أحوال الخلق في الدنيا


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛

فإننا نحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام، و نسأل الله عز وجل أن يرزق الجميع الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالنا يوم القيامة، كتابة اليوم بعنوان:"أحوال الخلق في الدنيا".

أحوال الناس في الدنيا، يقول الله عز وجل: ﵟإِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَٱطۡمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ ٧ أُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٨ﵞ ﵝيُونُس : ﵗ - ﵘﵜ ، ويقول الله عز وجل: ﵟإِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ يَهۡدِيهِمۡ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمۡۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ ٩ﵞ ﵝيُونُس : ﵙﵜ ، والله عز وجل خلق الخلق، فمنهم كافر ومنهم مؤمن كما قال سبحانه وتعالى: ﵟهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢ﵞ ﵝالتَّغَابُن : ﵒﵜ ، فالإنسان في هذه الدنيا مسافر إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، الأيام والليالي مراحل لسفر هذا الإنسان، لا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر، العاقل من جعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالما غانما، فإذا تيقن قصر هذه المراحل في الدنيا، وتيقن سرعة انقضائها هان عليه العمل، الناس في قطع هذه المراحل في الدنيا قسمان:

 القسم الأول: قطع وهم مسافرين إلى دار الشقاء كلما قطعوا مرحلة قربوا من تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته، قطعوا تلك المراحل بمساخط الرب عز وجل، ومعاداة رسله وأوليائه ودينه، ﵟيُرِيدُونَ لِيُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨ﵞ ﵝالصَّف : ﵘﵜ ، هؤلاء شر خلق الله، جعلت أيامهم ولياليهم مراحل يسافرون فيها إلى الدار التي خلقوا لها واستعملوا بها، فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم يسوقونهم إلى منازلهم في النار سوقا، كما قال سبحانه وتعالى: ﵟأَلَمۡ تَرَ أَنَّآ أَرۡسَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمۡ أَزّٗا ٨٣ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵓﵘﵜ.

 القسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام وهؤلاء ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله، هؤلاء الثلاثة الأصناف كلهم مستعدون للسير، موقنون بالرجعة إلى الله لكنهم متفاوتون في التزود متفاوتون بتعبئة الزاد واختياره وفي نفس السير وسرعته وبطئه، كما قال الله عز وجل عنهم: ﵟثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢ﵞ ﵝفَاطِر : ﵒﵓﵜ، سعي العبد وحركته في هذه الحياة أربعة أنواع: سعي لجلب نفع مفقود كالكسب، أو لحفظ موجود كالادخار، أو لدفع ضرر لم ينزل كدفع الصائل المعتدي، أو لإزالة ضرر قد نزل كالتداوي من المرض، الإنسان في الحقيقة متوجه من الدنيا إلى الآخرة ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن دار العمل إلى دار الجزاء، ومن الدار الفانية إلى الدار الباقية، ومن السعادة الجزئية أو الشقاوة الجزئية إلى السعادة الكلية أو الشقاوة الكلية، فالخير كله بحذافيره في الجنة والشر كله بحذافيره في النار، الناس قادمون على ربهم ومجزيون بأعمالهم، كما قال الله عز وجل: ﵟإِنَّ إِلَيۡنَآ إِيَابَهُمۡ ٢٥ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا حِسَابَهُم ٢٦ﵞ ﵝالغَاشِيَة : ﵕﵒ - ﵖﵒﵜ ، فسعيد وشقي ورابح وخاسر ومكرَّمٌ ومهان، كل حسب عمله فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، ففرح مسرور وشقي محزون، مسوق إلى الجنة أو مسوق إلى النار،

