آداب الوليمة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمدُ للهِ ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،، وبعد

فإن المسلم في حياته الاجتماعية لا يخلو أن يكون يوماً من الأيام مدعواً لوليمة عرسٍ، أو داعياً إليها، فمن المناسب والحال هذه أن نتعلم شيئاً من أحكام الوليمة التي أرشد إليها ديننا الحنيف، وحثنا رسولنا ﷺ على العناية بها.

فما معنى الوليمة؟ وما هو حكمها؟ وفي أي وقت تكون؟ وما هو مقدارها وجنسها؟ وما هي مدتها؟ وما حِكمتها؟ ومن يُدعا إليها؟

أولاً: الوليمة هي: ”كل طعام يُتخذ عند حادث سرور من إملاك، أو نفاس، أو ختان، أو بناء، أو قدوم غائب، إلا أن استعمالها في طعام العرس أظهر“([1]).

-    والطعام الذي يُتخذ عند الولادة يُسمى: الخُرْسُ والخُرْصُ - بالسين والصاد -.

-    ويُسمى الطعام الذي يُتخذ عند البناء: الوكيرةُ.

-    والطعام الذي يُتخذ عند قدوم الغائب: النقيعة.

-    والطعام الذي يُتخذ يوم سابع الولادة: العقيقة.

-    ويُسمى الطعام الذي يُتخذ لسبب أو لغير سبب: مَأْدُبة.

ثانياً: حُكم الوليمة:

الوليمة في العرس واجبة؛ لما ثبت عنه ﷺ أنه أمر بها وفعلها:

فالنبي  لَـمـّا علم أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تزوج قال له: (أَوْلِمْ ولو بشاة)([2])  وهذا أمر يدل على الوجوب.

وثبت من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنه قال: لما خطب عليٌّ فاطمة رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ: (إنه لا بد للعرس - وفي رواية للعروس - من وليمة) ([3]) . ولأن النبي ﷺ ما نكح قط إلا أَوْلم في ضيق أو سعة.

كما أن في الوليمة إعلاناً للنكاح، تفريقاً بينه وبين السفاح، وقد قال النبي ﷺ (أعلنوا النكاح)([4]) .

وإذا كانت الوليمة واجبة؛ فإجابة الدعوة أيضًا واجبة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله). وهذا دليل على وجوب الإجابة، لأن العصيان لا يُطلق إلا على ترك الواجب([5]).

ولقول النبي ﷺ: (إذا دُعي أحدكم إلى وليمة عرس فَلْيُجِب)([6]) .

وقد نقل غير واحد من أهل العلم الاتفاق على وجوب الإجابة لوليمة العرس كابن عبد البر والقاضي عياض والنووي رحمهم الله تعالى.

ولا يجوز الذهاب إليها من غير دعوة ولا استئذان، فقد ثبت عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ إِلَى غُلَامٍ لَهُ لَحَّامٍ، فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً، فَإِنِّي رَأَيْتُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الجُوعَ، قَالَ: فَصَنَعَ طَعَامًا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَدَعَاهُ، وَجُلَسَاءَهُ الَّذِينَ مَعَهُ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ ﷺ اتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ دُعُوا، فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى البَابِ، قَالَ لِصَاحِبِ الـمَنْزِلِ: «إِنَّهُ اتَّبَعَنَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا حِينَ دَعَوْتَنَا، فَإِنْ أَذِنْتَ لَهُ دَخَلَ»، قَالَ: فَقَدْ أَذِنَّا لَهُ فَلْيَدْخُلْ ([7]).

فإن كانت الدعوة عامة، أو عُرف حال صاحب الوليمة أنه يرضى بحضور من جاء بغير دعوة ولا يشق ذلك عليه فيجوز الذهاب من غير دعوة([8]).

ثالثاً: وقت وليمة العرس:

يستحبُ أن تكونَ الوليمة بعد يوم الدخول لفعل النبي ﷺ فعن أنس رضي الله عنه قال: بنى رسول الله ﷺ بامرأة، فأرسلني، فدعوتُ رجالاً على الطعام ([9]).

وعنه قال: تزوج النبي ﷺ صفية، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَجَعَلَ الوَلِيمَةَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ([10]).

