حجية السنة (ج 1)


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أما بعد.

فلقد وردت الأدلة متوافرة متعاضدة متواترة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته بالرجوع إليه وسؤاله، وبعد موته بالرجوع إلى سنته وهديه، ولكن يأبى أهل الزيغ والشبهات إلا تشكيك المسلمين في مصادر تلقيهم دينهم، فظهر من ينادي بالاقتصار على كتاب الله – سبحانه وتعالى – في تلقي أحكام الشريعة من العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق دون السنة، وناصر هؤلاء القوم من شكك في السنة من جهة الثبوت والتدوين.

ولكن الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، وما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على خلاف ما ذكره هؤلاء المنحرفون المشككون، وهو حجية السنة وكونها مصدراً من مصادر التشريع.

وقبل ذكر النصوص الدالة على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، أحب أن أذكر أمرين نفهم بهما خطاب الله سبحانه وتعالى للمكلفين من عباده:

الأول : خطاب الله تعالى للمؤمنين في القرآن الأصل فيه العموم، فإذا قال الله سبحانه وتعالى : " يا أيها الذين آمنوا" فإنه يشمل جميع المكلفين، ذكوراً كانوا أو إناثاً، وعلى امتداد العصور والأمكنة، وما كان مخصوصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو لفئة معينة، أو مقتصراً على عصر دون آخر، فيحتاج إلى دليل خاص يخرجه من هذا العموم.

قال ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (19/ 14) : " والآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن؛ إذ كانت رسالته عامة للثقلين، ...فليس شيء من الآيات مختصاً بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين" ا.ه ، وهذا هو الذي قعده أهل العلم بقولهم : "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " وقاعدة : "الخبر على عمومه حتى يأتي ما يخصِّصه."

الأمر الثاني : أن الله سبحانه وتعالى في أمره ونهيه في القرآن الكريم لم يأمر بما يعجز المكلف عن فعله، أو بما هو خارج عن طاقته، فالله لا يؤمر العباد بما لا يطيقون، بل يأمرهم بما في وسعهم واستطاعتهم، قال تعالى : " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا " [البقرة: 286] وقوله تعالى : " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" [الحج :78] وقوله تعالى: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة:185]

قال الطحاوي رحمه الله في العقيدة الطحاوية :" ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم" ا.ه

وبعد ذلك نذكر الاستدلالات على حجية السنة وبطلان التشكيك فيها أو إنكارها، فأقول مستعينا بالله :

الدليل الأول : قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" [النساء:95]

وجه الدلالة من الآية :

الأول : " افتتح الآية بالنداء باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا به وخوطبوا به " [1] فأمرهم بطاعة الله وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وغاير بينهما بحرف العطف الواو، وحرف العطف يقتضي المغايرة، كما قرر ذلك أهل اللغة.

فالمؤمن مأمور بطاعة الله، وبطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبطاعة ولاة الأمر من العلماء والأمراء والسلاطين، وطاعتهم مقيدة بطاعة الله ورسوله، فإنه لا طاعة لهم في معصية الله.

وطاعة الله تكون بالرجوع إلى كتابه، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بالرجوع إليه في حياته، والرجوع إلى سنته بعد موته.

وهذا هو الذي قرره أهل التفسير وهم أهل اختصاص وفهم لكتاب الله.

قال ابن كثير في تفسير الآية (2/ 345) : " وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ} أَيْ: اتَّبِعُوا كِتَابَهُ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أَيْ: خُذُوا بِسُنَّتِهِ."

وقال الشوكاني في فتح القدير (1/ 556) : " وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ: هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ: هُوَ الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالرَّدُّ إِلَيْهِ: سُؤَالُهُ، هَذَا مَعْنَى الرَّدِّ إِلَيْهِمَا. "

وقال المفسر الشنقيطي في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 304): "ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. " ا.ه

وغيره كثير من كلام أهل التفسير في تقرير هذا المعنى .