 قال عز وجل: ﵟ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوۡمَئِذٖ يَتَفَرَّقُونَ ١٤ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَهُمۡ فِي رَوۡضَةٖ يُحۡبَرُونَ ١٥ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَلِقَآيِٕ ٱلۡأٓخِرَةِ فَأُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡعَذَابِ مُحۡضَرُونَ ١٦ﵞ ﵝالرُّوم : ﵔﵑ - ﵖﵑﵜ، الناس في الدنيا فريقان: المؤمن والكفار، الإيمان له شعب ولأهله صفات، وأهل الإيمان ثلاث درجات: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، الكفر له شعب ولأهله صفات وأهله درجات، وهم متفاوتون في الشقاء حسب أعمالهم، كما أن المؤمنين متفاوتون في النعيم حسب أعمالهم، وموعد الجميع يوم الفصل، قال عز وجل: ﵟيَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ ١٠٥ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيقٌ ١٠٦ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ ١٠٧ ۞ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلۡجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۖ عَطَآءً غَيۡرَ مَجۡذُوذٖ ١٠٨ﵞ ﵝهُود : ﵕﵐﵑ - ﵘﵐﵑﵜ، النعيم والعذاب في الدنيا والآخرة مبنيٌّ على العمل في الدنيا، فمن آمن وعمل صالحا فله السعادة في الدنيا والآخرة، ومن كفر بالله فله الشقاء في الدنيا والآخرة.

 من خلال هذه الكتابة نتعرف على حال هؤلاء الأصناف الأربعة من الخلق من الناس، نعرف حال هؤلاء الأشقياء لنحذر من سوء أعمالهم حتى لا نكون معهم في الآخرة، نتعرف على حال هؤلاء السعداء الأصناف الثلاثة الأخرى ليقتدي العبد بهم وبالسابقين إلى الخيرات، فنذكر أحوال الأصناف الأربعة من الناس في هذه الدنيا ومصيرهم في الآخرة ليختار كلٌ منا حاله من هذه الأحوال الأربعة، فما هي أحوال الخلق في هذه الدنيا؟ حال الأشقياء وحال الظالم لنفسه من المؤمنين، وحال المقتصد من المؤمنين، وحال السابق بالخيرات؟

 أولا: حال الأشقياء، قال الله عز وجل: ﵟإِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ ١٦١ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ ١٦٢ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵑﵖﵑ - ﵒﵖﵑﵜ وقال عز وجل: ﵟوَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ ٢٠ﵞ ﵝالأَحۡقَاف : ﵐﵒﵜ، فالكفار والمشركون والمنافقون لا حظّ لهم في الآخرة، وأما في الدنيا فهم يتمتعون يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، هؤلاء كالأنعام التي فقدت العقول حيث آثروا ما يفنى على ما يبقى، لن يستفيدوا من عقولهم وأسماعهم وأبصارهم بل هم أضل من البهائم السائمة، إن البهائم مستعملة فيما خلقت له ولها أذهان تدرك بها مضرتها من منفعتها فهي أحسن حالا منهم، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له ووهبهم الله عز وجل الأفئدة والأسماع والأبصار لتكون عونا لهم على القيام بأوامر الله وحقوقه، فاستعانوا بها على معصية الله والصدّ عن سبيله ومحاربة أوليائه ودينه، وغفلوا عن أنفع الأشياء وأحسنها من الإيمان بالله وطاعته وذكره، هؤلاء جديرون بأن يكونوا ممن ذرأ الله لجهنم وخلقهم لها وهم بأعمال أهلها يعملون، كما قال عز وجل: ﵟوَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ ١٧٩ﵞ ﵝالأَعۡرَاف : ﵙﵗﵑﵜ، قطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في الصدّ عن ذكر الله عز وجل، فاستحق هؤلاء بهذه الجنايات والكبائر أشد العقوبات وهو العذاب المؤلم أشد الألم في النار، بطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم وما لهم أحد ينصرهم من عذاب الله ولا يدفع عنهم من نقمته مثقال ذرة، قال عز وجل: ﵟوَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ ٣٦ﵞ ﵝفَاطِر : ﵖﵓﵜ ، نسأل الله عز وجل وإياكم العفو والعافية.

