احذروا سوف


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أمَّا بعد:

فإنَّ الأدواء متفاوتة، وأضرارها متباينة، وآثار السيئة متنوعة على النفس والعقل وإنجاز الأعمال، ومن هذه الأدواء "التسويف"، ويراد به: تسويف الأعمال وتأخيرها، وتأجيل المطالب الدينية والدنيوية وإرجاؤها، فــ"سوف" و"سأعمل" و"سأقوم بكذا" و"فيما بعد سوف أفعل كذا" مصاحبة للمسوِّف لا تفارقه.

وهذا داء عضال: منشأه الكسل، وضعف الهمة، ودنو العزيمة، والاستسلام لمطالب النفس من الراحة والخلود إلى الدَّعة ونحو ذلك.

ومَن وقع في هذا الداء وانقاد له: انفرطت عليه أموره، وأهدر وقته، وتشتت عليه أعماله، وخسر الثواب، وتراجع عن طاعة الله، وأضاع الفرص التي هيَّأها الله له، ووقع في الآثام، وتوترت نفسية المسوِّف، وفَقَد الثقة في قيامه بأعماله، ودخلت الفوضى في حياته، وصدق مَن قال: "مَن استعمل التسويف والْمُنى لم ينبعث في العمل"([1]).

ولذا قال بعض الحكماء: "إنَّ "سوف" جند من جند إبليس، قد أهلك خَلْقاً من خَلْق الله كثيراً"([2])، وهذا حق لمن تأمله؛ فإنَّ المرء كلما أراد القيام بالخير والإقبال عليه صرفه الشيطان بــ"سوف" وقطع عليه الطريق وعطَّله عن قصد الخير ورغبته فيه.

روى الخطيب البغدادي في كتاب اقتضاء العلم العمل([3]) بسنده عن أبي إسحاق قال: "قيل لرجل من عبد القيس: أوصِ، قال: احذروا سوف".

ورحم الله من قال من السلف: "مَن استعمل التسويف طالت حسرته يوم القيامة"([4]).

وقد تناول علماؤنا قديماً التنبيه على هذه الصفة، فذكروا قبحها، وكشفوا عن شناعتها، وحذروا منها، وأظهروا آثارها السيئة، وذلك من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله وهو يعدد الفوائد المستنبطة من قصة كعب بن مالك رضي الله عنه: "ومنها: أنَّ الرجل إذا حضرت له فرصة القُربة والطاعة فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإنَّ العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلَّما تثبت"([5]).

وقال العلامة ابن المنير رحمه الله عند قول الإمام البخاري: (باب الصدقة قبل الرد): "مقصوده بهذه الترجمة: الحث على التحذير من التسويف بالصدقة"([6]).

قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10].

ومعنى الآية: "التحذير من التسويف بالإنفاق استبعاداً لحلول الأجل، واشتغالاً بطول الأمل، والترغيب في المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية، وفوات الأمنية"([7]).

ومن جميل التبويبات قول الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب اقتضاء العلم العمل: (باب ذم التسويف) ثم ساق عدداً من الآثار في المسألة -وتقدَّم بعضها-.

ويكفي التسويف ذمّاً أنه يضر المرء في دينه ودنياه، بل هو من أكبر القواطع عن مصالح الدنيا والآخرة.

ومَن أراد الخلاص من هذا الجند الشيطاني فعليه بما يأتي:

1- تحديد وقت بداية ونهاية لكل عمل، فهذا أضبط في أداء العمل وأكثر عوناً على الإقبال عليه والاهتمام به وإعطائه حقه.

2- التركيز التام على إنجاز العمل المطلوب، وعدم الانشغال بشيء آخر يصرف عن قصد العمل ويشغل عنه ويدعو إلى تأجيله.

3- إدراك أنَّ لكل وقت وظيفة لا تقبل تزاحم أيّ عمل آخر.

4- اليقين بأنَّ الوقت إذا ذهب فلن يعود.