الثاني: يلزم من الأمر بطاعة الله الاستجابة له فيما أمر من طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان العبد مدعياً طاعة ربه سبحانه وتعالى فيما أمر في كتابه فعليه أن يلتزم بهذه الدعوى في كل أمر ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومما أمر الله به سبحانه وتعالى المؤمنين طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر لم ينسخه نص، فهو أمر باق على عمومه.

والقاعدة التي ذكرها بعض أهل العلم : " كل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة؛ لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرد إليه عند التنازع، والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. " ( [2] )

والله سبحانه وتعالى يقول : " "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ" [النساء: 80]، وقوله: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" [الحشر: 7] .

فمن ردّ السنة أو شكك فيها فإنه يرد أمر الله سبحانه وتعالى لعباده بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

الثالث : أنّ الله سبحانه وتعالى قد أرشد عباده عند التنازع وهو أمر مستمر غير منتهي، إلى عرض ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فقال سبحانه : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ".

وقوله تعالى : " فِي شَيْءٍ " نكرة في سياق الشرط فتعم كل شيء وقع فيه التنازع.

فأرشد الله سبحانه وتعالى المؤمنين إلى الرجوع في إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأخذ أحكام التشريع، دون أن يقيد الأمر بمكان أو زمان، ومن قال بعدم حجية السنة فإنه متحكم في الآية ومخصص لها بغير دليل صحيح.

فمقتضى قولهم – الباطل- : فإن تنازعتم في شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فردوه إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد موته ردوه إلى كتاب الله فقط، قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى (3/ 487) : " فأمر عند التنازع بالرد إلى الله وإلى الرسول؛ إذ المعصوم لا يقول إلا حقاً. ومن علم أنه قال الحق في موارد النزاع وجب اتباعه."

وهنا مسألة تحتاج إلى بيان وتقرير وهي :

أن هذا الرد إلى الله ورسوله ليس على سبيل الاختيار، بل جاء الأمر والإلزام به في قوله : " فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ". ومن المتقرر في علم الأصول وطرق الاستدلال أن الأمر في كتاب الله وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم يفيد الوجوب ما لم يصرفه صارف إلى الاستحباب .

فرد ما وقع فيه التنازع مما يطلب حكمه في شرع الله إلى الله ورسوله واجب وعلى وجه الإلزام.

قال ابن تيمية رحمه الله : " فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَحْلِيلُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَإِيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ رَجَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ الرَّسُولُ وَأَعْلَمُ بِمُرَادِهِ . " ( [3] )

ويلزم على القول بعدم حجية السنة أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوجب علينا تحكيم ما ليس بحجة في الشرع، وأوجب علينا ما نعجز عن العمل به، على زعم من يقول بأن السنة المدونة غير صحيحة وغير ثابته، وأننا نستحق العقاب لكوننا لم نرد ما تم التنازع فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع عجزنا عن ذلك، وهذا مخالف للشرع والعقل، والواقع الذي يشهد على صدق ما أمر الله به في هذه الآية، فلا تنزل بالمسلمين نازلة وواقعة مما لم يرد بخصوصها حكم شرعي، فيجتهد أهل الاختصاص في بيان حكمها بالرجوع إلى الكتاب والسنة، إلا وقد وجدوا حكمها.

ويزيد وضوحاّ هذا الوجه الوجه الآتي :

الرابع : ربط الله وجوب الرد فيما وقع فيه التنازع مما يطلب حكمه من الشرع بالإيمان، فقال : " إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" وما كان متعلقاً بالإيمانِ فإنه يطلب من العباد تحصيله وتكميله واستدامته، قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا " [النساء:136] .

والأمر في هذه الآية موجه لسائر المؤمنين المكلفين، ولا يخص منهم أحد، لعدم الدليل على التخصيص، وما أمر الله به من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس من باب ما لا يطيقه المكلف.

