موقف بين يدي الله عظيم


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد...

فأقف معكم وقفة مع حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلمالتي قال فيها: «يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ -الله عز وجل يُكلم العبد-، هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟  فَيَقُولُ: لَا، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا، ثُمَّ يَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ، أَلَكَ حَسَنَةٌ؟ فَيُهَابُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ، مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟- ماذا تصنع هذه البطاقة مع هذه السجلات الكبيرة العظيمة التي فيها تلك الذنوب والمعاصي؟!- فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ»([1]).

هذا الحديث العظيم فيه فوائد كثيرة وجليلة وعظيمة:

الأولى: عظم موقف يوم القيامة.

 عظم الموقف الذي يقفه الإنسان يوم القيامة بين يدي ربه؛ تأمل هذا النداء بين الخلائق؛ يصاح برجل باسمه على رؤوس الخلائق، وتأمل هذا الموقف عندما تُنشر المعاصي والذنوب فتوضع في هذا الميزان، تأمل من الذي يُنادي، وتأمل بين يدي من سيقف العبد يوم القيامة؟ بين يدي الله  عز وجلالعظيم الجليل ( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‎) [طه الآية 107]، (لَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ) [المُطَفِّفِين الآية 4].

لابد أن يعُد الإنسان العدة للوقوف بين يدي ربه  عز وجلفي يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يومٌ عظيم يوم يخاف الإنسان فيه من كل صغيرة وكبيرة قد قالها أو فعلها فليكن عندك جوابٌ لذلك السؤال.

الفائدة الثانية: إثبات صفة الكلام لله تعالى.

عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كلام الله  عز وجلوأنه سبحانه جل في علاه متكلم بكلام حقيقة، كلام يسمعه الإنسان وقد سمعته الملائكة سمعه آدم، سمعه موسى، وسمعه محمد وسيسمعه المؤمنون يوم القيامة، وسمعه هذا العبد وكلمه الله  عز وجلكما قال الله  عز وجل: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) [النِّسَاء الآية 164] وهذه عقيدة جليلة عظيمة دلت عليه النصوص والإجماع وقد حُرمها أهل الأهواء والبدع.

الفائدة الثالثة: أن على العبد أن يعلم أن ما من عملٍ ولا قول سواء كان صغيرًا أو كبيرًا إلا وهو مكتوب مسطر محفوظ عليه، لهذا يقول الله  عز وجل: ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكَهۡف الآية 49].

ويقول الله  عز وجل: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عِمۡرَان الآية 30].

كل ما يفعله الإنسان سيتعرف عليه، وسيقرأه ويراه ويعلمه، يؤتى كتابه بيمينه فيقرأ ما عمل من حسنات، ويؤتى كتابه بشماله أو من وراء ظهره ويقرأ ما فيه من سيئات.

فلابد أن يحاسب الإنسان نفسه على ما يكتب عليه، وكيف يأمن الإنسان وعليه ملائكة يكتبون حسناته وسيئاته، وكيف لا يخاف الإنسان والله  عز وجل يُراقبه ويسمع كلامه ويرى أفعاله بل ويعلم ما توسوس به نفسه.

الفائدة الرابعة: أن الله   عز وجل سبقت رحمته غضبه، وأنه رحيمٌ بخلقه من عمل بحسنة ضاعفها ومن عمل سيئة فبمثلها، يُحب العفو والمغفرة لا يظلم مثقال ذرة.

لذلك يقول الله  عز وجل: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكَهۡف الآية 49]، ويقول  كما مر في الحديث: «وأنه لا ظلم عليك اليوم».

فعلى الإنسان ألا يحقرن من المعروف شيئًا، وأن يرجو الله  عز وجل فيما يعمله من أعمال حسنة، ويجتهد في هذه الطاعات فقد تكون حسنة سبب لنجاتك وعفو الله لك.

الفائدة الخامسة: عظم الشهادتين.

