الزلازل عتب من الله تعالى لعباده


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله إمام المتقين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد؛

 أيها الأفاضل الأكارم كما هو المعهود مع عهد جديد من عهود الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، عهود مستسقاة من مشكاة النبوة، تصلح بها الدنيا والدين، روى الإمام الطبري رحمه الله في كتابه العظيم التفسير بإسناده عن قتادة قال: «ذُكر لنا أن الكوفة رجفت-أي زلزلت-  على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس إن ربّكم يستعتبكم فأعتبوه» ([1]) ، أي: يريد منكم أن ترجعوا إليه، فالزلزلة عتب من الله لعباده لينيبوا إليه ويتوبوا ويتضرعوا ويؤوبوا، وهي جند من جنود الله، وآية يخوف الله بها عباده، ﵟوَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا ٥٩ﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵙﵕﵜ ، قال قتادة: «وإن الله يخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكَّرون، أو يرجعون» ([2])  ﵟوَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚﵞ ﵝالفَتۡح : ﵗﵜ ﵟوَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ ٣١ﵞ ﵝالمُدَّثِّر : ﵑﵓﵜ .

أيها الأفاضل، نقول هذا وقد شاهدنا ونشاهد الدمار الهائل، والفزع العظيم، والموت الكبير الذي خلفه الزلزال المهول الذي ضرب أرض الشام وأرض الترك، زلزال مروّع ذكّر الناس بزلزلة القيامة، فاجعة مهولة، آلمت كل مسلم، أحداث مروعة ومشاهد مفزعة، وهذا أمر الله وقدره وحكمه وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، وهو البر الرحيم والعادل الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة، وقد سير الدنيا بالقدر وطبعها على الكدر، وملأها بالبلايا والعبر، المصائب في الدنيا كالحر والبرد، لا مفر لأحد من الناس عنهما، ﵟوَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵕﵕﵑﵜ ، البلاء في الدنيا سنة ربانية ماضية، فالله تعالى يبتلي عباده بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون، وبالبأساء والضر لعلهم يتضرعون، وإن من المسلّمات في ديننا أن العبد لا يخرج عن تقدير الله تعالى له، فما قدره الله كائن لا محالة وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن الحذر لا يدفع القدر، وأنه لا يسلم أحد في دينه حتى يسلم لربه، ولا يهنأ أحد في عيشه حتى يؤمن بقضاء الله وقدره، ﵟقُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَاﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵑﵕﵜ ، فالكل تحت مشيئة الله وقدره وما كتبه الله كائن ولكن المؤمن قلبه معلق بمولاه وأمره مفوض إليه، ولذلك قال: ﵟهُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٥١ﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵑﵕﵜ ﵟمَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥﵞ ﵝالتَّغَابُن : ﵑﵑﵜ ، قال علقمة: «هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضَى» ([3]) ، والمؤمن إذا سلّم لأمر الله وقضاءه وقدره ملأ الله قلبه تسليما وإيمانا وهداية ورضًى، فالله لا يتهم في قضائه، ولا يعترض على حكمه، فالأمر أمره والملك ملكه والخلق عبيده، ﵟلَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡـَٔلُونَ ٢٣ﵞ ﵝالأَنبِيَاء : ﵓﵒﵜ ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، فقال: «لا تتهم الله في شيء قضى لك به»([4]) ، قال ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية([5])  في أحداث سنة ستمئة وستة وستين للهجرة قال: «وفيها توفي: الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال شيخ رباط المرزبانية، كان صالحا ورعا زاهدا، حكى عن نفسه قال: كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار ».

