الإيمان بالقضاء والقدر


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،أما بعد :

     فإن للإيمان بالقدر في الإسلام مكانة وأهمية كبرى فهو أحد أركان الإيمان، ومما يدل على أهميته كثرة وروده في نصوص الشرع التي أوجبت الإيمان به وكذلك كتب السنة والعقيدة اهتمت به وردت على المخالفين في أمره . ومما يبين أهميته وعظم شأنه ما يترتب على الإيمان به من عظيم الثمرات في الدنيا والآخرة ، وما يترتب على الكفر به والضلال في فهمه من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة .

*  ففهم باب القدر على الوجه الصحيح و لو إجمالا له أهمية كبرى في حياة الإنسان،و أكثر الخلق ضلوا فيه ذا الباب و اعترضوا على قضاء الله فحُرموا الإيمان به وفقدوا ثمراته .

*  وقد بين القرآن مفهوم القدر و كذلك السنة بينت أن العمل والأخذ بالأسباب هو من القدر وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الذين يكذبون بالقدر أو يعارضون به الشرع ، وغضب صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا عندما خرج على أصحابه يوما وهم يتنازعون في القدر حتى احمر وجهه فقال لهم ( أبهذا أُمرتم أم بهذا أُرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه )[1],واستجاب الصحابة لعزيمة نبيهم وتوجيهه فلم يُعرف عن واحد منهم أنه نازع في القدر ، ثم سلك أثرهم التابعون لهم بإحسان ، حتى دخلت الفلسفات اليونانية والفارسية وغيرها بلاد المسلمين ، وظهرت بدعة القدرية في البصرة ودمشق في عهد أواخر الصحابة الذين أنكروا تلك البدعة وأعلنوا البراءة منها ومن أهلها، ورغم ذلك فقد تأثر بهذه البدعة وهي نفي القدر كثير من الفرق الإسلامية قديما وحديثاً

فكم من عاص احتج بالقدر فاستمر على معصيته وكم من مبتدع ترك الأخذ بالأسباب واحتج بالقدر وكم من جبري أنكر أن للعبد فعلا فاتهم ربه بالظلم وكم من مدعٍ لعلم الغيب ضل لأن القدر والغيب لا يعلمه إلا الله .

وهكذا فقد ضل كثير من الناس في باب القدر ، مع أنه معلوم بالفطرة ، وهو من أصعب أبواب العقيدة لدقة تفاصيله وتشعب مسائله وكثرة الشبهات حوله وقد وفق الله عز وجل أهل السنة والجماعة لفهم هذا الباب لأتباعهم ما جاء في الكتاب والسنة، ولاقتفائهم آثار السلف الصالح .

لذلك كله، استعنت بالله تعالى ، فجمعت ما تسير من هذا الباب ، مستنيراً بنصوص الكتاب والسنة وبفهم السلف الصالح ومن سار على هديهم إلى يومنا هذا .

*حكم الحديث عن القدر :-يقول بعض الناس أنه لا ينبغي الحديث في مسائل القدر مطلقا بحجة أن ذلك يبعث على الشك والحيرة وأن هذا الباب زلت به أقدام وضلت به أفهام ،وقد ورد في الحديث الصحيح ذم الخوض في القدر كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا " وإذا ذُكر القدر فأمسكوا ". [2]

والجواب هو : أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان ولا يتم إيمان العبد إلا به فكيف يُعرف إذا لم يتحدث عنه !! ومعرفة الإيمان بالقدر من الدين وهي واجبة إجمالا ، والقرآن مليء بذكر القدر وتفاصيله  وكذلك كتب الحديث والسنة،والصحابة سألوا رسول الله عن أدق الأمور في القدر وأجابهم عليها ، ولو تركنا الحديث عن القدر لجهل الناس به وفتح الباب لأهل البدعة لينشروا باطلهم .

*أما ما ورد في ذم الخوض في القدر فيُحمل على الأمور التالية :

1- الخوض فيه بالباطل وبلا علم ولا دليل ، والاعتماد في معرفته على العقل البشري فقط .

