الثبات على الإسلام


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

   الحمد لله رب العالمين والصلاةُ والسلامُ علي خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله  أما بعد،،

المقدمـــة

فإنّ سعادة الدنيا والآخرة ونعيمَهُما مبنيّ على التمتع بالإسلام والسنّة والعافية، والثبات على الهداية والإسلام والسنة نعمةٌ من عند الله يمُنّ الله بها على من يشاء من عباده ، والنعم كثيرةٌ من الله تعالى ، قال تعالى ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، فهناك نعمة الصحة، ونعمة الغنى وعافية الجسد وبَسطة الجاه وكثرة الولد وغيرها. أما نعمة الإسلام والثبات عليه فهي النعمة الحقيقية التامة، ولا حياة حقيقية طيبةً إلا بالإسلام والثبات عليه ،والإسلام كالشجرة الطيبة عُروقها العلم واليقين، وساقها الإخلاص، وفروعها العمل الصالح والكلم الطيب، وثمرها الآثار الحميدة والأخلاق الكريمة، وثبوت العبد على هذه الأمور تعني ثبوته على الإسلام والهداية . والثبات على الإسلام والهداية نعمة من عند الله تعالى إذا اتخذ العبد الأسباب لذلك ، قال الله تعالى ﴿ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]،

 

 قال قتادة رحمه الله: ( أي يثبتهم في الحياة الدنيا بالخير والعمل الصالح ، وفي الآخرة يثبتهم في القبر عند سؤال الملكين ) ولقد امتنَّ الله عز وجل على رسوله بنعمةِ التثبيت على الإسلام والهداية، قال تعالى ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا [الإسراء:74]

فنظراً لأهمية هذا الموضوع من حيث أنه يُعنى بالكلام عن أعظم نعمةٍ أنعمها الله على عباده، ونظراً لكثرة الفتن والشبهات والشهوات التي تصد عن سبيل الله، وكذلك لغربة الإسلام بين أهله في جميع المجالات، وأيضاً لكثرة من ينتكسُ عن طريق الهداية، ويضعف عن التمسك بالإسلام، ولحاجة الأمة لهذا الموضوع في هذا الزمان أكثر ممّا مضى، سنتكلم إن شاء الله عن موضوع الثبات على الإسلام والهداية في النقاط التاليــة:  

 أ) أبواب الثبات في الإسلام.     

ب) وسائل الثبات على الإسلام .

  

أ) أبواب الثبات على الإسلام

1- الثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل  : قبل المعركة وعند لقاء العدو وفي المعركة وبعد النصر قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ[الأنفال:45]

2- الثباتُ في ميدان الدعوةِ إلى الله عز وجل: فالداعيةُ إلى الله على بصيرةٍ لابد أن يتميّز بالانعزالِ التام عن المنكر، فلا يخلط عملاً صالحاً بآخر منكراً، لا يداهنُ ولا يلينُ في موقفِه من الدين ﴿ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا [النساء : 27]، فأصحابُ الشهواتِ والجاهِ يحاولون إغراءَ الداعيةِ لينحرفَ ولو شيئاً قليلاً ويستدرجونَ الداعية ليتنازل عن شيءٍ من دينه فإذا فعل كافئُوهُ وقرَّبُوه ، قال تعالى﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلا [الإسراء: 73]

 وقال ابنُ الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس(ومن تلبيسِ إبليسَ على الفقهاءِ) : مخالطتُهم الأمراءَ والسلاطين، ومداهنتُهم، وتركُ الإنكارِ عليهم، مع القدرةِ على ذلك، وربَّما رخّصوا لهم فيما لا رخصةَ لهم فيه لينالوا من دنياهُم عَرضاً ، فيقع بذلك الفسادُ لثلاثةِ أوجه:

*        الأول: الأمير، يقولُ: لولا أنِّي على صواب لأنكرَ عليَّ الفقيهُ وهو يأكل من مالي ؟!

*         الثاني: العامِّي، يقولُ: لا بأس بهذا الأميرِ ولا بأفعاله فإنَّ فلاناً الفقيه لا يَبرحُ عنده .

*         الثالث: الفقيهِ ، فإنه يفسدُ دينَه بذلك.

ولذلك قال سفيان  الثوري رحمه الله: ( ما أخافُ من إهانتهم لي ، إنّما أخافُ من إكرامهم لي فيميلُ قلبي إليهم )([1])، فالداعيةُ إلي الله عز وجللا يداهن ولا يلينُ في موقفه من الدين، بل يثبتُ عليه ولا يتنازل عنه، ويحذر معوّقات الثبات، ويأخذ بأسباب الثبات على هذا الدين .

