هدايات من سورة الأعلى


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 
القسم: 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛

إنّ القرآن الكريم وما يحوي من آيات وسُور كُلّها فاضلة، فالقرآنُ كلام الله تعالى غير مخلوق، منهُ بدأ وإليه يعود، تكَلّمَ به ربّنا عز وجل ، وسمعه منه جبريل عليه السلام، وبلّغه جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبلّغه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمته.

وإنّ مِن توفيق الله عز وجل لعبده المسلم؛ أَنْ يُلهمه العكوف على كتابه قراءةً وترتيلًا، بِتَفَكُّرٍ في آيَاتِهِ، وتَدَبُّرٍ في مَعَانِيِهِ، قال أهل العلم: إنّ "مَن ْتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ، وَتَدَبَّرَ مَا قَبْلَ الآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، وَعَرَفَ مَقْصُودَ الْقُرْآنِ؛ تَبَيَّنَ لَهُ الـمُرَادُ، وَعَرَفَ الْهُدَى وَالرِّسَالَةَ، وَعَرَفَ السَّدَادَ مِنْ الانْحِرَافِ وَالاعْوِجَاجِ"([1]).

وعندما يجلس لتلاوة القرآن لا يكون همُّه متى سينتهي من إكمال السُّورةِ أو متى سيُكمل ورده؟!! فإن ذلك مدعاة للعجلة في قراءته فيفوته العمل بأحكام التجويد، وتضيع منه مخارج الحروف، وتتفلت منه معاني الآيات، ولهذا قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: "«لا تهذّوا القرآن كهذّ الشعر يعني لا تقرؤونه كما يقرأ أحدكم الشعر بلا تدبر ولا تأني ولا ترنم ولا تغني- وَلَا تَنْثِرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ-هو الرديء من التمر- وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ»([2]).

وبين أيدينا أيها الأفاضل سورةً من سُوَرِ القرآن الكريم، كان النبي ﷺ كثيرًا ما يحرص على قراءتها في مواضع كثيرة، ألا وهي سورة: ﵟ سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ١ﵞ ﵝالأَعۡلَى : ﵑﵜ.

ولنا مع هذه السورة وقفات نستلهم منها فوائد وهدايات نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن ينفعنا بها في الدنيا والآخرة.

الوقفة الأولى: المواضع التي كان النبي ﷺ يحرص على قراءة هذه السورة فيها:

الموضع الأول: في الركعة الأولى من صلاة العيد.

 الموضع الثاني: في الركعة الأولى من صلاة الجمعة، دليل ذلك ما ثبت من حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ بِـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، وَ ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾»([3]).

 الموضع الثالث: في صلاة الوتر، فقد كان النبي إذا صلى من الليل ختم صلاة الوتر بثلاث ركعات، فكان يقرأ في الركعة الأولى منها بسورة سبح اسم ربك الأعلى، دليل ذلك ما ثبت من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله يقرأ في بِـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِـ ﴿قُل يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ﴾، وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ ﴿قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، ...» ([4]) .

 الموضع الرابع: في صلاة الاستسقاء، دليل ذلك ما ثبت من قول ابن عباس رضي الله عنهما في وصف صلاة الاستسقاء قال: «ثم صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ» ([5]).

 الوقفة الثانية:

افتتحَ اللهُ السورةَ بخطابٍ للرسول ﷺ فقال تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)﴾، والخطاب إذا كان موجهًا للنبي ﷺ فإنه يعم ويشمل جميع أمته.

ومعنى سبِّح: أي نزِّه اللهَ عن كلِّ ما لا يليقُ بجلاله، ولهذا كانَ من أسماءِ اللهِ تعالى (السلامُ، القدوسُ) لأنه منزَّهٌ عن كلِّ عيبٍ.

ولما نزَلَ قولُه تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)﴾، قال النبيُّ ﷺ: «اجعلوها في سجودكم»([6])، يعني نحن في السجود نقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، وهذا معناه تنزيه لله عز وجل عن كل نقص أو عيب.

ثم قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)﴾ فإن اللهَ تعالى لـمّا خلقَ المخلوقاتِ أبدعَ في خلقه، وصوّرها في أحسنِ الهيئاتِ. ولهذا قال سبحانه في وصف ذلك: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة:7].

قوله: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)﴾ أي: قَدَّرَ أرزاقَ جميع الخلائقِ وأقواتَهم، وهداهم لمعايِشِهم، وألهمَهم كيف يؤدون وظائفهم، كما قال موسى - عليه السلام - لفرعون: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)﴾ [طه: 5].

ثم قال سبحانه وتعالى: ﵟوَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ ٤ فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ ٥ﵞ فأنبتَ سبحانه للأنعامِ ما ترعاه من صُنوفِ الأرزاقِ من الأعشاب والحشائش الخضراء الرطبة، وجعلها بعد خضرتها أعشابًا يابسة، وفي ذلك دلالة على حكمة الله وقدرتِهِ، أنْ خلق للدواب ما تأكله في الشتاء والخريف من الأخضر واليابس، فينبغي على الإنسانِ أنْ يقابلَ هذه النعم بشكرِها، وأن يسعى للحفاظِ عليها من التلف والفساد.