2- كثرة الأسئلة الاعتراضية التي لا ينبغي السؤال عنها كمن يقول : لماذا هدى الله فلانا وأضل فلانا ؟ ولماذا أغنى الله فلانا وأفقر فلانا وهكذا .

3- وكذلك النهي عن الجدال فيه والمراء المذموم ، والتنازع الذي يؤدي إلى الاختلاف والافتراق .

تعريف القضاء والقدر والعلاقة بينهما :

القدر : هو تقدير الله للكائنات حسبما سبق علمه واقتضته حكمته " العثيمين - رسائل في العقيدة صـ37. أو هو : ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد ، وأن الله عز وجل قدر مقادير الخلائق قبل أن تكون في الأزل ، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة ، فهي تقع حسب ما قدرها .[3]

القضاء : هو الحكم والخلق ، وقضاء الشيء أي إحكامه وإمضاءه والفراغ منه .

فالمراد بالقدر : التقدير ، وبالقضاء : الخلق ، وهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر .

فمقادير الخلائق إذا وقعت وخلقها الله فقد قضاه وأمضاها

* أدلة الإيمان بالقضاء والقدر :دلت عليه الكتاب والسنة الإجماع والفطرة والعقل والحس ، قال الله تعالى ( وكان أمر الله قدرا مقدورا)وقال تعالى(إنّا كل شيء خلقناه بقدر( القمر 49، وقال تعالى (ليقضي الله أمرا كان مفعولا)الأنفال 42.

 وفي حديث جبريل "" وتؤمن بالقدر خيره وشره "" [4]

قال ابن حجر رحمه الله ( ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى )[5]

*مهم : ونحن نشاهد ونسمع ونقرأ أن الناس تستقيم أمورهم وحياتهم بالإيمان بالقضاء القدر، وبقدر ما قوي الإيمان به كان العبد أسعد الناس وأصبرهم وأشجعهم وأعقلهم وأكملهم، وإذا ضعف الإيمان به كان الشقاء للعبد والتسخط والضعف .

*أقوال السلف والعلماء في القدر : قال الوليد بن عبادة بن الصامت رحمه الله ( دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي ، فقال : أجلسوني ، ثم قال: يا بني ، أنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره ، تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك  وما أصابك لم يكن ليخطئك ، يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار ).[6]

قال ابن عباس رضي الله عنها ( كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك). [7]

قال الحسن رحمه الله ( إن الله خلق خلقا بقدر وقسم الآجال بقدر وقسم الأرزاق بقدر والبلاء والعافية بقدر ). [8]

قال الإمام أحمد رحمه الله ( القدر قدرة الله ) قال ابن القيم رحمه الله ( فإن إنكار القدرة إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها )[9].

ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر :

1- أداء عبادة الله عز وجل بالإيمان به .

2- الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك ، فإذا آمن المؤمن بذلك وأيقن به . انبعث إلى إفراد الله بالعبادة ، لأنه يعلم أن جميع الكائنات واقعة تحت قهر الله ، محكومة بقدره ، ليس لها من الأمر شيء فلا تملك لنفسها جلب نفع أو دفع ضر .

3- الشجاعة والإقدام : فالذي يؤمن بالقدر يعلم أنه لن يموت إلا إذا جاء أجله فلا يبالي بالأذى والمصائب

4- قوة الإيمان والإخلاص في الأعمال .

5- الصبر والاحتساب : فإذا حلت بالعبد المؤمن مصيبة لم يجزع ولم يفكر ولم يؤذ نفسه، قال تعالى( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه)  التغابن (11) ، قال علقمة رحمه الله ( هو الرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من قبل الله فيسلم ويرضى ).[10]

6-التوكل واليقين والاستسلام لله والاعتماد عليه كما قال تعالى)قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا(التوبة (51)

7- الخوف من الله والحذر من سوء الخاتمة ، لأن الخواتم علمها عند الله عز وجل .

8- الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تفتك بالمجتمعات كالحسد مثلا

9- السلامة من الاعتراض على أحكام الله الشرعية وأقداره الكونية ، والتسليم لله في ذلك كله .

10- الجد والحزم في الأمور والحرص على كل خير ديني أو دنيوي كما في الحديث الصحيح "" احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل "[11] (2664)

11- عزة النفس والقناعة واليقين بأن الأرزاق مكتوبة ، فيُجمل في الطلب ويترك التكالب على الدنيا ، ويتحرر من رق المخلوقين ، ولا يطمع بما في أيديهم ، ويتوجه بالقلب إلى رب العالمين الرزاق .

12- سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال عند فعل الأسباب : يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله( أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر )[12]

13- المؤمن بالقضاء والقدر لا تبطره النعمة ولا تيئسه المصيبة ، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم أو حسنات من الله ، وهو يعلم أن ما أصابه من البلاء فهو بتقدير الله تعالى فلا يجزع ولا ييأس بل يحتسب ويصبر .

* مراتب القدر وأركانه : الإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان تسمى مراتب القدر أو أركانه ولا يتم الإيمان به إلا بتحقيقها كلها ، وهذه الأركان هي :

1- العلم    2- الكتابة    3- المشيئة     4- الخلق

1-العلم : وهو الإيمان بأن الله عالم بكل شيء جملة وتفصيلا، وعلمه محيط بما كان وما سيكون وكيف يكون ، بعلمه الأزلي الأبدي ، وأنه تعالى علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، فعلم أرزاقهم وآجالهم وأقوالهم وأعمالهم ، وعلم أهل الجنة وأهل النار منهم، قال تعالى(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )الملك 14

وقال تعالى( وأن الله قد أحاط بكل شيء علما)الطلاق 12 ، قال الطحاوي رحمه الله ( وقد علم أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه ، وكلٌ ميسر لما خلق له ، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله ، والشقي من شقي بقضاء الله ) .

 2-الكتابة : وهي الإيمان بأن الله كتب مقادير السماوات والأرض والخلائق في اللوح المحفوظ عنده ، وكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال تعالى( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)يس 12  وقال النبي صلى الله عليه وسلم "" كتب الله مقادير الخلائق قبل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) [13]

وفي صحيح البخاري ( ما منكم أحد إلا وقد كُتب مقعده من النار أو من الجنة اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له ) قال الطحاوي رحمه الله ( ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه ، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه) صـ 266 . ثم ذكر شارح الطحاوية هناك أن السنة دلت على أن الأقلام أربعة :   

1-   قلم عام شامل لجميع المخلوقات. 

 2- وقلم حين خلق آدم . 

 3- وقلم حين يرسل الملك إلى الجنين.  

  4- وقلم موضوع على العبد عند بلوغه الذي بأيدي الكرام الكاتبين .

3-المشيئة : وهي الإيمان بأن لله تعالى مشيئة نافذة ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا حركة ولا سكون ولا هداية ولا إضلال إلا بمشيئته قال تعالى(وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين )التكوير29 قال الله تعالى(من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم( الأنعام 39 . قال الطحاوي رحمه الله ( وكل شيء يجري بمشيئته وقضائه وقدره ، غلبت مشيئته المشيئات كلها يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا) (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ).

