يا أبت


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 
القسم: 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد؛

 للوالدين حق عظيم، وقدر جليل حتى إن الابن لا يقدر على مكافئتهما ولو ظل ليله ونهاره يحسن إليهما، كيف له رد الجميل وقد حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا؟ كيف له مكافأة أمه وهي التي أرضعته حولين، وسهرت معه فنام ولم تنم، كيف له أن يرد جميل الأب الذي أخذ من حياته لحياته وأخذ من صحته لقوته، إنه ومن عجائب هذا الزمان وغرائبه ما نراه ونسمعه عن البعض من العقوق والإساءة للوالدين هل سمعتم ابنًا يصفع أمَّه أو بنتًا تسب أباها، هل رأيتم ابنًا يطرد أباه، وبنتًا تحبس أمها، عجائب هذا الزمان كثيرة، بل وأمرّ من ذلك من تجرأ ونزعت من قلبه الرحمة، وسلب منه العقل وانتكست فطرته، فتجرأ على أبيه أو أمه بالقتل، إن القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم علما الخلق ما هو البر وما هو الإحسان، وكيف يكون الابن مع أمِّه أو أبيه وإن كبرا وطال بهما الزمان.

 وسأقف معكم على قصة وأنموذج جميل، ابن مع أبيه، الأب ليس عاصيًا بل مشركًا، والابن ليس أي ابن بل نبي ألا وهو إبراهيم عليه السلام في قصة محاورته مع أبيه ونصحه له فتأملوا واعتبروا، يقول الله سبحانه وتعالى ﵟوَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِبۡرَٰهِيمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقٗا نَّبِيًّا ٤١ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵑﵔﵜ صدقًا في الأقوال والأعمال والاعتقادات، نبي من الله سبحانه وتعالى ﵟ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ تأملوا الآيات جيدًا ﵟ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا ٤٢ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵒﵔﵜ لاحظ هذا الخطاب الذي فيه خفض الجناح والتودُّد واللطف، ورؤية الابن في مكانته كابن والنظر للأب في مكانته الرفيعة كأب فيقول له ﵟ يَٰٓأَبَتِ ﵞ  نداء استعطاف وتودُّد ﵟ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا ٤٢ﵞ لاحظ دقَّة العبارات لم يقل: يا أبي أنت مشرك وإنمّا أتاه بأسلوب ألطف وألين ﵟ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ وَلَا يُغۡنِي عَنكَ شَيۡـٔٗا ٤٢ﵞ فأتاه من جانب ما يعتقده الأب؛ لأنهم يقرون بأن الله هو الخالق الرازق، وأن هذه الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تضر شيئًا ولا تنفع، أعاد وكرر له ذلك النداء اللطيف ﵟ يَٰٓأَبَتِ ﵞ  ابن ينادي أباه بهذا النداء الجميل

ﵟ يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا ٤٣ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵓﵔﵜ لاحظ هنا جميل العبارة يقول لأبيه ﵟ يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ ﵞ يعني أنك ليس بجاهل بل عندك علم لكن العلم الذي جاءني ليس عندك، لم يقل له يا أبت أنت جاهل، دائما يخاطبه بخطاب الابن لأبيه ثم كرر عليه ثالثة: ﵟ يَٰٓأَبَتِ ﵞ  تلطف وتودد لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ ﵞ لما قال له ﵟ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا يَسۡمَعُ وَلَا يُبۡصِرُ ﵞ ارتقى هنا في الخطاب حتى ينفره من عبادة غير الله، فقال: ﵟيَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ ﵞ حقيقة عبادتك للأصنام هي عبادة للشيطان ﵟإِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا ٤٤ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵔﵔﵜ لاحظ العبارة في استعمال أسماء الله الحسنى الرحمن ثم  كرر عليه رابعة: ﵟيَٰٓأَبَتِ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٞ مِّنَ ٱلرَّحۡمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيۡطَٰنِ وَلِيّٗا ٤٥ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵕﵔﵜ لاحظ هنا في هذا النداء الرابع أتى باسم الرحمن مرتين يعني ما قال له: يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الجبار أو المنتقم، وإنما أتاه باسم الرحمن لماذا؟ تغليبًا لجانب الرجاء والرفق في العبارة، والتلطف واستدعاء القلب للميول إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا أيضا فيه شفقة الابن على أبيه فيقول له: ﵟإِنِّيٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ ﵞ فهو يريه أنه خائف عليه من نفس العذاب الذي هو من الرحمن الذي سبقت رحمته غضبه، وأعاد وكرر اسم الرحمن ولم يقل جبارًا أو العظيم حتى يكون أرفق لقلبه وأميل لرجوعه، وبعد جميع هذه المحاولات والأساليب الجميلة اللطيفة ردَّ عليه الأب فقال: ﵟقَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵖﵔﵜ لاحظ الرد الذي فيه نوع جفاف يقول له أنت تريد أن ترغب عن هذه الآلهة وتخالفني، والغالب أن الأبَ يحب من الابن أن يتبعه والابن يحب اتباع أبيه لكن لا يتبعه على الخطأ والغلط، خطاب فيه بداية الرد بشدة من الأب ثم زاد في الغلظة والشدة قال: ﵟلَئِن لَّمۡ تَنتَهِ ﵞ عن دعوتي لعبادة الله وترك عبادة الأصنام لَأَرۡجُمَنَّكَۖ ﵞ بالحجارة ﵟوَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا ٤٦ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵖﵔﵜ

أي زمنًا طويلًا، مع هذه العبارات القاسية من الأب والغليظة التي فيها الاعتداء باليد وباللسان مع التهديد بتباعد الأجساد، لم يكن إبراهيم ليرد عليه ردًّا عنيفًا ولا غليظًا بل قال: ﵟ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ ﵞ أي: ستسلم مني وستكون في أمن وسلام من خطابي بما تكره ليس هذا فحسب بل ﵟ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّيٓۖ ﵞ سيطلب المغفرة ويدعو له بالمغفرة فلا أزال أدعو لك بالهداية وللإسلام الذي تحصل به هذه المغفرة لماذا سأدعو لك لأن الله سبحانه وتعالى  بي حفيًّا ﵟ إِنَّهُۥ كَانَ بِي حَفِيّٗا ٤٧ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵗﵔﵜ

أي رحيمًا رؤوفًا.

 انظروا إلى آخر لحظة، وهو يخاطب أباه بأسلوب جميل، وتلطف وعبارة راقية

 فهذه القصة مدرسة في تعامل الابن مع أبيه خصوصًا إن كان الابن صالحًا والأب ليس بذلك، أو الابن عنده شيء من العلم والأب ليس بذاك، هنا حفظكم الله يصيب بعض الابن شيء من الغرور فينظر إلى نفسه نظرة العلو، وينظر إلى أبيه بنظرة الدنو، كيف وفي الأصل أن مرتبة الأب أعلى من مرتبة الابن، وما كان وجودك في هذه الدنيا إلا بسبب الأبوين بعد فضل الله سبحانه وتعالى، لكن الابن ينسى نفسه، ينسى تلك المراحل التي عاشها صغيرًا مع أبويه طفلًا رضيعًا لا يحسن الاستنجاء لا يحسن النظافة، لا يحسن الأكل وهما يطعمانه وينظفانه ويقومانه، ويعتنيان بحاله فينسي الابن إذا كان عنده شيء من العلم أو شيء من التجارة أو شيء من المال ويكون الأب ما عنده هذا العلم أو هذه التجارة، فيزهو بنفسه ويرى أنه في مقام أرفع من مقام أبيه فيصفه في بعض الأحيان بتلك الصفات التي نسمعها من بعض الشباب، هذا أبي أو أمّيّ جاهلة لا يفهم أو هذا شيبة ما يعقل، وينسى سابقته وينسى ما عنده من خبرات، وتيقنوا يقينًا أنه من كان مع أبيه عاصيًا غير وفيٍّ ولا بار فهو مع غيره أعصى وأبعد عن الوفاء والبر.

ونلاحظ هنا عدّة ملاحظات في هذه القصة:

1-  أنك أيها الابن لست أفضل من إبراهيم ولا أبوك أو أحد أبويك أسوأ من آزر، فلا تنظر لأبيك أو لأمك نظرة الدون، فتنسى الواجب الشرعي عليك من البر والاحترام والتقدير.

2-   انتقاء أجمل الألفاظ وأطيب العبارات مع الوالدين، بعض الشباب يرمي الكلمة على أبويه غضبًا أو قهرًا.

3-  عند إبداء النصيحة للوالدين لا تستعجل في الصراحة، لا ترمِ النصيحة صريحة وإنما مرة بالفعل وتلميحًا بلطف وشبه التصريح على ما تعرفه من حال الأم أو الأب، فإن لم يقبلا أو علمت عدم قبولهما أو أنه قد تكون مفسدة أعظم من النصيحة، فعليك بالدعاء وحسن المعاملة.

 وأختم هنا بنصيحة لبعض المستقيمين أو بعض الصالحين لا تكن سببًا لنفرة والديك عن الاستقامة، لا تكن سببًا لصرف أبويك عن الطاعة، لا تكن سببًا لنفرك أبويك عن حلق العلم بسوء تصرفاتك، وسيء أخلاقك لأن البعض إذا استقام في بدايته لا يستطيع أن يميز بين التمسك بالاستقامة والصلاح والدين وبين الخطأ الموجود في البيت، فتسمع بعض المستقيمين مثلا يأخذ التلفاز ويكسره، وبعضهم يرفع صوته على أبيه؟ فيقول الأب أهكذا علمتك الاستقامة؟ أهكذا فعل بك العلم؟ لا تكن سببًا لصد أبويك وأهل بيتك عن الخير.

 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في دينه، وأن يعلمنا ويفهمنا القرآن والسنة، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بارين بآبائنا وأمهاتنا محسنين إليهم، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يوفق ولاة أمرنا ويحفظ بلادنا ويغفر ذنوبنا، وصلى الله على نبيّنا محمّد.