قال صاحب الإنصاف: «والأولى أن يقال: وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس؛ لصحة الأخبار في هذا، .. لكن قد جرت العادة فعل ذلك قبل الدخول بيسير»([11])، وبهذا يُعلم أن الأمر فيه سعة والحمد لله.

رابعاً: مقدارها وجنسها

يُستحب أن يُولم بشاة إن أمكنه لقوله ﷺ لعبد الرحمن بن عوف: «أَوْلِمْ ولو بشاة».

ولا يُشترط فيها أن تكون من لحم، وتجزئ بأي طعام تيسر.

لأن النبي ﷺ أَوْلَم على صفية رضي الله عنها بسَويق وتمر، وهذا أقل من شاة في العادة. والسويق: هو دقيق القمح المحمص.

وذكر بعض أهل العلم أنه لا حدّ لها لا كثرة ولا قلة، ومتى حصلت الوليمة بأي نوع من الطعام أجزء. ومَردُّ ذلك إلى حال الزوج إن كان مُوْسِراً أو معسراً.

خامساً: مدة الوليمة

ثبت من فعل النبي ﷺ أنه جعل الوليمة ثلاثة أيام وذلك عندما تزوج من صفية رضي الله عنها.

وثبت عن بعض الصحابة أنهم زادوا على ثلاثة أيام في الوليمة.

وذكر أهل العلم أنه لا حد لمدة الوليمة وليس هناك وقت خاص بها.

أما ما ورد في الحديث: (الوليمة أول يوم حق والثاني معروف واليوم الثالث سمعة ورياء) ([12]) فالحديث ضعيف لا يصح عن النبي ﷺ.

وقد بوب البخاري في صحيحه: "باب: حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ. وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ. وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا وَلاَ يَوْمَيْنِ ".

  إذن ما ثبت من فعل النبي ﷺ يحمل على الاستحباب ومن وجد سعة فزاد على ذلك فلا حرج إذا سلم من الرياء والسرف.

  سادساً: الحِكمة من الوليمة ومن يُدعى إليها؟

القصد من الوليمة هو شكر الله تعالى على نعمةِ الزواج، والتقربُ إليه بجمع أهل الصلاح من الأهل والأصحاب والجيران، من الأغنياء والفقراء على حد سواء، فإن ذلك مدعاة لحصول البركة، فينبغي للزوج أن يحرص على ذلك ولا يميز بين غني وفقير في دعوته للوليمة، فقد نهى الرسول ﷺ عن التفريق بينهما، فثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه - موقوفاً ومرفوعاً - قال: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى اللهَ ورسوله)([13]).

سابعًا: الدعاء لصاحب الوليمة

يستحب لمن حضر الوليمة أن يستغفر لصاحبها ويدعو له بما ورد عن النبي ﷺ فيقول: (اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم)([14]).

وله أن يقول أيضاً: (أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة)([15]).

ويُستحب أن يشكر صاحب الوليمة على دعوته لحديث: (لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ)([16]).

مسائل متفرقة تتعلق بالوليمة:

مسألة: لو دعاه رجلان، فمن يجيب منهما؟

ذكر العلماء بأنه يجيب أسبقهما دعوة. فإن أمكنه أن يجمع بينهما بأن يحضر إلى الأول ثم ينصرف إلى الثاني كان حسن، فإن استويا، يقدم أقربهما إليه قرابة ورحماً، ثم أقربهما إليه باباً لحق الجوار. والله أعلم.

مسألة: لو دعي الصائم للوليمة كيف يصنع؟

إن الصائم إذا دُعي للوليمة ينبغي عليه أن يجيب لما ثبت من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ [إلى الطعام] فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ)([17]). ومعنى (فليُصَلّ) فليدعُ لأهل الطعام بالخير والبركة والمغفرة ونحو ذلك.

والصائم لا يخلوا من حالتين:

الأولى: أن يكون صومه واجباً كنذر، وقضاء رمضان، فإذا دعي والحالة هذه حضر وجوباً ولا يأكل، لأنه يحرم عليه قطع الصوم الواجب لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبۡطِلُوٓاْ أَعۡمَٰلَكُمۡ [محمد: 33]، ويُسن الإخبار بصومه ليُعلم عذره.