4- الخلق : هو الإيمان بأن الله تعالى خلق كل شيء ، خلق جميع الكائنات بذواتها وصفاتها وحركاتها ، وخلق كل عامل وعمله ، وكل متحرك وحركته ، وكل ساكن وسكونه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (8/459)  (ومما اتفق عليه سلف الأمة و أئمتها مع إيمانهم بالقضاء و القدر و أن الله خالق كل شيء ، وأنه ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن ، و أن الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء ، أن العباد لهم مشيئة و قدرة ، و يفعلون بقدرتهم و مشيئتهم ما أقدرهم الله عليه مع قولهم إن العباد لا يشاءون إلا أن يشاء الله) ،قال شارح الطحاوية صـ249( الذي عليه أهل السنة والجماعة أن كل شيء بقضاء الله وقدره ، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد، قال تعالى ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ،ولا يرضاه ولا يحبه ، فيشاؤه كونا ولا يرضاه دينا ، قال تعالى ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) قال الشيخ العثيمين رحمه الله ( وهذه المراتبُ الأربعُ ، شاملةٌ لما يكونُ من الله تعالى نفسه ، و لما يكون من العباد فكلَّ ما يقوم به العبادُ من أقوال أو أفعالٍ أو تروكٍ فهي معلومةٌ لله تعالى،مكتوبةٌ عنده والله تعالى قد شاءها وخلقها قال تعالى واللهُ خلقكم وما تعملون ، ولكننا مع ذلك نؤمنُ بأن الله تعالى جعل للعبد مشيئة واختيارا وقدرة بهما يكون الفعل ، قال تعالى) فأتوا حرثكم أنى شئتم ( . صـ33 .

فما الواجب على العبد في باب القدر : يجب على العبد أن يؤمن بمراتب القدر الأربع السابقة ، وأنه لا يقع شيء إلا:

1- وقد علمه الله ،            2- وكتبه    3 وشاءه              4- وخلقه،

 ويؤمن بأن الله أمر بطاعته ، ونهى عن معصيته ، فيفعل الطاعة ويترك المعصية ، فإذا وفقه الله لفعل الطاعة وترك المعصية فليحمد الله وليستمر على ذلك ، وإن فعل المعصية وترك الطاعة فعليه أن يستغفر ويتوب . ثم على العبد أن يسعى في مصالحه الدنيوية بالطرق الشرعية ، فإذا أتت الأمور على ما يريد حمد الله وإن أتت على خلاف ما يريد تعزى بقدر الله ، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، فهذا هو الواجب العيني على كل مسلم وهذا هو الإيمان المجمل بالقدر .

 

مسائل تتعلق بالقدر :

أ‌)   الإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية : قال تعالى( فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبـا)وقال تعالى ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )الكهف 29 ، فكل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة يفعل بهما ويترك ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي وما يقع بغير إرادته كالارتعاش ، ولكن مشيئته وقدرته واقعتان بمشيئة الله وقدرته .

ب‌)  فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر بل يجب على العبد الاجتهاد 0في العمل والأخذ بأسباب النجاة ، والالتجاء إلى الله بأن ييسر له أسباب السعادة ،وأن يعينه عليها وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ".[14]

 ج) لا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الواجبات : قال ابن تيمية رحمه الله ( وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وإلا لأمكن لكل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد ويحتج بالقدر ، ونفسه لو اعتديَ عليه لم يقبل وتناقض القول يدل على فساده ) [15]

وهذه بعض الأدلة الشرعية العقلية لبطلان الاحتجاج بالقدر على الذنب :

إرسال الرسل مبشرين ومنذرين للناس يدلونهم على طريق الخير ويحذرونهم من طريق الشر .

الأوامر والنواهي الشرعية دليل على أن العبد مُخيّر فيها .

ادعاء المحتج بالقدر على الذنب ادعاءٌ باطل لأنه ادعاء لعلم الغيب، ومن أين علم أن الله قدّر عليه كذا وكذا ؟! 

لو كانت هذه الحجة مقبولة لتساوى فرعون مع موسى كليم الله .

الاحتجاج بالقدر على الذنوب تصحيح لمذهب الكفار!! ولو كان حجّة لاحتج به أهل النار!!

يُقال للمحتج بالقدر على الذنوب : لو أردت السفر إلى بلد وهذا البلد له طريقان أحدهما آمن والآخر خطر فماذا تفعل؟ وإذا عُرضت عليك وظيفة براتب عالٍ ووظيفة بأجر قليل فماذا تفعل؟ وهكذا .

ولو قبلنا هذا الاحتجاج الباطل لما كان هناك حاجة للاستغفار والتوبة والدعاء وغيرها من العبادات .