3- الثباتُ عند المصيبةِ والبلاء : ولابدَّ من البلاءِ ليصلُبَ عودُ المؤمنِ ويقوَى ساعدُه، قال تعالى﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين [البقرة : 155] ، فلا أحدَ يسلمُ من آلامِ النفسِ وأمراضِ البدنِ وفقدانِ الأحبَّةِ وخسرانِ المال، والمؤمن يتلقَّى هذه المصائب برضًى وطمأنينةٍ لأَنه يعلمُ بأن ما أصابه لم يكن ليخطئَهُ.

والمؤمن يثبتُ ويصبرُ عن شهوات النفس، ويثبت ويصبر على طاعةِ الله .

4- الثباتُ عند الممات :  فإذا أصيبَ المرءُ في محبوبِه من الأهل فليعلم أن ذلك مقدَّرٌ وأن الجزَعَ مصيبةٌ ثانية، وإذا أصيبَ في نفسِه وشَعَر بمرضِ الموتِ فلا يعترضْ ولا يتسخَّطْ، بل عليه أن يجدّد إيمانَه ويرضى بقضاءِ الله عز وجل، ويَحبُّ لقاءَ الله ويحسنُ الظنَّ به، وهذه حالةُ من ثبَّتَه اللهُ عز وجل عند الممات

 ب) أسبابُ الثباتِ على الهدايةِ والإسلامِ :

1- الإقبالُ على القرآن الكريم وتدبُّر آياتهِ : فالقرآنُ من أهم أسباب الثبات ،قال تعالى﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين [النحل: 102] ، والقرآن يزيدُ الإيمانِ – قال تعالى ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا[الأنفال:2] ، وحتى يكونَ القرآن مثبِّتاً للعبد على دين الله لابد من الإقبالِ على القرآن تلاوةً و حفظاً وتفسيراً وعملاً .

2- الإقبالُ على السُنَّةِ النبوية علماً وعملاً ودعوةً : فالالتزامُ بالسُنّةِ والبحثُ عنها ودراستُها والعملُ بها والدعوةُ اليها والصبرُ على التمسَّك بها من أهم أسبابِ الثباتِ على الإسلام.

3- دراسة قصص الأنبياء والصالحين للتأسي بهم وبثباتِهِم : قال الله تعالـى﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...[هود:120] ، مثلاً : قصَّةُ إبراهيم عليه السلام حين أُلقيَ في النّار، وقصَّةُ موسى عليه السلام حين تعقَّبَهُم فرعوُن وجنودُه، قال تعالى﴿ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُون ، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين[الشعراء: 61-62]

وكذلك قصةُ أصحابِ الكهف، وقصةُ أصحابِ الأخدودِ وغيرها. وقد كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتلو على أصحابِه من أخبار الدُّعاةِ السابقين الذين ثبتُوا على الحقَّ

أ) فعن خبَّابِ بن الأرَت رضي الله عنه قال ( شكونا إلى رسول الله وهو متوسِّدٌ برُدةً له في ظلِّ الكعبةِ – قلنا له : ألا تستنصرُ لنا ، ألا تدعوا اللهَ لنا ؟  قال :" كانَ رجلٌ فيمن قبلكم يحُفرُ له في الأرض فيُجعل فيه فيُجاءُ بالمنشار فيوضَعُ على رأسه فيُشَقُّ باثنتين، وما يَصُدُّهُ ذلك عن دينه ويمُشطُ بأمشاطِ الحديَدِ ما دونَ لحمه من عَظم أو عَصبٍ وما يصدُّهُ عن دينه ) ([2])

ب) عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : (كان ملكٌ فيمن قبلكُم وكانَ له ساحرٌ فلمَّا كَبُرَ قال للملك : إنِّي قد كبرَتُ فابعث إليَّ غلاماً أعلِّمُه السحرَ )([3]) الحديث – وفي آخر الحديث – (آمنَ الناسُ ، فأمِرَ بالأخدُودِ وأضرمَ فيها النارُ وقال الملك : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ، ففعلوا حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام : يا أُمَّه اصبري فإنّكِ على الحقِّ )  

جـ) وثبتَ خُبيبُ بنُ عدي  رضي الله عنه وهو يقطّعُ إرباً ارباً ، وثبت سعيدُ بنُ جُيير رحمه الله أمام سيفِ الحجّاج بن يوسف الثقفي، وثبت أحمدُ بنُ حنبل رحمه الله في المحنةِ، وثبت شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله في سجن القلعةِ، وهكذا في الحديث (لا تزالُ طائفةٌ من هذه الأمّةِ قائمةٌ بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم ولا مَنْ خالفهُم حتى يأتيَ أمرُ اللهِ وهم على ذلك )([4]) وهو حديثٌ متواتر .

