عبودية الكائنات لرب العالمين


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

بسم الله الرحمن الرحيم 

 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شرك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله.

 أما بعد:

مقدمـة:

إنّ الله عزّ وجلّ خلق الكائنات كلّها لعبادته سبحانه من الإنس والجن والملائكةِ والحيوان والنبات والجماد وغيرها من الموجودات.

قال الله تعالى: )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ (. سورة الحج (18).

وقال الله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).  سورة الإسراء (44).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقلّ الشمسُ، فيبقي شيئٌ من خلقِ اللهِ إلاّ سبَّحَ الله بحمدِه إلاّ ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم). صحيح الجامع الصغير (5599).

ورغم أن الله تعالى أكرم بني آدم، وفضّلهم على كثيرٍ ممّن خلق تفضيلاً، إلاّ أنه في مجموعه أقلُّ عبوديةٍ لله عزّ وجلّ، وأكثرُ معصيةٍ له وجحوداً به سبحانه وتعالى، حتى أنّ كثيراً منهم زعموا أن له ولداً وشريكاً سبحانه وتعالى.

ونتكلّم عن هذا الموضوع (عبودية الكائنات لله رب العالمين)، لشعورنا بأن جميع الكائناتِ أشدُّ خشيةً لله عزّ وجلّ من كثيرٍ من الإنس، ولتفشّي الإلحادِ وانشغالِ الناسِ عن عبادةِ الله عزّ وجلّ غافلين عن آياتِ الله عزّ وجلّ الكونية والتنزيلية، وليعلم هؤلاء أن الكائنات كلّها تدعو إلى الإيمانِ بالله تعالى، وأن كثيراً منها أكثر عبودية لله تعالى من كثيرٍ من البشر.

نتكلّم عن هذا الموضوع إلهاما لتقوية إيماننا بالله تعالى ولزيادةِ العبادةِ وإخلاصها له عزّ وجلّ، ولعلّ في ذلك عودة إليه سبحانه وتعالى، وذكرى لأولي الألباب. قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). سورة ق (37).

وسيكون الكلام بإذن الله تعالى في هذا الموضوع حسب النقاط التالية:

1.   مفهوم العبوديةِ ومكانتُه.

2.   مفهوم الكائناتِ وأنواعُها.

3.   عبودية عالم الشهادة (الإنس والحيوان والنباتات والجمادات).

4.   عبودية عالم الغيب (الملائكةُ والجنّ والشياطين والجنّة والنار وغيرها).

5.   واقـع المسلمين اليـوم.

6.   خاتمــــة.

 

  

(1) مفهوم العبودِّية ومكانتها:

أصلُ العبوديّةِ: الخضوعُ والتذللُ والطاعةُ والاستسلامُ للهِ ربِّ العالمين.

وعبودِّيةُ الكائناتِ أي خضوعها وانقيادها وطاعتها لله تعالى.

قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب العبودية: (العبادةُ اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّهُ الله ويرضاهُ من الأقوال والأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ ...).

ويقول ابنُ القيِّمُ رحمه الله: (إنّ تمام العبوديةِ يكون بتكميل مقام الذلِّ والانقياد، وأكملُ الخلقِ عبودية أكملهم ذلاً لله وانقياداً وطاعة، والعبدُ ذليلٌ لمولاه الحقِّ بكل وجه من وجوه الذلّ، فهو ذليلٌ لعزِّه، وذليلٌ لقهره، وذليلٌ لربوبيته فيه وتصرُّفهِ، وذليلٌ لإحسانِه إليه وإنعامه عليه). مفتاح دار السعادة (1/289).

 

(2) مفهوم الكائنات وأنوعُها:

 أصلُ الكائناتِ أي الموجوداتِ والحادثاتِ، والكائنُ هو الموجودُ المخلوقُ، فالكائناتُ هي كلُّ ما سوى اللهِ عزّ وجلّ.

أما أنواع الكائنات فقد قسَّمها بعض أهل العلم إلى عالم الشهادةِ وعالم الغيبِ.

 وعالم الغيبِ يُقصدُ به كلُّ ما غاب عنّا من الكائنات، كالملائكةِ والجنِّ والشياطين والجَنّةِ والنّار والقلم والعرش وغيرها.

 أمّا عالمُ الشهادة فيشمل كلَّ ما هو مشاهدٌ ومحسوسٌ من الكائناتِ، كالإنسانِ والحيوانِ والجمادِ والنباتِ وغيرها.