 والتتار فعلوا الأفاعيل بالمسلمين حتى قال ابن القيم([6]) :

فغدا على سيف التتار الألف في ... مثل لها مضروبة بوزان

وكذا ثمان مئينهما في ألفها ... مضروبة بالعدّ والحسبان

حتى بكى الإسلام أعداه اليهود ... كذا المجوس وعابد الصلبان

 والذي حكاه ابن تيمية في منهاج السنة عن بعض المؤرّخين أن عدد ما قتلوه في بغداد بلغ عشرة آلاف ألف، أتوا على بلاد المشرق ما وراء النهر وخراسان فجعلوها قاعا صفصفا حتى قال ابن الأثير: قد أحصى بعض المؤرخين عدد ما قتلوه في يوم واحد في مدينة واحدة وهي مرو، فبلغ سبعمائة ألف مسلم، بقيت البلاد خاوية على عروشها سنين، تعطلت فيها الجمع والجماعات ولم يسكنها ديّار.

 قال هذا الرجل: فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت: يا رب، كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فرأيت في المنام رجلا وفي يده كتاب، فأخذته فقرأته، فإذا فيه هذه الأبيات، فيها الإنكار علي:

دع الاعتراض فما الأمر لك ... ولا الحكم في حركات الفلك

ولا تسأل الله عن فعله ... فمن خاض لجّة بحر هلك

إليه تصير أمور العباد ... دع الاعتراض فما أجهلك

  فالله لا يعترض على حكمه، له الحجة البالغة والحكمة البالغة، والعاقبة عن العباد غيب، والناس في الدنيا عابري سبيل، وهم في اختبار من ربهم أوجدهم لحكمة، وهم ملكه وتحت تصرفه وأمره، ولذلك نقول: إنا لله كلنا لله ملك له سبحانه، فالكل لله وماضٍ فيهم قضاؤه وعدل فيهم حكمه، والابتلاء لا تلزم منه عقوبة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ» ([7]) ، ممّا يرون من ثواب أهل البلاء، لما انكشفت الحقائق غبطوهم على بلاء الدنيا، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأمْرِ المُؤمنِ إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خيرٌ»([8])  وأخبر: «مَا يَزَالُ البَلاَءُ بِالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفسِهِ ووَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ تَعَالَى وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ»([9]) ، وأخبر: « إن الرجل لتكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياه»([10]) ، وأخبر: « وَإنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ »([11]) ، وقال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»([12]) ، وقال: «إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» ([13]، وقد أخذ الصدر الأول الصحب الكرام بالطاعون، وهم أهل النقاوة والطاعة، فما برح عنهم الطاعون إلا وقد أخذ خمسة وعشرين ألفا، والطاعون شهادة، والله يصطفي، والبلايا في طياتها عطايا، والمحن في ثناياها منح، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وقد أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام: « أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ ، وَالزَّلَازِلُ ، وَالْقَتْلُ» ([14]) ، وأخبر أن من يموت بالهدم فهو شهيد، فمن أعظم الجهل أن يعترض أحد على الله في حكمه، أمر الله وقضاؤه يسلم له تسليما تاما بلا شك ولا اعتراض، والمطلوب من العبد إذا نزل البلاء أن يستكين لربه ويتضرع ويتوب إليه ويستغفر، قال الله تعالى: ﵟوَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٖ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَتَضَرَّعُونَ ٤٢ فَلَوۡلَآ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٤٣ﵞ ﵝالأَنۡعَام : ﵒﵔ - ﵓﵔﵜ