ولو كان القدر حُجّةً على الذنوب لتعطلت مصالح الناس ولَعمّت الفوضى ولما كان هناك داعٍ للحدود والتعزيرات لأن المسيء سيحتج بالقدر .

وبالجملة فإن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الطاعات احتجاج  باطل في الشرع والعقل والواقع . قال شيخ الإسلام رحمه الله ( هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى) [16]

* متى يسوغ الاحتجاج بالقدر؟ يسوغ الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحل بالإنسان كالفقر والمرض وخسارة المال وقتلِ الخطأ ، وهذا من تمام الرضا بالله رباً . ويسوغ الاحتجاج بالقدر للتائب من الذنب فلو لامه أحدٌ على ذنب تاب منه لساغ له أن يحتج بالقدر ، فلو قيل لأحد التائبين: لِم فعلت كذا؟ فقال هذا بقضاء الله وقدره وأنا تبت واستغفرت لقُبل منه ذلك الاحتجاج .

*شبهةٌ والجواب عنها : يقول بعض الناس: إذا كان الله علم كل ما هو كائنٌ وكتب ذلك كله عنده في كتاب، فما معنى قوله تعالى( يمحو الله ما يشاء ويثبت )الرعد(39) ويقول : إذا كانت الأرزاق والأعمار والآجال مكتوبة لا تزيد ولا تنقص فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم "" من سرّه أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه "" [17]

الجواب : إنّ القدر قدران قدرٌ مثبت أو مطلق أو مبرم ، وهو في اللوح المحفوظ ، فهذا ثابت لا يتغير ولا يتبدل ، وقدرٌ معلق أو مقيد وهو ما في كتب الملائكة ، فهذا الذي يقع فيه المحو والإثبات . فالآجال والأرزاق والأعمار وغيرها مثبتةٌ في أم الكتاب لا تتغير ولا تتبدل أما في صحف الملائكة فيقع فيها المحو والإثبات والزيادة والنقص . قال ابن تيمية رحمه الله ( والأجل أجلان ، أجل مطلق يعلمه الله ، وأجل مقيد . ولهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم "" من سره أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه "" فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلاً وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا ، والملك لا يعلم أيزداد أم لا لكنّ الله يعلم ما يستقر عليه الأمر فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر ) [18]

وكذلك قال في الرزق ـ الفتاوى(8/540) قال ابن حجر رحمه الله ( كأن يقال للملك إن عمر فلان مائة عام إن وصل رحمه ، وستون إن قطعها ، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع ، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك ) [19]وهذا هو الراجح من أقوال العلماء الثلاثة .

*سؤال وجواب : هل للإنسان مشيئة وقدرة أم لا؟ بدلاً عن سؤال : هل الإنسان مسير أم مُخير؟

الجواب هو : أن للإنسان مشيئة يختار بها وقدرة يفعل بها لقوله تعالى(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )  ولقوله صلى الله عليه وسلم "" صلوا قبل المغرب"" قال في الثالثة"" لمن شاء"" [20]وإلى غير ذلك من الأدلة ، وكذلك فإن الإنسان لا يخرج عمّا قدره الله له فلا يخرج في قدرته عن قدرة الله عز وجل . قال الله تعالى( هو الذي يسيركم في البر والبحر)يونس(22) ولقوله صلى الله عليه وسلم "" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة "" [21]فالإنسان له مشيئة وقدرة تابعتان لمشيئة الله وقدرته ، قال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم ، (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين)التكوير(28-29)

*أخطاء في باب القدر: هناك الكثير من الأخطاء في باب القدر منها ما هو في الأقوال ومنها ما هو في الأفعال ومنها ما هو في الاعتقادات . وأهمهــا :

1- الاحتجاج بالقدر على المصائب والذنوب وترك الطاعات : فإذا قلت له لماذا تصلي؟ قال: ما أراد الله لي ذلك . وهذا خطأ وضلال لأن قدر الله سر مكتوم لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى ، فمن أين علم أن الله أراد ذلك؟