وهذا التقسيمُ للكائناتِ ثابتٌ في الكتاب والسُنَّةِ ومستعملٌ عند السلف.

 

(3)  عبودَّيةُ عالم الشهادةِ:

1.   عبودِّيـة الإنـس: هم البشرُ، والله عزّ وجلّ سخَّر كثيراً من الكائناتِ لهذا الإنسانِ لتعينَه على أداءِ مهمَّتِه في القيام بعبوديته نحو خالقه عزّ وجلّ.

قال ابنُ تيمية رحمه الله: (والعبدُ كلَّما ذلَّ للهِ وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له، كانَ أقربَ له وأعزّ له وأعظمَ لقدره، فأسعدُ الخلقِ أعظمُهم عبوديةً لله). الفتاوى (1/39).

فإذا تفرّغ العبدُ لعبادةِ ربِّه عزّ وجلَّ جمع اللهُ له أمرَهُ وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمةٌ. يقولُ الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابنَ آدم تفرّغ لعبادتي أملأُ صدرك غنىً، وأسدُّ فقرك، وإن لم تفعل ملأتُ صدرك شغلاً ولم أسدَّ فقرك). صحيح سنن ابن ماجه (3331).

والناسُ في عبوديتهم لله تعالى مراتبُ، أعلاها مرتبةُ الرسالةِ والنبوّةِ، وأدناها مرتبة الظالمين لأنفسهم، وبينهما مراتب ذكرها ابن القيِّم في كتابه طبقات المكلّفين.

 أما الخارجون عن دائرة الإيمانِ والمستكبرين على مقام العبوديةِ فهم دركاتٌ أيضاً.

2.   عبودِّيـةُ الحيـوان: دلّت النصوصُ من الكتاب والسُنّةِ على إثبات الإدراكِ والعقلِ والتمييز والعبوديةِ لهذه الكائنات كالحيوان والنباتِ والجمادِ.

قال الله تعالى: (ألم ترَ أنّ اللهَ يسجدُ له من في السمواتِ ومن في الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدّوابُّ وكثيرٌ من الناس). سورة الحج (18).

وقال تعالى: (تُسبِّحُ له السمواتُ السَّبْعُ والأرضُ ومن فيهنّ  وإن من شيئٍ إلاّ يسبِّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنّه كانَ حليماً غفوراً). سورة الإسراء (44)

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما تستقلّ الشمس فيبقى شيئٌ من خلقِ الله إلاّ سبّح بحمده إلاّ ما كانَ من الشياطين وأغبياء بني آدم). صحيح الجامع الصغير (5599).

 وقال صلى الله عليه وسلم (إنّه ليستغفرُ للعالم من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في البحر). صحيح سنن ابن ماجه (197).

وممّا سبق من النصوص ومن غيرها يتبيّن أن لتلك الكائنات الحيوانية والجماديةِ والنباتية وغيرها عبوديةً لله عزّ وجلّ، ولها طاعاتٌ وأفعالٌ تقوم بها من التسبيح بحمده سبحانه والسجودِ له والخشيةِ منه والإشفاقِ والاستغفار والصلاةِ والذكر وغيرها، ولذلك جعل اللهُ لها تمييزاً وإدراكاً ونطقاً خاصاً بها لا نفهمُه نحن البشر، والنصوص أثبتت هذا كشكوى النّار إلى ربِّها، وشكوى الجملِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكاءِ السموات والأرض، وحنين الجذع، وسلامِ الحجر والشجرِ على رسول الله، وكلامِ الهدهدِ والنملةِ، وهكذا أمثلةٌ كثيرةٌ سيأتي ذكرها أثناء البحث.

قال القرطبيُّ في قوله تعالى: (فتبسَّم ضاحكاً من قولها) النمل آية (18): (لا اختلاف عند العلماء أن الحيواناتِ كلَّها لها أفهامٌ وعقولٌ، وقد قال الشافعيُّ: الحمامُ أعقلُ الطيرِ، قال ابنُ عطية: النملُ حيوانٌ فطنٌ...). الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (13/176) .

 قال النوويُّ في قوله عليه الصلاةُ والسلامُ: (إني لأعرفُ حجراً بمكّة كانَ يُسلِّمُ عليَّ قبل أن أُبعَثَ): (فيه معجزةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي هذا إثباتُ التمييزِ في بعض الجماداتِ...) صحيح مسلم بشرح النووي (15/26).

 وهكذا قال ابنُ حجر في فتح الباري (6/87)، ومحمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (6/605).