فإنهما ركنا الدين، كلمة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله هذه الكلمة التي قالها ذلك الرجل صادقًا مخلصًا تائبًا راجعًا إلى الله عند قوله لها، فكان بسبب ذلك القول مع ما فيه من اعتقادات قلبية وأعمال قلبية صادقة مخلصة خشية إنابة محبة لهذه الكلمة،  كان لهذه الكلمة من القوة أن طارت تلك السجلات وذهبت بسبب قول هذه الكلمة صدقًا وإخلاصًا وإنابة لله  عز وجل.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «آمركم بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأراضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن»؛ أي لرجحت بهن لا إله إلا الله.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله  عز وجل لو أَتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا، ثمَّ لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقُرابِها مغفرةً »([2]).

فهما طريقان وهما أصلان وهما أساسان، ماذا أعددت ومن اتبعت؟ ماذا أعددت تحققه بقول: لا إله إلا الله لا معبود حق إلا الله.

ومن اتبعت؟ تُحققه بقول: أشهد أن لا إله إلا الله.

فهذان يجب على المسلم أن يهاجر إليهما في كل وقت وكل حين؛ فلابد أن يهاجر إلى الله  عز وجل مخلصًا له موحدًا له عابدًا له صارفًا جميع العبادات القولية والفعلية والقلبية له سبحانه وتعالى، هاجرًا الشرك كبيره وصغيره، مبتعدًا عن كل ما يتعلق بقلبه من تلك الأمور التي تُبعده عن ربه وتُعلقه بالمخلوقين.

والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرة من البدع إلى السنة، هجرة من الاقتداء بغيره إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) [الأَحۡزَاب الآية 21]؛ فليكن الإنسان لله عابدًا وعلى طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم متبعًا، فهذه الكلمة إذا حققها الإنسان حال موته أثرت تأثيرًا عظيمًا كما أثرت في هذا العبد الذي طيرت سجلاته.

لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم« كانَ آخرُ كلامِهِ لاَ إِلَه إِلّا اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ »([3]).

وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله حرم الله تعالى عليه النار»([4]).

وكذلك من قالها في الدنيا تابعًا صادقًا مخلصًا لها قابلًا لما قبها مذعنًا مواليًا محبًا لهذه الكلمة فلابد أن يكون قلبه سعيدًا مطمئنًا صادقًا محسنًا مقبلًا على الله  عز وجل.

فهي المفزع، وهي النجاة، وهي السعادة، لذلك لو تأمل الإنسان أذكار صباحه ومساءه وأدعيته فإنها لا تخلو من تحقيق توحيد الله  عز وجل.

الفائدة الساسدة: إثبات الميزان يوم القيامة.

وهو ميزان له كفتان؛ كفةٌ توضع فيها الحسنات، وكفة توضع فيها السيئات، وقد يوزن الإنسان نفسه في هذا الميزان، وقد توزن أعماله وقد توزن صحائف أعماله وقد يوزن الإنسان نفسه في هذا الميزان، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنهُ ليأتي الرجلُ السمينُ العظيمُ يوم القيامةِ لا يزنُ عند الله جناح بعوضةٍ »([5]).

وفي هذا الحديث وزنت  البطاقة في كفة، ووزنت السجلات في كفة فطاشت السجلات، لذلك يقول الله  عز وجل: (ففَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‎*‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) [المُؤۡمِنُون من الآية 102 الى الآية  103].

وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة؛ أن الميزان حق لا كما يقول بعض أهل الفرق المنحرفة من نفي الميزان أو نفي الصراط أو نفي عذاب القبر كما تقوله فرقة المعتزلة، وصار على دربهم بعض المفكرين وبعض العقلانيين الذين قدموا العقل على النص بل وجعلوا العقل رادًا للنص شاهدًا على الشرع، حاكمًا عليه، والشرع هو الحاكم وهو الذي أتى بما يوافق العقل والعقل الصحيح لا ينافي النص الصريح.

 

 


 

([1]) أخرجه أحمد (2/213) ، الترمذي (5/24) (2639) ، ابن ماجه (2/1437) (4300) ، ابن حبان (1/461) (225) ، الحاكم (1/46، 710) .

([2])أخرجه الترمذي (3540)

([3]) أخرجه أبو داود (3116).

([4]) أخرجه مسلم (33)

([5]) أخرجه البخاري (4729)، ومسلم (2785).