استقبال العام الدراسي الجديد


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، أما بعد؛

في هذه الأيام بدأ العام الدراسي الجديد، فاستنفرت الجهود من كل الطبقات والجهات، استنفار في البيوت والمدارس وفي العقول والأسواق، وازدحام في الشوارع والمكتبات كل بحسبه، فالجميع مسؤول؛ إذ تربية الأجيال وتثقيفهم وتعليمهم أمانة في كاهل الأمة، تبدأ المسؤولية من الآباء والأمهات، وتتثنى بالمدرسين والمدرسات، ثم تترقى بالمسئولين عن المدارس والجامعات، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فأمة الإسلام أمة علم وتربية، ﵟ لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵔﵖﵑﵜ،  ولذلك قال سفيان الثوري عليه رحمة الله: « يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُكْرِهَ وَلَدَهُ عَلَى تعلم العلم فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْهُ» ([1])، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: «فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارا» ([2]،  وقال رحمه الله: « فما أفسد الأبناء مثل تفريط الآباء وإهمالهم، فأكثر الآباء يعتمدون مع أولادهم أعظم ما يعتمد العدو الشديد العداوة مع عدوه وهم لا يشعرون، وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح حرمهم الانتفاع بأولادهم» ([3]) ، أيها الآباء المسئولية عليكم كبيرة، يقول عليه والسلام: « إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته» ([4])، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ رَاعٍ يُسْتَرْعَى رَعِيَّةً إِلَّا سُئِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَقَامَ فِيهَا أَمْرَ اللَّهِ، أَمْ أَضَاعَهُ؟» ([5])،  فلا يظننّ ظان أنه بإدخال الولد المدرسة وشراء الحاجيات قد انتهت مسئوليته، هذا من القصور لأن مسئولية الوالد لا تنتهي عند هذا، بل عليه متابعة أبنائه في دراستهم وغيرها، يختار جلسائهم ويعرف ذهابهم وإيابهم، ويصحبهم إلى المساجد والمجامع النافعة، ويعلمهم مكارم  الأخلاق، ويحثهم عليها ويصوب الأخطاء، ويشكر على الصواب، هذا في خارج المدرسة، وأما في المدرسة فعلاقة الوالد بمدرسة ولده علاقة رحم، لا ينبغي أن تقطع، فالمسؤولية جد عظيمة لا سيما في زمان كثرت فيه الفتن والصوارف، وقلّ المعين الناصح، والموفق من وفقه الله تعالى، فالعلم العلم والتربية التربية.

ومن رعى غنما في أرض مسبعة            ونام عنها تولى رعيها الأسد

 بعث المنصور الخليفة العباسي إلى من عنده في السجن من خلفاء بني أمية، يسألهم عن أشد ما مر بهم في حبسهم فقالوا بأجمعهم: ما فقدنا من تربية أولادنا، ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: «كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد؛ شغلوه بحفظ القرآن وسماع الحديث، فيثبت الإيمان في قلبه» ([6])، ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗاﵞ ﵝالتَّحۡرِيم : ﵖﵜ، قال العلامة ابن كثير: «أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملا، فتأكلهم النار يوم القيامة» ([7])، ثم أنتم أيها الشباب اعلموا أن الأمة بكم، وأنكم بالعلم والتربية، فحافظوا على أنفسكم وعلى شبابكم وعلى أمتكم تحفظ لكم دنياكم وأخراكم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وهو غلام خلفه: « يَا غُلامُ، إنِّي أعلّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ» ([8])، وقال الله عليه وسلم: «مَنْ سَلِمَ لَهُ شَبَابُهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ» ([9])، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: « شَابٌّ نَشَأ في عِبَادَةِ الله - عز وجل» ([10])،  بل تأمل مدح الله للشاب وتعجبه ممن استقام منهم مع كثرة المغريات، يقول الله عز وجل: ﵟإِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى ١٣ﵞ ﵝالكَهۡف : ﵓﵑﵜ ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليعجب من الشاب ليست له صبوة» ([11]) ، فالشباب هم العمدة، ولذلك سيسألون عن شبابهم، قال صلى الله عليه وسلم: « لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس، عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» ([12]) ، فالكل مسئول، فأعدوا للمسألة جوابا وللجواب صوابا.

 إن أمة الإسلام أمة علم وحضارة، فبالعلم تبنى الحضارات بل تبنى الأمم، وما سادت أمة الإسلام في غابر دهرها إلا بالعلم والعمل، وكلما بعد الزمان من عهد النبوة ودنا الناس من الساعة قلّ العلم وكثر الجهل، فازدادت الفتن وانتشر الضلال، وفسدت الدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج» ([13]) - يعني القتل- ، وفي الصحيحين وغيرهما قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل»([14]) ، وعند البخاري قال عليه الصلاة والسلام: « إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ» ([15])، بل سيصل الجهل إلى مدى ينسى الناس معه أسماء أركان الإسلام حتى قال عليه والسلام: «يدرسُ الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية»([16])، هذا هو علم الدين الذي به ثبات الدنيا، يقول الزهري عليه رحمة الله: «كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ، وَالْعِلْمُ يُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَنَعْشُ الْعِلْمِ-أي ظهوره وانتعاشه-  ثَبَاتُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَفِي ذَهَابِ الْعِلْمِ ذَهَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ» ([17])، ولذلك لما كان علم الدين قويا انبسطت دولة المسلمين، وعظمت هيبتهم، وانقاد الناس لحضارتهم، فإذا صلح الدين صلحت الدنيا، وأما من أراد تعمير دنياه على حساب دينه، فسيرقع دينه ويضيع دنياه قبل دينه، وستتداعى عليه الأمم من كل جانب، ويصبح الجميع غثاء كغثاء السيل، تتجاذبه أهواء الكبار، وأصل هذا الباب قول الله عز وجل: ﵟإِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧ﵞ ﵝمُحَمَّد : ﵗﵜ ، ونصر الله بامتثال أوامره، وذلك بالعلم النافع، حفظ الله يحفظك، يقول الثوري رحمه الله: «من أراد الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم» ([18])، فلا بد من غرس علم الدين في القلب مع علم الدنيا، وإلا فالعقد منفرط، والتربية مهلهلة ثقافة، والثقافة رقراقة، فالمسؤولية عظيمة، ﵟإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡﵞ ﵝالرَّعۡد : ﵑﵑﵜ.

نسأل الله تعالى أن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ويصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، ويصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، ويجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، ويجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.


 

([1]) حلية الأولياء (6/365).

([2]) تحفة المودود (ص229).

([3]) تحفة المودود (ص242).

([4]) رواه ابن حبان (4493).

([5]) رواه الطبراني في الأوسط (4916).

([6]) صيد الخاطر (ص491).

([7]) تفسير القران العظيم (5/213).

([8]) رواه الترمذي (2516).

([9]) رواه البيهقي في شعب الإيمان (5043)، وهو في السلسلة الصَّحِيحَة (2696).

([10]) رواه البخاري (1423)، ومسلم (1031).

([11]) رواه أحمد (17371).

([12]) رواه الترمذي (2416).

([13]) رواه مسلم (157).

([14]) رواه البخاري (5231)، ومسلم (2671).

([15]) رواه البخاري (7062).

([16]) رواه ابن ماجه (4049)، والحاكم (8460).

([17]) سنن الدارمي (97).

([18]) مفتاح دار السعادة (1/165).