 فمن المصائب أن تنسب هذه البلايا والزلازل العظيمة المهولة إلى الطبيعة المجرّدة، وأن الزلازل ظاهرة كونية لا تدل أبدا على غضب من الله ولا عقاب، كل ما يحدث في الكون من بلايا سببها الخطايا ﵟوَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡﵞ ﵝالشُّورَى : ﵐﵓﵜ ، وهذا مع عفو الله عز وجل: ﵟوَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠ﵞ ﵝالشُّورَى : ﵐﵓﵜ وإلا: ﵟوَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهۡرِهَا مِن دَآبَّةٖﵞ ﵝفَاطِر : ﵕﵔﵜ، فالعباد إنما يعيشون تحت رحمة حسناتهم أو نقمة سيئاتهم، ولا يأمن مكر الله إلا خاسر، ﵟأَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَخۡسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ ٤٥ﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵕﵔﵜ، ﵟأَفَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا بَيَٰتٗا وَهُمۡ نَآئِمُونَ ٩٧ أَوَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا ضُحٗى وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ٩٨ أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا يَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٩٩ أَوَلَمۡ يَهۡدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ أَهۡلِهَآﵞ ﵝالأَعۡرَاف : ﵗﵙ - ﵐﵐﵑﵜ من هم من الذين ورثوا الأرض من بعد أهلها؟ أمة الإسلام: ﵟأَوَلَمۡ يَهۡدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ أَهۡلِهَآ أَن لَّوۡ نَشَآءُ أَصَبۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡﵞ ﵝالأَعۡرَاف : ﵐﵐﵑﵜ ، فالمصائب تنزل بالذنوب ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، ولذلك عاب الله على من لا يستكين ولا يتضرع عند العذاب، قال الله: ﵟوَلَقَدۡ أَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡعَذَابِ فَمَا ٱسۡتَكَانُواْ لِرَبِّهِمۡ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ٧٦ﵞ ﵝالمُؤۡمِنُون : ﵖﵗﵜ ، عن النعمان ابن بشير رضي الله عنه أنه قال وهو يخطب الناس في حمص: «إن الهلكة كل الهلكة أن تعمل بالسيئات في زمن البلاء» ([15])، فالبلاء لا يؤمن، وليس بين الله وبين خلقه نسب، وهوان الخلق على الله إذا هم أضاعوا أمره، ومن لم يتعظ بغيره كان عظة وعبرة لغيره، وقد خلت من قبلنا المثلات، وأخذت الأمم بالمعاصي والسيئات، ﵟفَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥٢ﵞ ﵝالنَّمۡل : ﵒﵕﵜ .

 