4- من أهم أسباب الثبات على الهداية والإسلام :سلوكُ منهج وفهمِ السلفِ الصالحِ في فهم الدينِ ، وتطبيقُه فهذا هو الطريق الصحيحُ الوحيدُ للثبات على الحقِّ والهداية، أما الطُرقُ الأخرى فتزيدُ الإنسانَ ضلالاً يوماً بعد يومٍ ، وانظروا إلى أصحابُ الفرق والأحزاب قديماً كالأشاعرة وحديثاً كحزب التحرير مثلاً، أما أصحاب الحديثِ أتباعُ السلف الصالح فهُم الثابتُون قرناً بعد قرنٍ والحمدُ لله، ( وكذلك الإيمانُ إذا خالطَتْ بشاشَتُه القُلوب ) .

5- ومن الأسباب: التربيةُ الإسلاميةُ الفرديَّةُ والجماعية ُ تربيةُ إيمانيةٌ علميةٌ متدرِّجةٌ قائمةٌ على الكتاب والسُنَّةِ وفهم السلف الصالح، وبغير هذه التربية لا يستطيعُ المؤمنُ الثباتَ أمام وجودِ المغرياتِ والشهوات والشبهات والسخريةِ والابتلاء والمحنِ . وهذه التربيةُ تكونُ في إطارِ طلب العلم الشرعي وتصحيح العبادةِ والدعوةِ إلى الله تعالى .

6- ذكرُ الله تعالى : فإذا ذَكَرَ العبدُ اللهَ اطمئنَّ قلبُه فثبت على الهدايةِ ، قال تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب[الرعد:28] ، فالمؤمنُ إذا أراد أن يُثَبِّتَه الله تعالى على الهداية ، عليه أن يكثرَ من ذكر الله تعالى فيحافظُ على أذكار طرفي النهار وأدبارِ الصلوات وأذكار الأكل والآداب الشرعية .

7- الدعاءُ : الطلبُ والإلحاحُ بأن يُثبتَّنا اللهُ على الهدايةِ ولذلك كانَ من دعاء المؤمنين ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، وقال الله تعالى﴿ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين [البقرة:250]، وكانَ من دعائه صلى الله عليه وسلم " يا مقلّبَ القلوبِ ، ثبِّتْ قلبي على دينك "([5]) وهو صحيحٌ ، والدعاء من أهم أسباب الثبات على الهداية والإسلام.

8-الإلتفافُ حول العناصرِ المثبِّتةِ: الرفقةِ الصالحةِ : الجليسُ الصالحُ من أهم الأسباب للثبات على الهدايةِ وأحسنُ الجلساءِ الصالحين هم العلماء وطلبهُ العلم.

9- ومن الأسبابِ التى تعيُن على الثبات :-الصبرُ بأنواعه الثلاثـة: الصبرُ على الطاعةِ ، الصبرُ عن المعصيةِ ، الصبرُ على البلاءِ بأنواعه.

10- ومن أسباب الثباتُ على الهدايةِ : الثقةُ بنصرِ الله والإيمانُ بأن المستقبل للإسلامِ وعدمُ الإغترار بقوّةِ الباطلِ : فالله عز وجل متمُّ نورِه ولو كرهِ الكافرون، والإسلامُ سيدخلُ في كلِّ بيتٍ بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليل، فالمؤمنُ لا يغترَّ بالباطل وقوّتَه، قال تعالى ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد [آل عمران: 196-197] ، فهذا الإحساسُ يدفع المؤمنَ إلى مزيدٍ من الثبات.

11- الثباتُ في الفتنِ من أهم أسباب الثباتُ على الهدايةِ والإسلامِ : والفتنُ كثيرةٌ وأعظمُ فتنةٍ هي فتنةُ الدجّال ولذلك قال فيه رسول اللهصلى الله عليه وسلم (يا عبادَ الله أيها الناس فاثبتُوا فإنِّي سأصفُه)، فأمرهم  صلى الله عليه وسلمبالثبات في هذه الفتنةِ ومن الفتن : فتنةُ المال، وكثيرٌ من الناس لا يثبتُون أمام فتنة المال، ومن الفتن: فتنةُ الجاهِ والمنصب والوظيفةِ العاليةِ . ومن الفتن : فتنةُ الزوجةِ والأولاد، والفتن كثيرةٌ، ويقولُ عنها رسول اللهصلى الله عليه وسلم ( تُعرضُ الفتنُ على القلوبِ عرضَ الحصيرِ عوداً عوداً ... ) ([6])

   فنسأل اللهَ صلى الله عليه وسلمأنْ يُثبِّتَنا على دينه، ( يا مقلّبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك )

 

 

والله أعلم

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم

 


 

([1]) تلبيسُ إبليس ( 121-122)

([2]) البخاري فتح الباري (6/619)

([3]) رواه مسلم (3005)

([4]) متفق عليه

([5])  رواه الترمذي

([6]) أحمد ومسلم .