2- ترك الأخذ بالأسباب بحجة التوكل على الله والتسليم لقضائه وقدره : وهذا خطأ أيضاً وضلال لأن الأخذ بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر بل أنه من تمامه فالله عز وجل أراد بنا أشياء وأراد منّا أشياء ، فما أراده بنا طواه عنّا وما أراده منّا لزم القيام به فقد أراد منّا حمل الدعوة إلى الكفار وإن كان يعلم أنهم لا يؤمنون وهكذا ، والله عز وجل جعل لهذا الكون قوانين ينتظم بها ولو سرنا عليها انتظم الكون .

* والله أمرنا بطلب الرزق والسعي إلى أسبابه فإذا فعلنا جاء الرزق من الله .

* وإذا أردنا نصر الله أخذنا بالأسباب ونصرنا الله ودينه وهكذا

3- ترك الدعاء بحجة أن الله يعلم حاجة العبد قبل أن يسأل ، وأنه لو شاء أعطاه مسألته بغير سؤال ، وهذا القول قول باطل لأنه منافٍ للإيمان بالقدر وتعطيل الأسباب وترك هذه العبادة العظيمة فالله عز وجل أمرنا بالدعاء ورسول الله قال"" الدعاء هو العبادة ""وجميع الأنبياء دعوا الله عز وجل فهل سؤالهم خطأ؟!

4- الدعاء بـ(اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسالك اللطف فيه ) وهذا دعاء لا ينبغي لأنه شُرع لنا أن نسأل الله رد القضاء إذا كان فيه سوء فقط وليس على الإطلاق ، في صحيح البخاري حديث"" تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء"" [22]

5- قول شاءت الظروف أو شاءت الأقدار كذا وكذا : قال الشيخ العثيمين رحمه الله ( شاءت الأقدار وشاءت الظروف ، ألفاظ منكرة لأن الظرف هو الزمن والزمن لا مشيئة له وكذلك الأقدار جمع قدر والقدر لا مشيئة له إنما الذي يشاء هو الله ) [23]

6- قول: ما شاء الله وشاء فلان : وهذا القول شرك بالله : في الحديث الصحيح"" لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ""[24]والأولى أن يُقال( ما شاء الله وحده) لأن فيه نفي الندية من كل وجه .

7- الجزم بفعل الشيء في المستقبل دون تقييد ذلك بالمشيئة: وهذا خطأ لقوله تعالى)ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله (الكهف(23)

8- استطلاع المستقبل عند الكهّان والمنجمين : وهذا ضلال في باب القدر لأن القدر غيب والغيب علمه عند الله وحده .

9- ومن الأخطاء في باب القدر :الاعتراض على القدر : فإذا أصابت أحدهم مصيبة قال : ماذا فعلت يا ربي أنا لا أستحق ذلك ، أو إذا أصيب شخص بمصيبة قالوا: فلان مسكين لا يستحق ما جرى له لقد ظلمته الأقدار وقست عليه ، أو قول كلمة ( لـو ) عندما تحل المصيبة فيقول لو أني فعلت كذا لما كان كذا أو لكان كذا ، وكذلك كلمة ( ليت ) ( ليتني فعلت ) وهاتان الكلمتان لا تجديان بعد حصول الأمر المقدر أو فعل بعض الجهال عند المصيبة من شق الجيوب ولطم الخدود والنياحة وحلق الشعر والدعاء بالويل والثبور .

10- الحسد :فالحاسد يقول إن فلانا أُعطي وهو لا يستحق وفلاناً مُنع وهو يستحق العطاء .

