عجبا لأمر المؤمن


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله الملك القهار ذي العرش المجيد، القوي المتعال ذي البطش الشديد، له مقاليد السماوات والأرض يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه ولا معقب لأمره، وهو يبدي ويعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أكرم الخلائق وأكمل العبيد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم الجزاء والمزيد، أما بعد؛

فإن الدنيا مسيرة بالقدر مطبوعة على الكدر، مليئة بالبلايا والعبر، المصائب فيها كالحر والبرد لا مفر لأحد منهما: ﵟوَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٥٥ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵕﵕﵑﵜ ، مع كل فرحة ترحة، وما ملئ بيت حبرة إلا ملئ عبرة، عمارتها إلى خراب وعمّارها إلى تراب، فالصحيح ينتظر السقم والموجود ينتظر العدم، البلاء فيها سنة ربانية ماضية وإن الله تعالى يبتلي عباده بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون، وبالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، وما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، قال تعالى: ﵟوَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠ﵞ ﵝالشُّورَى : ﵐﵓﵜ، وإن من مسلمات الإيمان أن العبد لا يخرج عن تقدير الله تعالى له، فما قدره الله عليه كائن لا محالة، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن الحذر لا يدفع القدر، وأنه لا يسلم أحد في دينه حتى يُسَلِّمَ لربه، ولا يهنأ أحد بعيشه حتى يؤمن بقضاء الله وقدره: ﵟقُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَاﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵑﵕﵜ، فالكل تحت مشيئة الله وقدره، والمؤمن قلبه متعلق بمولاه وأمره مفوض إليه: ﵟهُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٥١ﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵑﵕﵜ،  ﵟمَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥﵞ ﵝالتَّغَابُن : ﵑﵑﵜ ، قال علقمة رحمه الله: «هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضَى» ([1]) ، فيملأ الله قلبه تسليما وإيمانا وهداية ورضا، فالله تعالى لا يتهم على قضائه، ولا يعترض على حكمه، فالأمر أمره، والملك ملكه والخلق عبيده، ﵟلَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡـَٔلُونَ ٢٣ﵞ ﵝالأَنبِيَاء : ﵓﵒﵜ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تتهم الله في شيء قضى لك به»([2]) .

وقد هزنا وآلمنا ما ألمّ بإخواننا وأهلنا في بلاد الشام والترك من الزلزال المروع العظيم، ولا يزال الصراخ والأنين  يرتفع من تحت آكام البيوت المدمرة على أهلها، ونواح الثكالى يتردد في الآذان ويحبس الدموع في المآقي، فاجعة ذكرت الناس بزلزلة القيامة الكبرى، أحداث مروعة ومشاهد مفزعة آية من آيات الله: ﵟوَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚﵞ ﵝالفَتۡح : ﵗﵜ ﵟوَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ ٣١ﵞ ﵝالمُدَّثِّر : ﵑﵓﵜ ، ﵟوَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا ٥٩ﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵙﵕﵜ ، قال قتادة: «وإن الله يخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكَّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس إن ربّكم يستعتبكم فأعتبوه».

فالآيات عتب من الله لعباده لينيبوا إليه وتخويف من الخالق لخلقه ليتضرعوا لديه، وتحذير من الجبار لأهل العصيان لينتهوا عن عصيانه، ويخافوا بطشه وعظيم انتقامه، وأمة الإسلام قد مر عليها من البلايا العظام ما لو مر على أمة غيرها لدمرها واستأصلها، وأمة الإسلام بفضل الله باقية شامخة.

 وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام أن أمته أمة مرحومة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل، فقال: « أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ ، وَالزَّلَازِلُ ، وَالْقَتْلُ» ([3]) ، وأن من يموت بالهدم فهو شهيد، وأن قضاء الله تعالى للمؤمن خير كله، وأخبر: «مَا يَزَالُ البَلاَءُ بِالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفسِهِ ووَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ تَعَالَى وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ»([4]) ، وأخبر: « إن الرجل لتكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياه»([5]، وأخبر: « وَإنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ »([6]) ، وقال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»([7]) ، وقال: «إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» ([8].

