أحكام تشبه الرجال بالنساء والعكس


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

المقدمـــة

فلقد حرص الإسلام على تكوين شخصيةٍ مستقلةٍ للفرد المسلم وللمجتمع المسلم، كما أن الإسلام حرص على إعطاء الرجل والمرأة كرامتهما وإنسانيتهما وحقوقهما كاملةً تامةً، وفرَّق بينهما في بعض الأحكام لضرورةٍ جِبلّيةٍ وخَلقيةٍ ولصالح كل منهما وسعادته. ولأن لكل منهما خصائص ينفرد بها عن الآخر في تكوينه وفي طباعه وصفاته النفسية والعقلية، وانطلاقاً من ذلك جاء الإسلام بالنهي عن تشبه كل منهما بالأخر، فقد لعن رسول الله  صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال([1]).

قال ابن حجر رحمه الله:( قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس.

 قال ابن حجر رحمه الله: وكذا في الكلام والمشي لمن تعمد ذلك، أما من كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه بالتدريج ، فإن لم يفعل وتمادى ، دخله الذمّ ولحقه اللوم )([2]).

 وأهم نقاط البحث:

ما هو تعريف التشبه؟ وما هي الألفاظ المقاربة للفظ التشبه؟، وما نُهي عن التشبه به؟، وما هي أحكام تشبه الرجال بالنساء والعكس؟، وما هي القواعد الشرعية في هذا الباب؟، وما الحكمة من النهي عن التشبه المذكور؟، ونختم بذكر أمثلة من تشبه الرجال بالنساء وأمثلة من تشبه النساء بالرجال.

أولًا: تعريف التشبه:

فهو تكلف الإنسان مشابهة غيره في كل ما يتصف به غيره أو بعضه، فالتكلف هو قصد ذلك وتعمده فيخرج بذلك ما يقع بدون قصد. وأكثر إطلاق التشبه على الأمور الظاهرة من أقوال أو أفعال دون الأمور الباطنة.

وأظهر الألفاظ المقاربة للفظ التشبه: التمثل والمحاكاة والمشاكلة والاتباع والتأسي والتقليد .

ثانيًا:ما نُهي عن التشبه به:

أصناف كثيرة منها الكفار والشيطان والفساق والحيوانات وغيرها. ومن ذلك تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال.

ثالثًا: القواعد الشرعية في باب تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال:

أ‌-  كل ما اختص به الرجال شرعاً أو عرفاً مُنع منه النساء ، وكل ما اختصت النساء به شرعاً أو عرفاً مُنع منه الرجال: تفيد هذه القاعدة أنما كان من خصائص الرجال أو النساء ففعله لمن لم يختص به منهما محرم، وهذا يدخل فيه كل ما يتميز به أحدهما عن الآخر سواء في اللباس وهو الغالب، أو في الحركة والنطق ونحو ذلك، ويكون اختصاص أحدهما بأمر دون الآخر إما بتخصيص الشرع له بذلك كالحرير ولبس الذهب والحجاب والتزعفر للمرأة ونحو ذلك مما ورد بها الدليل، ويكون اختصاص أحدهما بأمر دون الآخر بالعرف أيضاً وذلك إذا لم يخالف نصاً أو دليلاً شرعياً.

قال ابن تيمية رحمه الله:( إن الأصل في ذلك ليس هو راجعا إلى ما يختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه  فإنه لو كان كذلك لكان إذا اصطلح قوم على أن يلبس الرجال الخُمُر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تُسدل من فوق الرؤوس، وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة ونحو ذلك أن يكون هذا سائغاً، وهذا خلاف النص والإجماع )([3])، والمنع في القاعدة يقصد به التحريم للأدلة المتضمنة للعن فاعل التشبه بالآخر من الرجال والنساء، كما ورد فيه قول( ليس منّا ) مما يدل على أن هذا التشبه من كبائر الذنوب وهو الصحيح.

o   فوائد تتعلق بهذه القاعدة :

