وجاء بقلب منيب


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله الذي وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى وحسن مئاب، له الحمد سبحانه، يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عليه توكلت وإليه متاب، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله النبي المصطفى الأواب، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه صلاة دائمة إلى يوم الحساب أما بعد؛

 أيها المسلمون، اتقوا الله ربكم وتزودوا من دنياكم لأخراكم، فالدنيا زرع ومتاع مقام محدود وأجل معدود، ثم جمع ليوم مشهود، ) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ( [هود :105]، ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَٰئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ    ( [الروم :15-16]، أيها الناس مع خصلة من خصال التوحيد، ومنزلة من منازل العبودية للولي الحميد مع الذل والخضوع والاستجابة والخشوع إنها الإنابة، ولب المحبة والعبادة، وعنوان التوفيق والسعادة، شعار الأنبياء، ودعوة رب الأرض والسماء، ووصف أهل الصدق والوفاء،  فهذا الخليل إبراهيم ) لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ( [هود :75]، وهذا أيوب النبي  نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ) [ص :44]، وهذا داود ) فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) [ص :24]، وهذا شعيب ينادي في قومه بعد نصحهم ) وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‎  ( [هود :88]، وهذا خاتم الأنبياء وإمامهم عليه وعليهم صلوات الله وسلامه يجأر بقوله ) ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ  ( [الشورى :10]، أيها المسلمون، يقول العلماء الإنابة هي الإسراع إلى مرضاة الله، والرجوع إليه في كل وقت، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهي تتضمن أربعة أمور: محبته والخضوع له والإقبال عليه والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع، وقد أمر الله عباده بالإنابة إليه ) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ  ( [الزمر :54]، ) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ  ( [الروم :31]، أيها الناس من لا ينيب إلى ربه لا يهديه، ) قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ  ( [الرعد :27]، أي: ويهدي من أناب إلى الله، ورجع إليه واستعان به وتضرع لديه، بل لا ينتفع بمواعظ الله ولا يبصر آياته إلا من أناب إليه، ) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ  ( [غافر :13]، ) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ  ( [سبأ :9] ) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ‎*‏ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *‏ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ   ( [ق :6-8] ، فالآيات ذكرى للمنيبين، بل من أناب إلى ربه فله البشرى،  ) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ( [الزمر :17]، ثم الجنة في الأخرى، ) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ‎*‏ هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ‎*‏ مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( [ق :31-34]، أواب تائب رجاع مقلع من معصية الله إلى طاعته ومن الغفلة عنه إلى ذكره يتذكر ذنوبه، ثم يستغفر منها ويتوب  )لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ( ، أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه ومن أوصافه ) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ  ( أي: من خاف الله حيث لا يراه أحد إلا الله، بل إذا خلا وذكر ربه فاضت عيناه، وحال قلبه ) وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ( أي: لقي الله يوم القيامة بقلب سليم منيب إليه خاضع لديه، فمن قامت به هذه الأوصاف ينادى يوم القيامة ادخلوها أي الجنة ) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ( سلموا من عذاب الله، وسلم عليهم ملائكة الله ) ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( أي يخلدون في الجنة، فلا يموتون أبدا ولا يظعنون أبدا، ولا يبغون عنها حولا، ) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا ( أي مهما اختاروا وجدوا، ومن أي أصناف الملذات طلبوا نالوا، ) وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (  مما يخطر ببال وأعلاه النظر إلى الكبير المتعال، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من المنيبين إليه المخبتين لديه الموفقين برحمته وفضله.

 أيها المسلمون، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وإن من السعادة أن يطول عمر العبد، ويرزقه الله الإنابة»([1]) ، وكان من دعاءه صلى الله عليه وسلم قوله: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ  وَبِكَ آمَنْتُ  وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ،وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ»([2])  ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا  لَكَ ذَكَّارًا  لَكَ رَهَّابًا  لَكَ مِطْوَاعًا  لَكَ مُخْبِتًا  إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا»([3]) ، وقد أمر الله تعالى باتباع سبيل أهل الإنابة ليستقيم السير إليه، ويحمد العبد يوم الوفود عليه، ) وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ  ( [لقمان :15] وأعظم سبب لحصول الإنابة كثرة ذكر الله تعالى، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: «فمتى أكثر الرجوع إليه بذكره أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه في كل أحواله، فيبقى الله عز وجل مفزعه وملجأه، وملاذه ومعاذه، وقبلة قلبه ومهربه عند النوازل والبلايا»([4]) ، فأنيبوا إلى ربكم أيها الناس وأقبلوا عليه بقلوبكم، وأصلحوا أعمالكم، فالسير إلى الله باستقامة القلوب وإصلاح الأعمال وصدق الإنابة، والله المستعان وعليه التكلان.

 

 


 

([1]) رواه أحمد (14564).

([2]) رواه البخاري (1120)، ومسلم (2717).

([3]) رواه الترمذي (3551)، وأبو داود (1510)، وابن ماجه (3830).

([4]) الوابل الصيب (ص42).