 الصنف الثاني من أحوال الخلق في الدنيا: حال الظالم لنفسه، قال الله عز وجل: ﵟثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢ﵞ ﵝفَاطِر : ﵒﵓﵜ ، وقال عز وجل: ﵟوَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ١١٠ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵐﵑﵑﵜ ، أورث الله تبارك وتعالى هذه الأمة الكتاب المهيمن على سائر الكتب، فمنهم الظالم لنفسه بالمعاصي التي هي دون الكفر، ومنهم المقتصد الذي اقتصر على فعل الواجبات وترك المحرمات، ومنهم السابق بالخيرات الذي سبق غيره في الأعمال الصالحة، كل هؤلاء الأصناف الثلاثة من المؤمنين اصطفاهم الله عز وجل لوراثة الكتاب وإن تفاوتت مراتبهم، تميزت أحوالهم فلكلّ منهم قسط من وراثته حتى الظالم لنفسه فإن معه أصل الإيمان وعلم الإيمان وأعمال الإيمان، من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ظلم نفسه بحملها على معصية الله، ثم استغفر الله استغفارا تاما يستلزم هذا الاستغفار الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع عنه والعزم على ألا يعود إليه، فهذا قد وعده الله الذي لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة، فالسائرون إلى الله وإلى دار كرامته ظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثار شهواته ولذاته على مرضاة الرب وأوامره مع إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظّه وهواه، هو يعلم سوء حاله يعترف بتفريطه وكثرة معاصيه، يعزم على الرجوع إلى الله عز وجل، الظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا في صفته بل هو مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود بما يتأذى به في طريقه، الظالم لنفسه يستقبل مرحلة يومه وليلته وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه، حركت جوارحه طالبة لها، فإذا زاحمتها حقوق ربه تارة وتارة فمرة يأخذ بالرخصة ومرة يأخذ بالعزيمة، ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاونا ووعدا بالتوبة، فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر مع التصديق بالثواب والعقاب، فإذا ورد هذا العبد يوم القيامة ميز ربحه من خسرانه، كان الحكم للراجح منهما حكم الله عز وجل من وراء ذلك، لا يعدم منه فضله وعدله، الذين معهم أصل التوحيد والإيمان إذا خلطوا الأعمال صالحة بالأعمال السيئة من التجرؤ على بعض المحرمات والتقصير في بعض الواجبات مع الاعتراف بذلك والرجاء بأن يغفر الله لهم هؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم، كما قال عز وجل: ﵟوَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٠٢ﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵒﵐﵑﵜ .

الصنف الثالث من الخلق في الدنيا وبيان أحوالهم: حال المقتصد ، كما قال عز وجل: ﵟثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞﵞ ﵝفَاطِر : ﵒﵓﵜ، في الصحيحين: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَواتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: «لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ»، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «وَصِيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ» قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: «لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ»، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ»، فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لاَ أُزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفْلَحَ إنْ صَدَقَ»([1]) ، وفي رواية: «دخل الجنة إن صدق»، هذا المقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه، لم يشد مع ذلك أعمال التجارة الرابحة، لم يتزود ما يضره هو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة، أنواع المكاسب الكثيرة أدّى وظيفة تلك المرحلة في الدنيا لم يزد عليها ولا نقص منها، لا حصل على أرباح التجارة ولا بخس الحق الذي عليه، هذا هو المقتصد، والمقتصد من أصحاب اليمين الذين يستمتعون في الجنة بما لذ وطاب من النعيم المقيم، كما قال سبحانه وتعالى: ﵟوَأَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡيَمِينِ ٢٧ فِي سِدۡرٖ مَّخۡضُودٖ ٢٨ وَطَلۡحٖ مَّنضُودٖ ٢٩ وَظِلّٖ مَّمۡدُودٖ ٣٠ وَمَآءٖ مَّسۡكُوبٖ ٣١ وَفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ ٣٢ لَّا مَقۡطُوعَةٖ وَلَا مَمۡنُوعَةٖ ٣٣ وَفُرُشٖ مَّرۡفُوعَةٍ ٣٤ إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ ٣٥ فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا ٣٦ عُرُبًا أَتۡرَابٗا ٣٧ لِّأَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٣٨ ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ ٣٩ وَثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ ٤٠ﵞ ﵝالوَاقِعَة : ﵗﵒ - ﵐﵔﵜ، هذا حال المقتصد.