11- ومن الأخطاء: تمني الموت إذا ابتلي ببلاء ليتخلص مما ألمّ به : قال صلى الله عليه وسلم "" لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لابد متمنياً للموت فليقل( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) [25]

12- ومن الأخطاء : التسخط بالبنات : أي التضايق والحزن والاعتراض على ذلك ، قال الله تعالى (وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم)النحل(58) فإذا اكتشف أن الله رزقه بأنثى غضب وتضايق ويترتب على ذلك محاذير منها : أنه اعتراض على قدرة الله ، وأنه ردٌ لهبته تعالى بدلاً من شكرها . وأن فيه إهانة للمرأة وحطاً من قدرها وتحميلاً لها ما تطيق ، وفيه تشبه بأخلاق أهل الجاهلية ، كما أنه دليل على السفاهة والجهل والحماقة وقلة العلم . والله عز وجل سمى إتيانهن هبةً وقدمهن على الذكور في قوله تعالى( يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور)الشورى(49) وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن فضلهن في قوله "" من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنَّ له ستراً من النار"" [26]

13- ومن الأخطاء في باب القدر : قول بعض العامة: هذه طشةٌ ما وزنت :ويعنون بذلك المطر الذي يحصل من جرائه الضرر وهذا التعبير خاطئ ومنافٍ للإيمان بالقدر إذ كيف يظن أن قطرة مطر نزلت من السماء لم توزن والله عز وجل يقول (وأنزلنا من السماء ماء بقدرٍ فأسكناه في الأرض)المؤمنون(18)

14- قول بعضهم إذا سمع بوفاة شخص : هل مات بسببٍ أم قضاءً وقدراً؟ والصحيح أن يقول : هل مات بسبب أم بغير سبب؟

15- قول بعضهم عند التعزية : البقية في حياتك أو البقاء لك أو لك طول العمر : وهذا خطأ ، فأي بقية بقيت والله عز وجل يقول) فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون(الأعراف(34) ثم إن هذا فيه مخالفة للسنة في التعزية وهي ( لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمّى ) .

الخاتمـــة :

تبين لنا أن باب القدر أصعب أبواب العقيدة ولا يمكن أن يُفهم إلا بفهم السلف الصالح ، أهل السنة والجماعة ، أهل الحديث ، فما هو فهمهم : نؤمن بالقدر خيره وشره وهو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته .

وللقدر أربع مراتب هي : العلم والكتابة والمشيئة والخلق : فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم عالمٌ بالعباد وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن منهم في الجنة ومن منهم في النار قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة .

ونؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة . ونؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السماوات والأرض لا يكون شيء إلا بمشيئته ، ونؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء، خلق كل عاملٍ وعمله وكل متحرك وحركته وكل ساكن وسكونه. فكل ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده ، وقد شاءها وخلقها ، ونؤمن بأن الله جعل للعباد مشيئةً وقدرةً بمقتضاها يُثابون أو يُعاقبون ولكن هذه القدرة وتلك المشيئة تحيط بها قدرة الله تعالى ومشيئته فلا يقدر العبد على غير ما شاء الله وأراده في كونه .

هذه خلاصة الإيمان بقضاء الله وقدره

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 


 

[1]صحيح سنن الترمذي 2/223

[2]الصحيحة (34) . وصحيح الجامع رقم (545)

[3]السفاريني لوامع الأنوار 1/348

[4]مسلم رقم (8)

[5]( فتح 11/487)

[6]أحمد والترمذي وصححه الألباني في المشكاة 1/34

[7]البخاري في خلق أفعال العباد صـ 26

[8]اللالكائي 4/682

[9]شفاء العليل صـ 59

[10]زاد المسير لابن الجوزي 8/283

[11]مسلم

[12]جامع العلوم والحكم 10/287

[13]مسلم (8/51)

[14]مسلم (2664)

[15]منهاج السنة(3/65-78)

 

[16]الفتاوى(8/262)

[17]متفق عليه 10/429 مسلم(16/114)

 

[18]الفتاوى(8/517)

[19]فتح(10/430)

[20]البخاري(3/49)

[21]مسلم(8/15)

[22]كتاب القدر(7/215)

[23]مجموع الفتاوى(3/131)

[24]أحمد وأبو داود ، الصحيحة(137)

[25]البخاري فتح(11/154) حديث(6351)

[26]متفق عليه خ(1418) م(2629)