5- التحلِّي بصفة عظيمة وهي: الإرادة القوية والعزيمة الكبيرة لإنجاز الأعمال، فهذا له أثر في هجر التسويف وعدم الالتفات إليه، وقد وردت النصوص الشرعية بالحث على لزوم الهمة العالية، والبُعد عن الكسل.

6- إدراك مخاطر التسويف، والآثار السيئة المترتبة على تأجيل الأعمال، والعواقب الوخيمة الناتجة عن تأخيرها.

7- أنَّ التسويف له آثاره الرديئة من الاتصاف بصفات غير مرضية كالكسل والإهمال واللامبالاة.

8- الدعاء وسؤال الله السلامة من التسويف والكسل.

9- الابتعاد عن كل مَن طبعه التسويف، وإضاعة الأوقات وتعطيل الأعمال، ولذا قال أبو الجوزاء رحمه الله في قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] قال: "تسويفاً"([8]).

فهذا نهي منه جل وعلا عن صحبة مَن هذا شأنه وترك طاعته؛ لما في طاعته من تضييع المرء والتأثر بالجلوس إليه وهدر مصالحه، والتسويف من الأعمال الداخلة في هذا النهي حيث قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

10- إعمال وصية ابن عمر رضي الله عنهما: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"([9]).

ومتى رسخ هذا المعنى في القلب بادر المرء الناصح لنفسه إلى ما ينشده من الخير، وأسرع في أدائه، وجَدَّ في القيام به، ولم يسوِّف في عمله؛ لأنَّ ما يتوقعه من العوارض أقرب إليه، ولذا قيل: "مَن أقلقه الخوف ترك: (أرجو) و(سوف) و(عسى)" ([10]).

11- ملازمة صفة الحزم، وذلك بطرح التسويف وتركه، وانتهاز الفرصة عند وجودها للقيام بما تيسر من الأعمال.

12- الإدراك الكامل أنَّ التسويف من طرق الهلاك، وما هلك مَن هلك إلا بالتسويف، فالمسوِّف يؤمِّل البقاء في هذه الدنيا -وهذا ليس إليه- فقد يبقى وقد يزول عن هذه الدنيا، وإن بقي فقد يقدر على ما أراد وقد لا يقدر، فإنه قد يسوِّف غداً كما سوَّف اليوم!

13- أنَّ الله تعالى قد يعاقب مَن فتح له باباً من الخير فلم يغتنمه بالحيلولة بين قلبه وبين إرادة الخير، فلا يتمكن من إرادته عقوبةً من الله([11])، ولذا قال خالد بن معدان رحمه الله: "إذا فُتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه، فإنه لا يدري متى يُغلق عنه"([12]).

فاستصحاب هذا الشعور يدعو إلى المبادرة إلى كل خير يحبه الله ويرضاه "فإنَّ الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمَن، والتسويف غير محمود"([13]).

وختاماً: مَن أراد السلامة من هذا الداء (التسويف) فعليه بالفرار من داعي الكسل إلى داعي الجد والعمل "وإخلاصه من شوائب الفتور، ووعود التسويف والتهاون، وهو تحت السين وسوف، وعسى، ولعل، فهي أضر شيء على العبد، وهي شجرة ثمرها الخسران والندامات"([14]).

ومَن أراد الله به خيراً رزقه الصدق في العزم، والجدّ في العمل، وعافاه من آفات الطريق، وألقى في قلبه حسن الظن به، وقوة التوكل عليه، فشرح صدره للإقبال عليه، والعمل من أجله، وأعانه على حفظ وقته حتى يلقى ربَّه.

والحمد لله ربِّ العالمين.


 

([1]) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب المتمنين (64).

([2]) رواه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل (200)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/55).

([3]) برقم (198).

([4]) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (10/122).

([5]) زاد المعاد لابن القيم (3/502).

([6]) فتح الباري لابن حجر (3/282).

([7]) فتح الباري لابن حجر (3/285).

([8]) رواه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل (198).

([9]) رواه البخاري (6416).

([10]) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب المتمنين (64).

([11]) انظر: زاد المعاد لابن القيم (3/502-503).

([12]) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/211).

([13]) فتح الباري لابن حجر (3/299).

([14]) مدارج السالكين لابن القيم (2/116).