وقد أخذ الصدر الأول الصحب الكرام أخذوا بالطاعون العظيم، وهم أهل الطاعة والنقاوة فما برح إلا بعد أن حصد خمسة وعشرين ألفا والطاعون شهادة، والله يصطفي، والبلايا في طياتها عطايا والمحن في ثناياها منح، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

ومع الأمل بحسن المنقلب إلى الله وعقبى الخير لأهل البلاء، وعظم الرجاء بعظيم العطاء، لا ننس أن المصائب حصائد الأعمال، وأن البلايا رهن الخطايا، وأن العباد يعيشون تحت رحمة حسناتهم أو نقمة سيئاتهم.

وربّ قوم قد غدوا في نعمة ... زمنا والدهر ريان غدق

سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق

قال تعالى: ﵟأَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَخۡسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ ٤٥ﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵕﵔﵜ، وقال تعالى:  ﵟأَفَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا بَيَٰتٗا وَهُمۡ نَآئِمُونَ ٩٧ أَوَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا ضُحٗى وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ٩٨ أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا يَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٩٩ ﵞ ﵝالأَعۡرَاف : ﵗﵙ - ﵙﵙﵜ وعن النعمان ابن بشير رضي الله عنه أنه قال وهو يخطب الناس في حمص: «إن الهلكة كل الهلكة أن تعمل بالسيئات في زمن البلاء» ([9])، وقد عاب الله على من لم يتضرع عند نزول العذاب، ولم يرجع إليه عند البلايا الصعاب، فقال تعالى: ﵟوَلَقَدۡ أَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡعَذَابِ فَمَا ٱسۡتَكَانُواْ لِرَبِّهِمۡ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ٧٦ﵞ ﵝالمُؤۡمِنُون : ﵖﵗﵜ.

 فخذوا العبر من فواجع الأيام، واتعظوا بحوادث الأزمان، واعلموا أنه ليس بين الله وبين خلقه نسب، وأن هوان الخلق عليه بإضاعة أمره، وأن من لم يتعظ بغيره كان عبرة وعظة لغيره، وقد خلت من قبلكم المثلات وأخذت أمم بالمعاصي والسيئات: ﵟفَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥٢ﵞ ﵝالنَّمۡل : ﵒﵕﵜ .

ألا وإن مصائب إخواننا اختبار من الله لنا، فللأخ في محنته حق على أخيه يعينه ويسليه، ويدعو له ويقويه، ويقف بجانبه ويحميه، فالمؤمنون جسد واحد، والمواساة بالمال لتخفيف الكربة أقل الواجب، وقد سارع ولاتنا الأخيار في النجدة بالمال والرجال، وبادروا بجسور الإغاثة والوصال، وقد فتحوا لكم باب الإعانة عبر الجهات المختصة، والمنافذ الرسمية الموثقة لضمان وصول المساعدات إلى أهلها، ووضعها في يد مستحقها، وقد جاء الأمر السامي من ولي أمرنا بإقامة صلاة الغائب على من مات من إخواننا قياما بالحق، وشعورا برابطة الجسد الواحد.

 أسأل الله تعالى أن يجبر مصابهم، ويعافي مرضاهم ويرفع في الشهداء موتاهم، وأن يعقبهم عقبى حسنة، ويهبهم من لدنه رحمة، ويجعل ما أصابهم كفارة ورفعة، إنا لله وإنا إليه راجعون.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 


 

([1]) تفسير ابن كثير (8/161).

([2]) رواه أحمد (22717).

([3]) رواه أبو داود (4278)، والحاكم (8372).

([4]) رواه الترمذي (2399).

([5]) رواه ابن حبان (2908)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2599).

([6]) رواه الترمذي (2396).

([7]) رواه البخاري (5645).

([8]) رواه الترمذي (2398).

([9]) البداية والنهاية (11/ 680).