أمّا الأمثلةُ على عبوديةِ الحيوان فمنها:

راحتُها من موتِ الفاجر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ العبدَ المؤمنَ يستريحُ من نصبِ الدنيا وأذاها إلى رحمةِ الله تعالى، والعبدَ الفاجرَ يستريح منه العبادُ والبلادُ والشجرُ والدوابُّ). رواه البخاريُّ في الرقاق باب سكرات الموت (6512).

  وقال صلى الله عليه وسلم: (قرصت نملةٌ نبياً من الأنبياء فأمر بقريةِ النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه أن قرصتك نملةٌ أحرقْتَ أمَّةً من الأمم تسبِّحُ الله) رواه البخاريُّ في كتاب الجهاد الباب (153)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله وملائكتَه وأهلَ السمواتِ والأرضِ حتى النملةَ في جحرها وحتى الحوتَ ليُصَلُّونَ على معلِّم الناسِ الخيرَ) صحيح سنن الترمذي (2685).

3.   عبودِّيـةُ النباتـاتِ: هذا الكائنُ الذي سخّره الله عزّ وجلّ للبشرِ للانتفاعِ به من ثمره وجذوعه وأغصانه وأوراقِه بل ومن ظلِّه، يخضع لله عزّ وجلّ وله عبوديةٌ خاصةٌ به لا يعلمُها إلاّ الله عزّ وجلّ، وقد دلّت النصوص على عباداتٍ كثيرةٍ للشجرِ وموقفها من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين، نذكر منها:

-       الشجرُ يشهدُ للمؤذِّنِ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسمعُه جنٌ ولا أنسٌ ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلاّ شهد له) صحيح سنن ابن ماجه (597) وأصله في البخاري.

-       الشجرُ يُلبِّي في الحج والعمرةِ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من ملبٍّ يُلبِّي إلاّ لبَّى ما عن يمينه وشماله من حجرٍ أو شجرٍ أو مدرٍ حتى تنقطع الأرضُ من ههنا وههنا) صحيح سنن ابن ماجه (2380).

-       انقياد الشجرةِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليستتر بها عند قضاءِ حاجته: في صحيح مسلم: أنه عليه الصلاة والسلام ذهب لقضاء حاجتِه فإذا شجرتان ِ بشاطئ الوادي، فانطلق إلى إحداهُما فأخذ بغصنٍ من أغصانها فقال: (انقادي عليَّ بإذن الله)، فانقادت كالبعير المخشوش حتى أتى الشجرة الأخرى ففعل معها مثل الأخرى فجمعهما فقال: (التئما عليَّ بإذن الله فالتئمتا) مختصر صحيح مسلم (1537).

-       ومن موقف الشجر مع المسلمين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقـومُ الساعةُ حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهـم المسلمـون حتى يختبئ اليهوديُّ من وراء الحجـر والشجـر، فيقولُ الحجرُ أو الشجرُ: يا مسلم يا عبد الله هذا يهوديُّ خلفي تعال فاقتُلْهُ) رواه مسلم في كتاب الفتن (2922).

4.   عبودِّيـةُ الجماداتِ: وقد مرَّ معنا عبودَّيةُ الحَجَرِ والسمواتِ والأرضِ وغيرها وكذلك:

-       أعضاءُ بني آدم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح ابن آدم فإنّ الأعضاءَ كُلُّها تكفِّرُ اللسانَ فتقول: اتَّقِ الله فينا فإنما نحنُ بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا) صحيح الترمذيّ (2407).

-       الجبلُ يُحبُّ المسلمين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبل أحد: (هذا جبلٌ يُحبُّنا ونحبُّه) رواه البخاريُّ في كتاب الجهاد، وفي روايةٍ أخرى عنده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اثبتْ أُحدٌ فإنّ عليك نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدان) فتح الباري (7/38).

 

-       والسمواتُ والأرضُ والرَّعدُ والرِّيحُ والسحابُ كلُّها تسبِّحُ للهِ ربِّ العالمين.

-       الطعامُ له تسبيحٌ خاصٌ: عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: (ولقد كُنَّا نسمع تسبيحَ الطعام وهو يُؤكَلُ) رواه البخاري في كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام (3579).

 

(4) عبودَّيةُ عالم الغيب:

 وهو كلُّ ما غابَ عن الحس ولا نعلمُ عنه سوى ما أثبتتهُ النصوص الشرعية، ومن ذلك عبودية الملائكةِ وعبودية الجن والشياطين وعبودية الجنّة والنّار وعبودية القلم والعرش.