ثم بشَّرَ الله تعالى نبيه ﷺ ببشارتين:

البشارة الأولى في قوله سبحانه: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)﴾ أي أنه سيعلِّمه هذا القرآن، ويحفظُه عليه.

فإنَّ رسولَ الله ﷺ كان يُبادِرُ إلى أخذِ القرآن الكريم، ويسابقُ الـمَلَك في قراءته ويحرِّك لسانه وشفتيه بالقرآن إذا نزل عليه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي حرصًا على حفظه، وخَشيةً مِن نِسيانِه- فأمرَه اللهُ عز وجل إذا جاءَه الملَكُ بالوحيِ أنْ يستمعَ له، وتكفَّلَ لهُ سبحانَهُ أنْ يجمَعَهُ في صدرِه، ولهذا أنزل الله تبارك وتعالى الآيات من سورة القيامة: ﵟلَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩ﵞ [القيامة: 16-18]، بمعنى: إن علينا جمعه في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء، وعلينا إثبات قراءته في لسانك على الوجه القويم. فإذا أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل، فاستمع له وأنصت، ثم اقرأه كما أقرأك، وكرره حتى يرسخ في ذهنك. ثم إننا بعد حفظه وتلاوته نفسر لك ما فيه من الحلال والحرام، ونبين ونوضح لك ما أشكل منه، ونلهمك معناه كما أردنا وشرعنا.

ثم قال تعالى ﵟإِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا يَخۡفَىٰ ٧ﵞ ، يعني: إلا ما شاء الله أن تنساه مما نسخه الله تعالى مما اقتضت حكمته لمصلحة بالغة، ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي: فلذلك يشرع ما أراد، ويحكم بما يريد، وهو سبحانه محيطٌ بكلِّ شيءٍ عِلمًا، يعلم ظواهرَ الأمورِ وبواطَنَها، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

والبشارة الثانية في قوله : ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)﴾ أي: نُسَهِّلُ عَلَيْكَ أَفْعَالَ الْخَيْرِ وَأَقْوَالَهُ، وَنُشَرِّعُ لَكَ شَرْعًا سَهْلًا سَمْحًا مُستقيمًا عدلًا لَا اعوِجاج فيه ولا حَرَجَ وَلَا عُسْرٌ، كما قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ﴾ [الحج: 78]، ويشهد لذلك قول ﷺ: « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا »([7]) .

ثم ذكَّر الله عبادَه بعظيمِ قدرتهِ وواسعِ عِلمهِ؛ لِيَنْتَفِعُوا بمواعظِ الذكرِ الحكيمِ، فقال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)﴾.

ثم بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ الناسَ يَنْقَسِمون بعدَ التذكيرِ إلى قِسمين:

القِسم الأول: في قوله ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)﴾، أي يخافُهُ خوفاً عن علمٍ بعظمةِ الله تعالى، فهذا إذا ذُكِّرَ بآياتِ ربِّه تَذَكَّرَ، كما قالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)﴾ [الفرقان:73].

أما القِسمُ الثاني: في قوله: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)﴾ أي: يتَجَنَّبُ هذه الذكرى ولا ينتفعُ بها الشَّقيُّ، وجزاؤهُ ما وصفه ربُّه أنَّهُ: ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)﴾ كما قال تعالى: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ [فاطر:36].

ثم بيَّن سبحانَه طريقَ الفلاحِ فقالَ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)﴾ أي: قد فازَ منْ طَهَّرَ نفسَه عن كل ما يرديها شَرْعًا وعُرْفًا، ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(14)﴾  فهذا الزاكي الـمُفلِحُ دائِمُ الذِّكْرِ لربِّهِ والصَّلاةِ لخالِقهِ.

ثم حذَّرَ اللهُ مما يُشْغِل عن ذلك فقال: ﴿ بَل تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)﴾ أي: تُقَدِّمُونَ الدُّنيا ومكاسبَها الفانيةَ على الآخرةِ، التي وصفَها بوصفينِ هما: الخيريَّةُ والدَّوامُ.

ثم قال تعالى ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)﴾ أي: ما ذُكِرَ من إيثارِ الدُّنيا على الآخرةِ، وكذلك ما تَضَمَّنَتْهُ الآياتُ مِنَ المواعظِ ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)﴾ أيِ السابَقةِ لهذهِ الأمَّةِ ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)﴾ عليهما السلام، وفي صُحُفِهِما مِنَ المواعظِ ما تَلِينُ بِهِ القلوبُ وتصلُحُ به الأحوالُ. فأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أعنا على الصيام والقيام وتلاوة القرآن وصالح الأعمال، اللهم نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 

([1]) مجموع الفتاوى )15/94(.

([2]) مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (8825).

([3]) رواه مسلم (878).

([4]) رواه النسائي (1701)، وأبو داود (1423).

([5]) رواه أبو داود (1165)، والنسائي (1508)، والترمذي (558)، وابن ماجه (1266).

([6]) رواه أحمد (17414).

([7]) رواه البخاري (39).