ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 
القسم: 

* الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي قضى ألا نعبد إلا إياه توحيدًا مبينًا، وأمر ببر الوالدين وصيةً واجبةً وإحسانًا مكينًا، أحمده سبحانه حمدًا كثيرًا يملأ الأكوان ويزيد الفؤاد سكينةً ويقينًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تصديقًا به وإقرارًا وإيمانًا، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله أوفى الخلائق لربه وأكمل الرسل ديناً، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليمًا ما حُرِّك بالكلام لسانًا.

أما بعد...

أيها المسلمون، اتقوا ربكم حق تقاته، وتمسكوا بسبل محبته ومرضاته، واستعدوا ليوم جزائه وملاقاته، ﵟوَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢٢٣ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵓﵒﵒﵜ .

أيها الناس، حقٌّ مقرونٌ بحق رب العزة عنوان التوفيق والسعادة، وبابٌ عظيمٌ من أبواب الجنة، وسببٌ كبيرٌ من أسباب الخير والبركة، بل صحبةٌ ليست كالصحاب، ولُحمةٌ أعظم من تلاحم الجبال الشداد، ووصيةٌ واجبةٌ من رب العباد، ﵟ۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ ﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵓﵒﵜ ، ﵟ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ ﵞ ﵝلُقۡمَان : ﵕﵑﵜ هذه صحبة الوالدين، والحق الذي هو دَيْن، ﵟ وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ ١٤ وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٥ﵞ ﵝلُقۡمَان : ﵔﵑ - ﵕﵑﵜ .

وصيةٌ تُذَكِّر الولد بأول خلقه، وعَنَاء أُمِّه في حَمْلِه وحال صغره، لعله يشكر ربه على إنعامه، ويشكر أبويه على مراعاته، وليعلم أن حق هذا المعروف لا يسقط بالإساءة وإن عظُمَـت، فلو جاهداه على الإشراك بالله وحارباه في إيمانه فليصبر على دينه، ولا يطيع في الكفر بربه، ولكن يصاحب بالمعروف، ويحسن ما دامت الدنيا، ويبر ما أمكنه بالحسنى، فاشكر لربك أيها المسلم بالقيام بعبوديته، وأداء حقوقه، واشكر لوالديك بالإحسان إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما بإكرامهما وإجلالهما، والقيام بمؤونتهما واجتناب الإساءة إليهما. هذه وصية الله، وقد عمل بها الصالحون، فاتبع سبيلهم، واعلم أن المرجع إلى الله، وسيسألُك عما كلفك ﵟ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٥ﵞ ﵝلُقۡمَان : ﵕﵑﵜ.

أيها المسلمون، هذه أعظم صحبةٍ في الدنيا، وأعظم دينٍ في البر، ومن أجلها أمر النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- من أتاه ليصحبه ويجاهد معه أمره أن يرجع إلى والديه ويحسن صحبتهما، وأثنى على أويس بن عامر القرني بأنه خير التابعين، وقال عنه لعمر بن الخطاب: «فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل». وأخبر أنه «لو أقسم على الله لأبره»، وبيَّن سبب ذلك بقوله: «له والدةٌ هو بها بر»([1]) قال أصبغ بن زيد: "إنما منع أويسًا أن يقدم على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم- بره بأمه".

أيها الناس، البر بالوالدين ليس بنثرٍ من الإحسان، وإنما هو رضا الرحمن، وبابٌ من أبواب الجنان، فرضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما، وطاعة الله طاعة الوالد، ومعصية الله معصية الوالد، ورغِمَ أنف مَنْ أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة، الزم رجلها فثَمَّ الجنة، فمن الحرمان العظيم أيها الناس والمصائب الكبيرة أن يضع الولد أمه أو أباه في دار العجزة وهو قادرٌ على الرعاية، ويتنكر لجميلهم عند أول عتبة، ويتناسى إحسانهم وهم أحوج ما يكونون للمؤانسة، فيخسر برَّهم، وتفوته بركتهم، وتتبعه حوبات عقوقهم، وقد قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «الوَالِد أَوْسَط أبْوَاب الجَنَّة، فَإِن شِئْت فَأَضِع ذَلِك البَاب أَوْ احْفَظه»([2]).