1.    عبودية الملائكة: هم أجسامٌ خلقت من نور تقدر على التشكّل، مسكنُها السمواتُ، وشأنها الطاعاتُ، (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم (6)، والملائكةُ يعبدون الله تعالى حقَّ عبادته باختيار منهم، قال الله عنهم: (بل عبادٌ مكرمون) سورة الأنبياء (26).

وهم أصنافٌ كثيرةٌ حسب ما وُكل إليهم من أعمال ومن عبوديتهم، قال تعالى: )الذين يحملون العرش ومنْ حوله يُسبِّحون بحمدِ ربِّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا (سورة غافر آية (7)،  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزل عليَّ جبريلُ فأمّني فصلّيتُ معه ثم صلَّيتُ معه ثم صلَّيتُ معه، ثم صلَّيتُ معه، ثم صلَّيتُ معه، يحسبُ بأصابعه خمس صلوات) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق (3221).

والملائكةُ يشهدون يوم الجمعةِ ويضعون أجنحتهم لطالب العلم ويجاهدون مع المسلمين ويحبُّونهم ويُصلُّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم.

2.   عبودية الجن والشياطين: الجنُ نوعٌ من الكائناتِ مخالفٌ للبشرِ والملائكةِ، خلقهم الله من نارٍ، وكلَّفهم بالشرائع فمنهم العاصي ومنهم المطيع، يأكلون ويشربون ويتناكحون، ويرونَ البشرَ من حيث لا يرونهم، وخلقهم الله تعالى لعبادتِه، قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والأنسَ ألاّ ليعبدون( سورة الذاريات (56).

ومن عبوديتهم: قال تعالى: )قُلْ أُوحيَ إليَّ أنه استمع نفرٌ من الجنِّ فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشدِ فآمنّا به ولن نشركَ بربِّنا أحداً( الجن(1)، وبعد أن استمعوا للقرآنِ قالوا: )يا قومنا أجيبوا داعيَ اللهِ وآمنوا به) الأحقاف (29) .

قال ابنُ القيِّم رحمه الله: (فإذا عُلم تكليفُهم بشرائع الأنبياء ومطالبتُهم بها وحشرُهم يوم القيامةِ للثواب والعقاب، على أن محسنهم في الجنَّةِ وأن مسيئَهم في النّار) طبقات المكلفين ص118.

3.   عبودية الجنّةِ والنّارِ: الجنّةُ والنارُ مخلوقتان موجودتان وهما مآلُ العبادِ يوم القيامةِ ، ولقد اختصمت الجنّةُ والنّارُ إلى ربهما يما يُفيدُ عبوديتهما لله تعالى، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجّت الجنّةُ والنّارُ ، فقالت النّارُ : أوثرتُ بالمتكبِّرين والمتجبّرين ، وقالت الجنّةُ فما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وسقطهم وغبرتهم ، فقـال الله عزّ وجلّ للجنّةِ: (إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاءُ من عبادي ، وقال للنّار : إنما أنت عذابي أعذِّبُ بك من أشاءُ من عبادي ولكل واحدةٍ منكما ملؤها) البخاري (4850) مسلم (2846).

 قال النووي رحمه الله: (والحديثُ على ظاهره، وأن الله يخلقُ في الجنّةِ والنارِ تمييزاً يدركان به ويقدران على المراجعةِ والاحتجاج) شرح صحيح مسلم (17/181).

ومن عبودية النّار أنها تغتاظ لرؤية الكافرين يوم القيامةِ، قال تعالى: (إذا رأتهم من مكانٍ بعيدٍ سمعوا لها تغيظاً وزفيراً) سورة الفرقان آية (12).

4.   عبودية القلم والعرش: من الكائنات التي خلقها الله وهي من الأمور الغيبية التي جاءت في النصوص القطعية القلمُ والعرش.

ومن عبودية القلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ أول ما خلق الله عزّ وجلّ القلمَ فقال له: اكتب، قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كلِّ شيئٍ حتى تقوم الساعة) رواه أبو داود في كتاب السنّة (4700) وهو صحيحٌ.

والعرشُ ثابتٌ في الكتابِ والسُنّة، واستواءُ الله عزّ وجلّ عليه ثابتٌ أيضاً وهو من أصول اعتقاد أهل السُنّةِ والجماعةِ السلف الصالح.