الثانية: أن يكون صومه نفلاً فإذا دعي أجاب وجوباً وجاز له الفطر وتركه، فإن كان في تركه الأكل كسرُ قلب أخيه المسلم فالأفضل في حقه أن يفطر ليجبر قلب أخيه، وليدخل السرور عليه بفطره، وإن أفطر فلا يجب عليه القضاء.

مسألة: هل يجب على من حضر الوليمة أن يأكل منها.

لا يجب على من حضر أن يأكل، ويؤيد ذلك ما وقع في حديث جابر رضي الله عنه: (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)([18]).

مسألة: الأعذار المبيحة لعدم حضور الوليمة

عرفنا مما تقدم أن إجابة الدعوة واجبة في وليمة العرس، ولكن هناك أعذار تسقط الوجوب، فمن تلك الأعذار:

أولاً: كل عذر يبيح له التخلف عن صلاة الجماعة يبيح له التخلف عن الوليمة: كأن يكون مريضاً، أو مشغولاً بمريض أو بميت، أو بإطفاء حريق، أو بطلب ماله، أو يخاف ضياع ماله، أو له في طريقه من يؤذيه؛ لأن هذه الأسباب أعذار في حضور الجماعة وفي صلاة الجمعة، ففي الوليمة من باب أولى ([19]).

ثانياً: ومن الأعذار أن يكون في المكان منكر يعجز عن إزالته، لأنه لو ذهب وفيها منكر يعجز عن إزالته وبقي معهم شاركهم في الإثم.

ثالثاً: أن يكون الداعي غير مسلم، فلا تجب عليه الإجابة ولو في وليمة العرس، وإنما تجب في حق المسلم لقوله ﷺ: (حق المسلم على المسلم ست: [وذكر منها] وإذا دعاك فأجبه)([20]).

رابعاً: أن يكون في مال الداعي حرام، فلا تجب إجابته، بل قد تكره أو تحرم خاصة إذا علمنا أن الداعي أولم بشاة مغصوبة فهذا المال حرام لعينه.

وتقوى الكراهة وتضعف بحسب نسبة المال الحرام المخالط لماله المباح.

خامساً: وذكر العلماء من الأعذار أن يعتذر المدعو من صاحب الوليمة فيأذن له، فلا شيء عليه.

مسألة: حكم التصرف في طعام الوليمة.

ليس للمدعو التصرف في طعام الوليمة إلا بالأكل. ولا يجوز له أن يأخذ من الطعام لنفسه شيئاً، إلا في حالة رضا صاحب الوليمة بذلك، أو أن يكون الأخذ في ذلك البلد قد تعارف عليه الناس في مثل هذه المناسبات فلا بأس حينئذ.

إذن لو علمنا كراهة صاحب الوليمة لذلك ومع ذلك أخَذَ المدعو بغير علمه فإنه يأثم على فعله هذا.

ولا شك أن ذلك لا يليق بالمسلم ففيه من الدناءة والمذلة ما فيه، ولا ينبغي للمسلم إذلال نفسه بهذه الأفعال.

اللهم انفعنا بما علمتنا وارزقنا علما نافعا ينفعنا في الدنيا والآخرة

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

* * *

 

 

 

([1]) البيان للعمراني (9/ 479).

([2]) رواه البخاري.

([3]) رواه أحمد والطبراني

([4]) رواه أحمد والحاكم وغيره، انظر صحيح الجامع (1952).

([5]) انظر فتح الباري (9/154).

([6]) البخاري ومسلم.

([7]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([8]) عارضة الأحوذي 4/190

([9]) أخرجه البخاري والبيهقي واللفظ له.

([10]) أخرجه أبو يعلى بسند حسن، وهو في البخاري ومسلم بمعناه.

([11]) الانصاف (8/317).

([12]) انظر ضعيف الجامع (14321).

([13]) البخاري ومسلم موقوفاً، وقد روي من غير وجه بالرفع انظر الإرواء (1947).

([14]) رواه مسلم.

([15]) رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.

([16])  أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني.

([17]) رواه مسلم، وما بين المعكوفين زيادة عند الترمذي.

([18]) رواه مسلم.

([19]) البيان للعمراني (9/484).

([20]) رواه مسلم.