الأخوة في الله


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمدُ للهِ ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،، وبعد

فإن الأخوة والصداقة مطلب جُبل عليه الإنسان، وشُعورٌ يبتهج به، ويأنس إليه، وإذا كانت هذه الإخوة والصداقة مبنية على الحبّ في الله ولله فهي مطلب شرعي حث عليه دين الإسلام.

فالإنسان صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، لا بد له من صاحب وصديق؛ يؤنسه في وحشته، ويواسيه في مصيبته، ويعينه في حاجته، ويشاركه في فرحته، ويدعو له بعد موته.

والصاحب هو رقعة الثوب الذي يرقع به المرء ثوبه، والميزان الذي يُوزن به، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولهذا قيل: قُلْ لي من صاحبك؛ أَقُل لك من أنت.

والناس يَعرفون المرء صالحاً أو طالحاً من خلال النوعية التي شاكلها، والصُّحبة التي سايرها، وقد جسد ذلك نبينا حين قال: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)([1]).

وقال : (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِير: فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)([2]).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ”ما من شيءٍ أدل على شيء، ولا الدخان على النار؛ من الصاحب على الصاحب“.

وقال عدي بن زيد:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه   ***   فكـل قـرين بالمقـارن يقتـدي

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم   ***   ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

 

إذا كانت الأخوة والصداقة والصحبة بهذا القدر من الأهمية، فلا بدّ لكل امرئٍ أن يكون حريصاً على انتقاء أصدقائه، بصيراً بمعرفة من يُخالل، وإن من جملة الآداب والأوصاف التي ينبغي أن تتوفر في الصديق:

1.  أن يكون ذا عقل وحنكة:

 فإن الأحمق والجاهل لا تثبت معه مودة، ولهذا قال بعض الحكماء: "عداوة العاقل أقلُ ضرراً من مودة الأحمق"([3]).

2.  وأن يكون ذا تدينٍ واستقامة:

 لأن قليل الديانة عَدُوٌ لنفسه قبل غيره؛ فكيف تُرجى منه مودةُ غيره؟! والصديق الفاسق وبالٌ على صاحبه لأنه لن يتركه وشأنه، بل سيجره معه إلى فسقه ومجونه، ليُذهب عن نفسه وحشة الانفراد بالمعصية، يقول الله جل وعلا: ﴿وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلٗا ٢٧ يَٰوَيۡلَتَىٰ لَيۡتَنِي لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِيلٗا ٢٨ لَّقَدۡ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَنِيۗ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِلۡإِنسَٰنِ خَذُولٗا ٢٩ [الفرقان: 27 - 29].

فلا بد من استقامة الصديق وصلاحِهِ اعتقاداً وعبادةً وسلوكاً وآداباً، وكل ذلك داخل في قول النبي : (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ)([4]).

3.  أن يكون محمود الأخلاق:

 مرضي السيرة والأفعال، مُؤْثراً للخير آمراً به، كارهاً للشر ناهياً عنه، ولا يكفي التدين دون الخلق الحسن، لأن المرء قد يُطبع على خلال لا تستقيم معها الصحبة.

ولهذا قال الجُنيد –رحمه الله- فيما نُقل عنه: "لأن يصحبني فاسق حسن الخلق؛ أحب إلي من أن يصحبني قارئ –أي فقيه- سيء الخلق"([5]).

4.  حدود العلاقة بين الصديقين:

ينبغي أن تكون بين الصديقين حدود في علاقتهما، إذ يجب أن تكون على وجه الاقتصاد من غير إفراط ولا تفريط لما صح مرفوعاً أن النبي قال: (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا؛ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا؛ عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا)([6]).

أي أحببه حباً مقتصداً، فلربما انقلب ذلك الحب مع تغير الزمان والأحوال بُغضاً، فلا تكون قد أسرفت في حبه فتندم عليه إذا أبغضته، كذلك لا تبالغ في بغض أحدٍ؛ لأنه قد ينقلب بغضك إياه حباً، فلا تكون قد أسرفت في بغضه فتستحيي منه إذا أحببته.

إذن لا بد وأن تتوفر هذه الخصال في الصديق؛ لتكون العلاقة بينهما عاملَ بناءٍ لشخصيتهما، وارتقاءً بأخلاقهما وسلوكهما نحو ما ينفعهما وينفع المجتمع.

مصاحبة الأخيار

إن مصاحبة الأخيار؛ تعدّ دواءً للنفوس وحياة للقلوب، لا سيما إذا كانت الصُّحبة مبنية على المحبة في الله، فإن الله عز وجل رتب عليها أجراً عظيماً في الآخرة، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه  قَالَ : قَالَ النَّبِىُّ : (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأُنَاساً مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : ( هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلاَ أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لاَ يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ )([7]).

وإن من أعظم ثمرات الصحبة الصالحة، محبة الله تعالى للصاحِبَيْنِ وتوفيقُهُ لَهُمَا, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ)([8]).

وقد يقنع المرء بصحبة الصالحين، ولكنه يجد في نفسه تثاقلاً أو حياءً أو حواجز نفسيةً تمنعه من صحبتهم، فلا بد أن يجاهد نفسه في البداية فإنها ستنقاد له في النهاية، ولا بد أن تعلم - أيها المسلم- أن العَتَبَةَ الأولى في مصاحبة الصالحين هو أن تكون صالحًا مثلهم، فإذا أصلحت حالك زالت عنك وحشة الذنوب، وانقشع عنك ذل المعصية، وأتتك الجرأة على صحبتهم، فاستعن بالله تعالى وبادر قبل الندم.

وإذا أكرمك الله بصحبة أخ صالح، فاصبر عليه، وتجاوز عن تقصيره، والتمس له العذر ما استطعت، قال أبو قلابة رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه؛ فالتمس له العذرَ جُهدَك، فإن لم تجد له عذراً؛ فقل في نفسك: لعل لأخي عذراً لا أعلمه ([9]).

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، وارزقنا جميل الصفات، وأعنا على طاعتك وذكرك وحسن عبادتك.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

* * *

 

 


 

([1]) رواه أبو داود.

([2]) رواه البخاري ومسلم.

([3]) أدب الدنيا والدين للماوردي.

([4]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

([5]) إحياء علوم الدين.

([6]) رواه الترمذي.

([7]) رواه أبو داود.

([8]) رواه أحمد والحاكم في المستدرك.

([9]) صفة الصفوة لابن الجوزي.