ورب قوم قد غدوا في نعمة ... زمنا والدهر ريان غدق

سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق

 وما رأينا من الزلازل المهولة قد مضى على الناس، فقد ذكر أهل التواريخ حوادث عظيمة مفجعة مرت على المسلمين، قال الذهبي في تاريخه في أحداث سنة ثلاث وثلاثين ومئتين: «وفيها جاءت زلزلة مَهُولة بدمشق، سقطت فيها شُرُفات الجامع، تصدع حائط المحراب، وسقطت منارته، وهلك خلْق تحت الرَّدْم، وهرب النّاس إلى الْمُصَلّى باكين مُتَضرِّعين، وبقيت ثلاث ساعات، وسكنت، وقال: أحمد بْن كامل في تاريخه: إنّ بعض أهالي دير مُرَّان رأى دمشق تنخفضُ وترتفعُ مِرارًا، فمات تحت الْهَدم مُعْظم أهلها، قال: وانكفأت قريةٌ بالغُوطة-أي خسف بها-  فلَمْ ينجُ منها إلَّا رجلٌ واحد، وامتدّت إلى أنطاكية، فهدمتها، وإلى الجزيرة فأخربتها، وإلى المَوْصِل فيُقالُ: هَلَكَ من أهلها خمسون ألفًا، ومن أهل أنطاكية عشرون ألفًا» ([16])، وقال في أحداث سنة وثلاثين وخمسمائة: «قال أبو الفَرَج بن الجوزيّ: كانت فيها زلزلة عظيمة بجنْزَة، أتت على مائتي ألف وثلاثين ألفًا، فأهلكهم الله، وكانت الزّلزلة عشرة فراسخ في مثلها ، قال: فسمعت شيخنا ابن ناصر يقول: جاء الخبر أنّه خُسِف بجنْزَة، وصار مكان البلد ماء أسود، وقدِم التّجّار من أهلها، فلزِموا المقابر يبكون على أهاليهم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون» ([17])  ، وزلزل أهل حلب في ليلة واحدة ثمانين مرة، وقال ابن كثير: «ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام، هلك بسببها خلق كثير لا يعلمهم إلا الله، وتهدم أكثر حلب وحماة وشيزر وحمص وكفر طاب وحصن الأكراد واللاذقية والمعرة وأفامية وأنطاكية وطرابلس، قال ابن الجوزي: وأما شيزر فلم يسلم منها إلا امرأة وخادم لها، وهلك الباقون، وأما كفر طاب فلم يسلم منها أحد، وأما أفامية فساخت قلعتها، وتل جران انقسم نصفين، فأبدى نواويس وبيوتا كثيرة في وسطه -أي في الخسف- قال: وهلك من مدائن الإفرنج شيء كثير، وتهدم أسوار أكثر مدن الشام من ذلك» ([18]) ، قال أبو شامة: «وَلَقَد بَلغنِي من كَثْرَة الهلكى أَن بعض المعلمين بحماة ذكر أَنه فَارق الْمكتب- يعني مكتب حفظ القرآن للصغار وكانت مكاتبهم عامرة بالأطفال- لمهمّ-أي حاجة-  فَجَاءَت الزلزلة فأخربت الدّور وَسقط الْمكتب على الصّبيان جَمِيعهم قَالَ الْمعلم فَلم يَأْتِ أحد يسْأَل عَن صبي كَانَ لَهُ فِي الْمكتب» ([19])  -لماذا لأن الأهل كلهم ماتوا-، قال: ومات أمم لا يحصون حتى قال صاحب مرآة الزمان([20]) : إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو من ألف ألف ومئة ألف إنسان، مليون ومئة ألف، وقال الذهبي في أحداث سنة خمس وستين وخمسمائة فيها جاءت الزلزلة العظمى بالشام، أطنب في وصفها العماد الكاتب أو المظفر ابن الجوزي وغيرهما حتى قال بعضهم: هلك بحلب تحت الهدم ثمانون ألفا قال: وردت الأخبار من ناحية الشمال بما يسوء سماعه ويرعب النفوس ذكره، بحيث انهدمت حماة وقلعتها وسائر ومنازلها ودورها على أهلها من الشيوخ والشبان والأطفال والنسوان، وهم العدد الكبير والجمّ الغفير بحيث لم يسلم منهم إلا القليل اليسير، والقصص في هذا لا تكاد تحصى، وأهل الإسلام يبتليهم الله عز وجل ليطهرهم، ويقيهم بلاء الدنيا ببلاء الدنيا عذاب الآخرة، قال عليه الصلاة والسلام: « أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ ، وَالزَّلَازِلُ ، وَالْقَتْلُ».

والزلازل أيها الأفاضل ستزداد كلما دنت الساعة، ومن العجب أن تنسب الزلازل العظيمة إلى مؤامرات، وأنها من فعل الإنسان، هذا كلام باطل هراء، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل »([21]) ، وقال عليه الصلاة والسلام: « بين يدي الساعة موتان شديد-أي موت من الناس شديد- ، وبعده سنوات الزلازل» ([22])  ، وقال عليه الصلاة والسلام: «أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل» ([23]) ، وفي حديث سمرة قال عليه الصلاة والسلام: « لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَزُولَ الْجِبَالُ عَنْ أَمَاكِنِهَا ، وَتَرَوْنَ الْأُمُورَ الْعِظَامَ الَّتِي لَمْ تَكُونُوا تَرَوْنَهَا» ([24]) ، وتحول الجبال إنما يكون بالزلازل، وهي سبب غور الماء في الأرض، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: «يُوشِكُ أَنْ تَطْلُبُوا فِي قُرَاكُمْ هَذِهِ طَسْتًا مِنْ مَاءٍ فَلَا تَجِدُونَهُ ، يَنْزَوِي كُلُّ مَاءٍ إِلَى عُنْصُرِهِ، فَيَكُونُ فِي الشَّامِ بَقِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَاءُ» ([25]) ، وهذا في آخر الزمان، فعن عبد الله بن حوالة قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي، ثم قال: «يا ابن حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك»([26]) ، والله المستعان.