وعليه فلو كانت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته فقط، فقد كلف الله العباد بما لا يقدرون على فعله، وهذا ممتنع شرعاً وعقلاً، فتكون طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ممكنة وذلك بالرجوع إلى سنته بعد وفاته.

قال ابن حزم في الإحكام (1/ 94) : " المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس، كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن لقاء رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أمكنه هذا الشغب في الله عز و جل، إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى، فبطل هذا الظن، وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى وهو القرآن، وإلى كلام نبيه صلى الله عليه و سلم ...

وليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلاً، ولا دليل عليه، وإنما فيه الأمر بالرد فقط، ومعلوم بالضرورة أنّ هذا الرد إنما هو تحكيم، وأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه و سلم موجودة عندنا منقول كل ذلك إلينا، فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر."

قال المفسر ابن كثير في تفسيره (2/ 345) : " وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَنْ يَرُدَّ التَّنَازُعَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ... {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} : فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَحَاكَمْ فِي مَجَالِ النِّزَاعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَرْجِعْ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ."

وقال المفسر السعدي رحمه الله : " فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها"

يشير الشيخ إلى قوله تعالى في الآية التالية: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا" [النساء :60-61]

وهذه الآية تؤكد على ما ذكره الله في الآية التي قبلها في قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) من جهتين :

الأولى : إنكار الله سبحانه وتعالى على من زعم الإيمان بالله ورسوله وبما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يُعرض عما أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب التحاكم إلى غير الوحي، ووصف ذلك بالضلال المبين .

الثانية: بين أن من علامة المنافقين الإعراض عما أنزله الله على رسوله من الكتاب والسنة.

وهذه الصفة السيئة تقابل الصفة الحسنة عند المؤمنين إذ قال الله في وصفهم : " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" [النور:51-52 ]

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/ 221) : " فَنَفَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا؛ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ."

وفي كتاب الحيدة وهي المناظرة التي تمت بين بشر المريسي المعتزلي و عبد العزيز الكناني لما ذكر له الآية : قال بشر: فإنما أمر الله أن يرد إليه وإلى الرسول، ولم يأمرنا أن نرده إلى كتابه العزيز وإلى سنة نبيه عليه السلام.

قال عبد العزيز: هذا مالا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم إن رددناه إلى الله فهو إلى كتاب الله، وإن رددناه إلى رسوله بعد وفاته رددناه إلى سنته، وإنما يشك في هذا الملحدون."

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين : الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته. " ( [4] )

ومن الآيات المؤكدة لقول الله تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قول الله تبارك وتعالى : " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور:63]

وقول الله تبارك وتعالى : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا" [الأحزاب:36]

الخامس: أنّ الله سبحانه قد بين عاقبة الرد إلى كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع وهو قوله تعالى : " ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" ، فالرد إلى الكتاب والسنة من الخير الذي بينه الله لعباده، وأن فيه الصلاح لمن طلبه، قال المفسر السعدي رحمه الله في التفسير (ص: 184): "فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم."

ومعلوم أن شريعة الإسلام صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان، وما كان سبباً لصلاح زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام، سيكون سبباً لصلاح الأزمان من بعده. وقد ورد عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله قوله : " وَلَا يُصْلِحُ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصْلَحَ أَوَّلَهَا " .

فنخلص من ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه الطاعة كما تكون في حياته صلى الله عليه وسلم فإنها تكون بعد موته، ولها تعلق بإيمان العبد، وتطبيقه لشرع الله سبحانه وتعالى، وامتثال العباد لأمر ربهم فيه صلاحهم وصلاح أحوالهم على مر الأزمان واختلاف الأماكن.

وسنستكمل الكلام على بقية الأدلة على حجية السنة والرد على ما أثير حولها من شبهات في مقالات قادمة .

 

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه ، والحمد لله رب العالمين .

 


[1] - الرسالة التبوكية . ابن القيم. (1/42)

([2] ) - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 294)

([3] ) - الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 97)

([4] )- إعلام الموقعين. (2/92)