1- ما يجري على الرجال والنساء في هذا الباب، يجري على الصبيان والجواري، فلا يجوز إلباس الصبي لباس الجارية ولا العكس. وكذلك لا يُلبس الصبي الذهب والحرير والمزعفر، قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما لباس الحرير للصبيان الذين لم يبلغوا، فأظهر القولين أنه لا يجوز فإن ما حرم على الرجل فعله حرم عليه أن يُمكن منه الصغير. وقد رأى عمر بن الخطابt على صبي للزبير ثوباً من حرير فمزقه وقال:" لا تُلبسوهم الحرير "

 وكذلك (ابن مسعود مزق ثوب حريرٍ كان على ابنه )([4]).

2- ما ثبت حرمته على الرجل أو المرأة لكونه من خصائص الآخر لم يجز تمكين من حُرم عليه من تعاطيه لكون ذلك من الإعانة على المحرم([5]).

ب- القاعدة الثانية: ما ورد الدليل الشرعي بجوازه للرجل أو المرأة انتفت خصوصية الآخر به ولو دل العرف على الاختصاص:

o   دليل القاعدة:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاتمه من فضة وكان فصه منه)([6])ـ ووجه الدلالة منه أن حُليّ الفضة من خواص النساء كما هو معروف عرفاً، وورود الدليل بجواز تختم الرجل بالفضة يُلغي هذه الخصوصية في باب التختم، وأما ما عداه فيبقى على أصل الحرمة بالنسبة للرجل إذا كان الاستعمال من خصائص المرأة .

o   فروع القاعدة:

1-          يجوز خضاب الرجل لشعر رأسه ولحيته بالحناء خلافاً ليديه ورجليه، وذلك لورود الدليل في الأول على الجواز، وبقاء الأمر في غيره على أصل المنع لكونه من خواص النساء لما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم أُتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال: ما بال هذا ؟ فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء، فأمر فنفي إلى النقيع . فقالوا: يا رسول الله ألا نقتله ؟ فقال: إني نهيت عن قتل المصلين)([7]).

2- يحرم على الرجل لبس الحرير، لكونه من خصائص النساء وهو محرم بالدليل، ولكن يجوز له الأعلام اليسيرة منه لورود الدليل بذلك وهو ما رواه البخاري عن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال:( كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وصفَّ لنا النبي إصبعيه، رفع زهير الوسطى والسبابة)([8])، وقال ابن حجر رحمه الله في الفتح:( المراد بالمستثنى الأعلام وهو ما يكون في الثِّياب من تطريف وتطريز ونحوهما )

ج- القاعدة الثّالثة: ما لا حيلة للرجل أو المرأة فيه فلا إثم فيه:

معنى القاعدة أن ما يكون في طبيعة الرجل أو المرأة ممٌا هو في الأصل من خصائص الآخر يعفى عنه متى كان عاجزا عن تغييره، قال ابن حجر-رحمه الله-: ( وأما ذم التشبه بالكلام والمشي فمختص بمن تعمد ذلك، وأما من كان ذلك من أصل خلقته ، فإنما يؤمر ويكلف تركه و الإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى، دخله الذم   )([9]).

o   دليل القاعدة:

عموم قوله تعالى )فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ([التغابن:16]، ومفهوم قوله  صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)([10]).

o   فروع على القاعدة:

يدخل فيها كل فعل يفعله الرجل أو المرأة بحكم الطبيعة التي جُبل عليها مما هو في الأصل من خصائص الآخر وذلك مثل رقة الصوت عند الرجل أو تكسره في مشيته، وخشونة صوت المرأة وتوثبها وانتصابها  في مشيتها ونحو ذلك.