ومن عبودية العرش: ما صحَّ من قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (اهتزّ عرشُ الرحمن لموت سعد بن معاذ) متفقٌ عليه، البخاري (3803)، مسلم (2466).

 قال ابنُ حجر رحمه الله: (والمرادُ باهتزاز العرش استبشاره وسروره بقدوم روحه) فتح الباري (7/124).

 

(5) واقـع المسلمين:

 رأينا فيما سبق بعض عبودية الكائناتِ لربِّ العالمين، كما رأينا شذوذ المخلوق البشري، قال تعالى: (وما أكثرُ الناسِ ولو حرصت بمؤمنين) يوسف (103) والعاقلُ يرى العجبَ من حال المسلمين اليوم وبُعدهم عن عبوديةِ خالقهم.

 فما هي أسباب انحرافهم، وما هي نتائج هذا على واقعهم، وما هو العلاجُ؟

أما أسبابُ انحرافهم عن طريق العبودية لربِّ العالمين فمنها الفتنُ التي ظهرت قديماً، وكذلك ظهور الفرقِ الضالّةِ التي أثّرت على تصوّرات الناسِ وفهمهم للإسلام، وانتشارُ الظلمِ والبدع والأهواء والمعتقدات الفاسدة، واختلاط المسلمين بغيرهم، وترجمة العلوم اليونانية والفلسفاتِ القديمة، والغزو الفكري من المستعمرين، ثم سقوط الخلافةِ الإسلاميةِ، والانحرافُ في جميع المجالاتِ، ومن الأسباب أيضاً جهلُ المسلمين بدينهم، وفساد أخلاقهم ووجود علماءِ السُّوءِ وانتشارُ الخوفِ والهزيمةِ النفسية عند بعض المسلمين، وغيرها من الأسباب التي أدّت إلى الانحرافات في مفهوم العقيدةِ، فتساهل الناسُ في الشرك بأنواعه إلاّ من رحم الله، وتحاكموا إلى غير ما أنزل الله، وكذلك ظهر الانحراف في مفهوم العبادةِ والحكم، ومفهوم القضاء والقدرِ ومفهوم الجهادِ وغيرها .

وقد ترتّب على هذه الانحرافات آثارٌ سيئةٌ على المسلمين عامة منها الذلُّ والهوانُ مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتُم بالعينةِ وأخذتُم أذناب البقر، ورضيتُم بالزرع وتركتُم الجهادَ، سلَّط اللهُ عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) السلسلة الصحيحة رقم (11).

 من آثار هذه الانحرافات تسلُّطُ الأعداء على المسلمين مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلةُ على قصعتها، قال قائلٌ: أمن قلَّةٍ نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنّكم كغثاء السيلِ، ولينزعنّ الله من صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن، قال قائلٌ: يا رسول الله وما الوهن؟ قال حُبُّ الدنيا وكراهية الموت) السلسلة الصحيحة (958).

ومن نتائج الانحرافات إصابةُ المسلمين بالجوعِ والخوفِ وضياعُ الخشوع، وقبضُ العلماء، وعدمُ استجابة الدعاءِ وغيُرها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين: خمسٌ إذا ابتُليتُم بهنَّ وأعوذ بالله أن تدركونهنّ: لم تظهرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلنوا بها إلاّ فشا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزانَ إلاّ أُخذوا بالسنين وشدَّةِ المؤونةِ وجور السلطانِ عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالِهم إلاّ مُنعوا القَطْرَ من السماء ولولا البهائمُ لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهدَ رسوله إلاّ سلّطَ عليهم عدوَّاً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتُهم بكتاب الله ويتخيَّروا ممّا أنزل الله إلاّ جعل الله بأسهم بينهم) صحيح سنن ابن ماجه (3246) .

 

(6) خاتمـة:

أمّا طريقُ النجاةِ فقد بيّنَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلَّط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).

وأمّا كيفية الرجوع إلى الدين: فهي بالعودةُ إلى كتاب الله وسُنّةِ رسوله على فهم السلف الصالح، قال مالكٌ رحمه الله: (ولن يَصلُحَ آخرُ هذه الأمَّةِ إلاّ بما صَلُحَ به أولُها).

فعلينا الالتزام أولاً في أنفسنا ثم إصلاح أهلينا ودعوةِ الناسِ إلى هذا الدينِ، ولا تزال طائفةٌ من هذه الأمَّةِ ظاهرين على الحقِّ منصورين حتى يأتي أمرُ الله.

وآخــر دعــوانا أن الحمـد لله رب العالميـــن