أوثق عرى الإيمان


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد:

 فإنَّ من أصول الإيمان وخصاله التي تضبط للمسلم علاقته بالآخرين وتجعلها وفق ضوابط شرعية ينال بها رضا الله تعالى هو الحب في الله، يقول صلى الله عليه وسلم: «أَوْثق عُرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحُبُّ في الله، والبُغض في الله»([1]).

والحب في الله عبادة قلبية، فهي قربة إلى الله، وطاعة له تعالى، يرجو بها المسلم ثواب الله جل وعلا.

والدليل على أنها عبادة كثرة النصوص الواردة فيها، حثًّا عليها، وترغيبًا فيها، وبيانًا لعواقبها، وشرحًا لثمارها، وذِكْرًا لفضائلها، إلى غير ذلك.

ومعنى الحب في الله: هو أنَّ الدافع للمحبة والباعث عليها هو طلب ثواب الله جل وعلا ورجاء الفوز بأجره، فلا تخالط هذه المحبة أهداف دنيئة، أو مقاصد سيئة، أو مآرب ساقطة، وهذا أمر مغفول عنه ولا يُنتَبه له لدى كثير من الناس -إلَّا من رحم الله- ولمَّا ضاع هذا المفهوم الشرعي ضاعت الصِّلات الصحيحة بين الناس.

 أمَّا من حَسُن قصده وسَلِم صدره من الشوائب في علاقته بالآخرين فإليه هذه البشائر النبوية، والتي منها:

الشعور بحلاوة الإيمان، أي: سرور القلب وراحته واستقراره وطيب النفس بهذا العمل القلبي، يقول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإيمان -وذكر منها-: وأن يُحِبَّ المَرْءَ لا يحبه إلَّا لله»([2]).

ومنها: وهي بشارة أعظم من سابقتها وهي: الفوز بمحبة الله تعالى، قال الله تعالى في الحديث القدسي: «حَقَّتْ محبَّتي للمُتَحابِّين فيَّ»([3])، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تحابَّ رجُلان في الله إلَّا كان أحَبَّهُما إلى الله أشَدُّهُما حُبًّا لصاحبه»([4]).

ومنها: بشارة في يوم القيامة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: « سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ، يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ -وذكر منهم-: ورجُلانِ تَحابَّا في الله اجْتَمَعا عليه وتفَرَّقا عليه »([5]).

فهذه النصوص وغيرها كلها تبيِّن أنَّ الحب في الله علاقة شرعية شريفة، ولهذا تزداد دائمًا وتقوى الروابط بين أهلها مع مرور الأيام، وإن وُجِد نوع خلاف أو سوء فهم بينهما فإنه لا يؤثر في هذه العلاقة -وهذا هو حقيقة الحب في الله-.

يقول يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: "حقيقة المحبة: أنها لا تزيد بالبِرِّ، ولا تنقص بالجفاء"([6]).

ومما يجب على المتحابّين في الله الحذر من الأسباب التي تؤثر في العلاقات وتضرّ بالصِّلات، وتفسد الود بين الآخرين، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم شيئًا من تلك الأسباب في قوله: « ما تَوادَّ اثنان ففُرِّقَ بينهما؛ إلَّا بذنب يُحْدِثُهُ أحَدُهُما »([7]).

وهذا فيه أنَّ أساس فساد العلاقات، وأصل ضياع الصِّلات هي المعاصي، ومن هنا يقال لكل أَخَويْن تحابّا في الله بادِرا بالتوبة إلى الله إن وُجِد الشجار وحصل النزاع بينكما؛ لأنَّ سبب ذلك هو ذنب أحدثه أحدكما.

ومن تمام عناية النبي صلى الله عليه وسلم بشأن العلاقات الشرعية أَنْ أَرشدَ إلى الوسائل التي تديمها وتحافظ عليها وتزيدها.