 فأسأل الله عز وجل أن يلطف بعباده، وأن يجبر مصاب إخواننا، وأن يعافي مرضاهم، وأن يرفع في الشهداء موتاهم، وأن يعقبهم عقبى حسنة ويهبهم من لدنه رحمة، ويجعل ما أصابهم كفارة ورفعة، وهذا البلاء أيها الأفاضل امتحان لنا، هل نقف مع إخواننا ولو بالدعاء والشعور بالألم.

 ومن التحدث بنعمة الله ما تقوم به دولتنا وقامت به من أول يوم من وقوع الزلزلة، ومسارعة ولاة أمورنا الأخيار في نجدة إخوان بالمال والرجال، ثم الحملة الشعبية الواسعة واستمرار الجسر الجوي بثمان طائرات شحن في كل يوم، وتكفل رجال دولتنا بإيصال المعونات بأيديهم إلى المحتاجين والمعوزين من إخواننا عدا المستشفيات الميدانية وفرق الإنقاذ، وقد قام غيرنا بمثل ما قمنا وكثير خاصة أهل الخليج فجزى الله الجميع خير الجزاء.

 وهذا لا يمنّ به على أحد وهو حق لإخواننا علينا، فالمسلمون جسد واحد والمعروف يقدم لكل محتاج، وقد جاء الأمر من ولي أمرنا بإقامة صلاة الغائب على من مات قياما بالحق، وشعورا برابطة الأخوة في الدين، وكل هذا في الحقيقة لا يحتاج إلى ذكر ولكن للأسف وذكرته لأمر مهم ظهر في الناس من يسيس الأحداث، ويقوّم الدول من منظار حزبيته ويفتري على الناس من منطلق جماعته، ويقتات بالمصائب لينشر فتنه، يفخم ما قد يظنه خطأ ويستخرج الزلة بالمناقيش، ولو كانت مثقال ذرة، ويصمت صمت الأموات عن جبال الحسنات، وتدفق الخيرات لا يرى خيرا إلا إذا قدم له أو كان من طريقه، في المصائب أيها الأفاضل انظر إلى حاجة المحتاج، ولا تنظر إلى المحتاج، غمض عينك عن من أمامك وابذل المعروف لكل محتاج، واقصد وجه ربك، هذا الذي نظنه بولاة أمورنا ودولتنا، ولكن للأسف النفوس مريضة في كثير من البلدان حزبية أعمت الناس فسيّسوا الأمور.

 نسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إلى دينه ردا جميلا، ويرفع عنهم كل بلاء، وأن يحفظهم من كل داء، وأن يحفظ ولاة أمورنا ويبارك في أمننا واستقرارنا، ويدفع عنا كل شر وبلاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.


 

([1]) جامع البيان (17/478).

([2]) المصدر نفسه.

([3]) تفسير ابن كثير (8/161).

([4]) رواه أحمد (22717).

([5]) البداية والنهاية (17/480).

([6]) النونية (ص62).

([7]) رواه الترمذي (2402).

([8]) رواه مسلم (2999).

([9]) رواه الترمذي (2399).

([10]) رواه ابن حبان (2908)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2599).

([11]) رواه الترمذي (2396).

([12]) رواه البخاري (5645).

([13]) رواه الترمذي (2398).

([14]) رواه أبو داود (4278)، والحاكم (8372).

([15]) البداية والنهاية (11/ 680).

([16]) تاريخ الإسلام (17/5).

([17]) المصدر نفسه (36/153).

([18]) البداية والنهاية (16/381).

([19]) الروضتين في أخبار الدولتين (1/335).

([20]) مرآة الزمان (22/91).

([21]) رواه البخاري  (1036).

([22]) رواه أحمد(16964).

([23]) رواه أحمد (11326).

([24]) رواه الطبراني (6857)، وينظر: السلسلة الصَّحِيحَة (3061).

([25]) رواه الحاكم (8538).

([26]) رواه أحمد (22487).