رابعًا: الحكمة من النهي عن التشبه المذكور:

خلق الله الرجل و المرأة وجعل لكل منهما طبائع وخصائص تصلح حاله وشأنه ولا تصلح لغيره، ومحاولة تغيير ذلك، إنما هي محاولة لقلب الفطرة المحكمة التي فطر عليها كل منها، ولذلك جاءت الشريعة بالمنع من تشبه أحدهما بالآخر وذلك لإظهار الفرق بين الرجل والمرأة ولقطع الطريق على ما يفضي إليه ذلك من مفاسد عظيمة دينية ودنيوية، فإن الرجل إذا لبس الحرير وتأنث في أقواله وأفعاله وحركاته ربما أدى به ذلك إلى فعل الفاحشة، وكذلك المرأة متى تشبهت بالرجل في اللباس و الهيئة.

خامسًا:أمثلة من تشبه الرجل بالنساء وتشبه النساء بالرجال:

قد مرت معنا بعض الأمثلة على التشبه المذكور وهذه أخرى :-

1-النهي عن لبس المعصفر للرجل وجواز لبسه للنساء: فمن لبس المعصفر من الرجال فقد تشبه بالنساء لأنه من خصائصهن بالدليل.

والمعصفر هو المصبوغ بالعصفر وهي صبغة حمراء تستخرج من زهرة نبات العصفر، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال( رأى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا ؟ قلت : أغسلهما يا رسول الله، قال : بل احرقهما )([11])، قال الصنعاني رحمه الله (وفي قوله "أمك أمرتك" إعلام بأنه من لباس النساء وزينتهن وأخلاقهن )([12])،  وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  رأى عليه ريطة مضرجة بالعصفر فقال: ما هذه الريطة التي عليك؟ قال: فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنوراً لهم فقذفتها فيها ثم أتيته من الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة فأخبرته فقال: هلا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس للنساء )([13])

2- لبس اللؤلؤ والياقوت والألماس ونحوه: وهو من عادات النساء الخاصة بهن في العُرف الحاضر والماضي ، فحكمه المنع للرجال لثبوت حرمة تشبه الرجال بالنساء. وقد نصر ذلك الإمام النووي رحمه الله حيث قال: (بل الصواب أنّ تشبه الرجال بالنساء وعكسه حرام وأما نص الشافعي في الأم فليس مخالفاً لهذا لأن مراده أنه من جنس زيّ النساء )([14]) والظاهر أن دليل هذه المسألة إنما هو العرف.

3- لبس الرجال ملابس النساء وكذلك لبس النساء ملابس الرجال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(لعن رسول الله  صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لِبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل)([15]).

وعن أبن أبي مُليكة رحمه الله قال: (قيل لعائشة رضي الله عنها : إن المرأة تلبس النعل! فقالت : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّجُلَةَ من النساء)([16]).

والخلاصــة:

·      أن الإسلام حرّم تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال بل هو من الكبائر وأن التشبه المحرم هو قصد ذلك وتعمده، وأن كل ما اختصت به النساء شرعاً أو عرفاً لم يخالف شرعاً مُنع منه الرجال والعكس وأن ما يجري على الرجال والنساء يجري على الصبيان والجواري لفعل عمر وابن مسعود رضي الله عنهما مع الصبيان كما مرَّ. والتشبه الممنوع هو ما كان يتعلق بخصائص كلٍّ منهما عن الآخر وليس التشبه في الخير والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة.

·      قال ابن جمرة رحمه الله ( ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء لكن عُرف من أدلةٍ أخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في الخير )([17]).        

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

 


([1])رواه البخاري(5546)

([2])فتح الباري (10/332)

([3])مجموع الفتاوى(22/146)

([4])الفتاوى (22/143)

([5])الفتاوى لابن تيمية(22/143)

([6]) رواه البخاري- فتح الباري (10/321)

([7])صحيح سنن أبي داوود (4928) - صحيح الجامع (2502)

([8])البخاري(5829)

([9])فتح الباري (10/332)

([10])صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة - صحيح الجامع الصغير (1731)

([11])صحيح مسلم (2077)

([12]) سبل السلام- حديث( 496 ):

([13]) صحيح سنن أبي داود (4066)

([14]) المجموع(4/466)

([15])ـصحيح سنن أبي داود(4098)

([16])صحيح سنن أبي داود(4099)

([17])المناوي في فتح القدير (10/4995)