منها: إخبار الطرف الآخر بمحبته له، فعن أنس رضي الله عنه قال: مرَّ رجلٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجل جالس، فقال الرجل: والله يا رسول الله، إني لأُحِبُّ هذا في الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبَرْتَهُ بذلك؟» قال: لا، قال: «قُمْ فأخبِرْهُ تَثْبُت المودَّة بينكما» ، فقام إليه فأخبره، فقال: إني أُحِبُّك في الله -أو قال: أحبك لله- فقال الرجل: أَحَبَّكَ الذي أحبَبْتَني فيه([8]).

وقد طبَّق صلى الله عليه وسلم هذا مع أصحابه، من ذلكم ما جاء في الحديث المشهور، وهو حديث معاذ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «يا معاذُ، واللَّه إنِّي لأُحِبُّكَ، واللَّه إنِّي لأُحِبُّكَ، أوصيكَ يا معاذ لا تدعَنَّ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ تقول: اللَّهُمَّ أَعِنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عبادتكَ»([9]).

ومنها: الإخلاص لله في هذه المحبة؛ لأنَّ الحب في الله عبادة -كما تقدَّم- وقربة لله تعالى، وإلى هذا أشارت الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: « وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لله »([10]).

أمَّا إِنْ شابَ هذه المحبة شيء من حظوظ النفس، والنوايا الدنيئة، والمقاصد السيئة فهذا لا يفوز بأجر ولا يظفر بثواب، ومن هنا قال ابن عمر رضي الله عنهما: "وصارت موالاة الناس في أمر الدنيا، وإنَّ ذلك لا يجزي عن أهله شيئًا"([11])، ولهذا فإنَّ المحبة في الله فضلها دائم، وثوابها متصل مع العبد إلى يوم القيامة، قال سبحانه: « الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ » [الزخرف :67].

ومن الأسباب التي تُقَوِّي الروابط الشرعية بين المتحابين في الله: الزيارة في الله، وقد ورد في هذا أحاديث منها ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «أنَّ رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأَرْصَد اللهُ له على مَدْرَجَتِه مَلَكًا، فلمَّا أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لكَ عليه من نعمة تَرُبُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأنَّ الله قد أحبَّكَ كما أحببتَهُ فيه»([12])، فهذا فيه فضل الحب في الله وفيه فضل الزيارة في الله.

ومنها: الهدية، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «تهادوا تحابُّوا»([13]).

ومنها: المبادرة بالسلام، وحسن اللقاء، وبذل الابتسامة، وإبداء الفرحة بقدومه، إلى غير ذلك، وإلى هذا الإشارة في قوله عليه الصلاة والسلام: «أَوَلا أَدُلُّكُمْ على شيء إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ»([14]).

فعلى المسلم أن يعتني بالوسائل المعينة على زيادة الحب في الله، ومن سعى في هذه الوسائل وجدَّ في تحصيلها قويت محبة أخيه له في قلبه وزادت، وإذا كان كذلك فإنه من خير الناس، قال عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُ الأصحاب عند اللَّه خَيْرُهُم لصاحبه»([15]).

 هذا والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 


 

([1]) رواه الطبراني في المعجم الكبير (11537)، وحسَّنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (998).

([2]) رواه البخاري (16)، ومسلم (43).

([3]) رواه أحمد في المسند (22002)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3020).

([4]) رواه الحاكم في المستدرك (7323) وصحَّح إسناده ووافقه الذهبي، والطبراني في المعجم الأوسط (2899) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3014).

([5]) رواه البخاري (660)، ومسلم (1031).

([6]) رواه الخطيب البغدادي في الزهد والرقائق (21).

([7]) رواه أحمد في المسند (5357)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2219).

([8]) رواه أبو داود (5125)، وأحمد في المسند (13535) واللفظ له، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (5125).

([9]) رواه أبو داود (1522)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1596).

([10]) سبق تخريجه.

([11]) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/312).

([12]) رواه مسلم (2567).

([13]) رواه البخاري في الأدب المفرد (594)، وحسَّنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (463).

([14]) رواه مسلم (54).

([15]) رواه الترمذي (1944) وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2568).