 أما الصنف الرابع: فهم السابقون بالخيرات، فما هو حالهم في هذه الدنيا؟ الله عز وجل قال عنهم: ﵟوَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ ١٠ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ١١ فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ ١٢ ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٣ وَقَلِيلٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ ١٤ﵞ ﵝالوَاقِعَة : ﵐﵑ - ﵔﵑﵜ، والله عز وجل قال عنهم: ﵟ وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمۡ لَا يُشۡرِكُونَ ٥٩ وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ ٦٠ أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ ٦١ﵞ ﵝالمُؤۡمِنُون : ﵙﵕ - ﵑﵖﵜ ، السابقون في الدنيا إلى الإيمان والأعمال والخيرات هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات، هم المقرّبون عند الله في جنات النعيم في أعلى عليّين، هم الذين يعطون من أنفسهم مما أمروا به من كل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة وصيام وحج وطاعات وأعمال صالحة، ومع هذا قلوبهم وجلة وخائفة عند عرض أعمالها على ربها والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى خشية أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله لكمال علمهم بربهم، وما يستحقه من أنواع العبادات، هؤلاء همهم ما يقربهم إلى الله إرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذاب الله، كل خير سمعوا به أو سنحت الفرصة إليه انتهزوه وبادروه، يسارعون إلى كل خير يسابقون في كل عمل صالح ينافسون في كل ما يقربهم إلى الله ﵟأُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ ٦١ﵞ الخيرات تشمل جميع الطاعات والفرائض والنوافل من صلاة وصيام وزكاة وصدقات وحج وعمرة وجهاد ونفع خاص وعام، السابقون هم أعلى الخلق درجات وأعلاهم مقامات، السابق بالخيرات همه في تحصيل الأرباح شد أحمال التجارات لعلمه بمقدار الربح الحاصل، يرى خسرانا أن يدخر شيئا مما بيده ولا يتجر به، يجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم، يرى خسرانا بينا أن يمر عليه وقت في غير متجر في غير تجارة رابحة في غير زاد من التقوى، يرى خسرانا إذا مر عليه ذلك اليوم مرت عليه تلك الساعة وهو لم يربح في تجارته مع الله عز وجل.

 هؤلاء ثلاثة الأصناف الثاني والثالث والرابع من الناس بعد أن علمنا أحو الهم مع حال الصنف الأول الأشقياء، علمنا أن هؤلاء الأصناف الثلاثة الأخيرة هم أهل اليمين، وهم المقتصدون والأبرار والمقربون، أما الظالم لنفسه فليس من أصحاب اليمين عند الإطلاق وإن كان مآله إلى أصحاب اليمين، السابقون المقربون السابقون بالخيرات هم أفضل الخلق وأزكاهم، ونحن نستغفر الله عز وجل من وصف حالهم، ولكن محبة القوم تحمل على ما تعرف منزلتهم والعلم بها، عسى أن يوفقنا الله عز وجل أن نشمر النفس للاقتداء بهم، والاتصاف بصفاتهم السابقون المقربون جملة أمرهم أنهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله، غمرت قلوبهم محبة الله وخشيته ومراقبته وإجلاله، صارت رغبتهم إليه وتوكلهم عليه ورغبتهم منه رهبتهم منه وإنابتهم إليه وسكونهم إليه، وانكسارهم بين يديه، لم  يتعلقوا بشيء من ذلك بغيره سبحانه عز وجل، علمنا أحوال هؤلاء الأصناف الأربعة في هذه الدنيا، وعلمنا أيضا مصيرهم في الآخرة، لعلنا أن نجتهد أن نكون من الصنف الرابع.

 نختم الكتابة بحديث قدسي رواه الإمام مسلم في صحيحه: «  يقول الله عز وجل: يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالّ إلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاستَهدُوني أهْدِكُمْ، يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلاَّ مَنْ أطْعَمْتُهُ فَاستَطعِمُوني أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيلِ وَالنَّهارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُوني، يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذلِكَ في مُلكي شيئًا، يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذلِكَ من مُلكي شيئًا، يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُوني فَأعْطَيتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْألَتَهُ مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلاَّ كما يَنْقصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادي، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيرًا فَلْيَحْمَدِ الله، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ»([2]) .

نسأل الله عز وجل وإياكم الثبات على الإسلام وعلى السنة، نسأله عز وجل وإياكم العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، نسأله عز وجل حسن الخاتمة، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه اللهم ارزقهم البطانة الصالحة.

وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 

([1]) رواه البخاري (46)، ومسلم (11).

([2]) رواه مسلم (2577).