه: رواه البخاري برقم (6019) واللفظ له، ومسلم برقم (47).

([2])  صحيح مسلم برقم (48).

([3])  متفق عليه: رواه البخاري برقم (6015)، ومسلم برقم (2625).

([4])  متفق عليه: رواه البخاري برقم (6016) واللفظ له، ومسلم برقم (46).

([5])  مسند أحمد برقم (8096)، وهو عند الترمذي، والبخاري في الأدب المفرد.

([6])  فتح الباري لابن حجر (10/ 441)

([7])  صحيح البخاري برقم (2259).

([8])  تقدَّم تخريجه.

([9])  تقدَّم تخريجه.

([10])  متفق عليه: رواه البخاري برقم (2463)، ومسلم برقم (1609).

([11])  المعجم الكبير للطبراني برقم (751)، وهو في صحيح الجامع برقم (5505).

([12])  صحيح ابن حبان برقم (4032)، وهو في صحيح الجامع برقم (887).

([13])  مسند أحمد برقم (21340)، وهو في صحيح الجامع برقم (3074).

([14])  مسند أحمد برقم (9674)، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (190).