احذر أيها الرجل أن تؤثر طاعة زوجتك على بر والديك، وتأمل وصية نبيك لصاحبه معاذ: «ولا تَعُقَّنَّ والِدَيْكَ، وإنْ أمرَاكَ أنْ تَخْرُجَ من أهلِكَ ومالِكَ»([3])، وقال لأبي الدرداء: «وَأَطِعْ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ فَاخْرُجْ لَهُمَا»([4]).

أيها المسلون، مَنْ عَرَف عظم الحق والأجر بذل كل ممكن، "فهذا ابن مسعودٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- استقت أمه ماءً في بعض الليالي، فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم فثبت عند رأسها حتى أصبح. وقال ابن المنكدر: (بات أخي عمر يصلي، وبت أغمز قدم أمي، فما أحب أن ليلتي بليلته)".

وقال ابن عون: "كان ابن سيرين إذا كان عند أمه لو رآه رجلٌ لا يعرفه ظنَّ أن به مرضًا من خفض كلامه عندها، وكان يكلم أمه كما يكلم الأمير".

وعن ابن عونٍ: "أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها فأعتق لذلك رقبتين".

والأخبار في هذا لا تحصى، والموفق من عانه ربه وجاهد في البر نفسه.

أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

***

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه والتابعين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد...

أيها المسلمون، لا يستطيع أحدٌ أن يخرج من إحسان والديه ويوفيهما حقهما مهما اجتهد وبذل، فعن أبي هريرة -رَضِيَ الله عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «لا يَجزِي ولدٌ والِدَه ، إلا أن يجدَه مملوكًا فيشتريه فيعتِقَه»([5]).

"ورأى ابن عمر رجلًا يمانيًّا يطوف بالبيت وقد حمله أمه وراء ظهره وهو يقول: (إنِّي لها بَعيرُها المُذَلَّلُ إن أُذْعِرَتْ ركابُها لَمْ أُذْعَرِ). ثم قال: (يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟) قال: (لا، ولا بزفرةٍ واحدة)"؛ أي بألمٍ واحدٍ عند الولادة، ولكن قد أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا".

فاعرفوا حق الوالدين أيها الناس، ولا تقطعنَّكم مشاغل الدنيا وملهيات العصر عن البر والصلة، فالوالدان ليس لهما بديل، ولا عنهما من عِوَض، ووجودهما بابٌ من الجنة واسع، ونهرٌ من الخير متدفق، وبركةٌ من السماء تنهمر، وذهابهما انقطاعٌ للخيرات، وذهابٌ للبركات، وانغلاقٌ لأكبر أبواب الحسنات، فيا سعادة من اغتنم وجودهما، ولازم برهما، وسعى في إرضائهما، وسخر ماله ونفسه في خدمتهما، وقدَّم حقهما على حق غيرهما، ويا خسارة من فرَّط في برهما، وتسبب في غمهما، وأهمل إكرامهما، وآثر عليهما غيرهما، فاللهم أعنا وارزقنا بر آبائنا وأمهاتنا في حياتهم وبعد مماتهم يا ربنا.

اللهم وفقنا إلى ما يرضيك عنا، وأعنا على طاعتك، ووفقنا لمرضاتك، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ومن درك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، ومن جميع سخطك.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين.

اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى خلفائه الراشدين، وعلى صحابته أجمعين، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 


 

1-   صحيح مسلم (2542).

2-   سنن الترمذي (1900)، سنن ابن ماجه (2089)، مسند أحمد (27511)، صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (914).

3-   مسند أحمد (22075)، حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (570 - 8).

4-   الأدب المفرد (18)، حسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (14 - 18).

5-   صحيح مسلم (1510).