ربح البيع ربح البيع


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين؛

 نسائم الإيمان وقيم الأخلاق مهمة للإنسان ضرورية في حياته،فنسائم الإيمان التي تهب على القلب تزيد من همته وثباته، وجميل الأخلاق والقيم التي يستفيدها الإنسان في حياته تجمِّل مظهره عند الناس وتثقل موازينه عند رب الناس.

 هذه مواضيع حلقاتنا في هذه النسائم الإيمانية مع قصة من القصص الجميلة التي يستفيد منها الإنسان، ويزداد بها إيمانًا وثباتًا،ومع قصة جميلة يرويها أنس بن مالكI قال:أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«يَا رَسُولَ الله: إِنَّ لِفُلاَنٍ نَخْلَةً، وَأَنَا أُقيمُ حَائِطِي بِهَا، فَأَمَرَهُ أَن يُعْطِيني حَتَّى أُقِيم حَائطي بهَا-أتى الرجل يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يقيم حائط جدار، وفي طريق إقامته على هذا الحائط هذا هناك نخلة لرجل فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه ذلك الرجل هذه النخلة حتى يتم بناء جداره أو حائطه الذي هو حائط المزرعة.

 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَعْطِهَا إْيَّاه بِنخْلَةٍ فِي الجَنَّة»،أعطه هذه النخلة ولك بها نخلة في الجنة،فأبى ذلك الرجل أن يعطيه نخلته بنخلة في الجنة، وهذا حقه لا يجبر عليه، فسمع صحابي هذا الترغيب وهذا الأجر فوقع في قلبه،فأتى هذا الصحابي إلى ذاك الرجل فقال:«بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي-أتى الصحابي أبو الدحداح إلى ذلك الرجل الذي منع أن يعطي نخلته للذي يريد أن يقيم الحائط، قال: بعني نخلتك بحائطي بمزرعتي نخلة مقابل مزرعة!!

 ويُذكر أن مزرعة أبي الدحداح كانت كثيرة النخل حتى تصل إلى ستمائة نخلة،فأتى أبو الدحداح النبي صلى الله عليه وسلم فقال:« يَا رَسُولَ الله، إِنِّي قَدْ ابتَعْتُ النَّخْلَة بِحَائِطِيأي: اشتريت النخلة بمزرعتي كاملة-قَالَ:  فَاجْعَلْهَا لَهُ يعني لذلك الرجل الذي اشتكى مقابل الذي يريده أبو الدحداح نخلة في الجنة، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا، فَقَال رَسول الله صَلّى الله عليه وسلم: «كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَداحٍ لِأَبي الدَّحْدَاح فِي الجَنَّة»، وجلس يكرر هذه الكلمة صلى الله عليه وسلم([1]).

 لاحظ المقياس عند هذا الصحابي والأعظم من هذا أنه رضي الله تعالى عنه عندما ذهب إلى زوجته أم الدحداح وهي في الحائط في تلك المزرعة الجميلة التي هي من أجمل المزارع وأكثرها نخلًا، فقال لها:« يَا أمَّ الدَّحْدَاح اخْرُجِي مِن الحَائِط، فَإنِّي قَدْ بِعْتُه بِنَخْلَة فِي الجَنَّة-اخرجي من ذلك البستان من تلك المزرعة، فقد بعت هذه المزرعة بنخلة في الجنةفانظر إلى ردة فعل تلك المرأة-فقَالت: رَبِحَ البَيِعُ رَبِحَ البَيِعُ رَبِحَ البَيِعُ ».

هذه القصة نقف فيها بعض الوقفات الإيمانية، ونستنج منها بعض القيم الأخلاقية:

الوقفة الأولى: نخلة في الجنة مقابل مزرعة في الدنيا، ما الذي حرَّك قلب أبي الدحداح حتى يبذل أنفس ما عنده من بستان؟!  تلك النخلة في الجنة ولا أقول نخلة من باب التصغير أبدًا، فإنه كما قال صلى الله عليه وسلم:« مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»([2])، فما بالك بنخلة في الجنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَكَرَبُهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَسَعَفُهَا كِسْوَةٌ لأَهْلِ الْجَنَّةِ، مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلالِ أَوِ الدِّلاءِ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، لَيْسَ لَهُ عَجْمٌ» ([3])أي ليس فيها نوى.

 صحابي يعرف ما معنى نخلة في الجنة، يعرف ما معنى أن تكون له نخلة في الجنة،أي سيكون هو في الجنة كي يتنعم بهذه النخلة، فما بالك بالجنة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن آخر رجل يدخلها، له في الجنة مثل هذه الدنيا وعشرة أضعافها بما فيها من دوام وجمال ونعيم وأعظم من ذلك كله رؤية الله سبحانه وتعالى،ألا يستحق هذا أن يبذل من أجله هذا البستان، بلى سلعة الرحمن غالية كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، ألاَ إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ الله الجَنَّةُ»([4]).

الوقفة الثانية:أن من عرف ما عند الله هانت عليه الدنيا وما فيها، ولن يتنازع ويتقاتل من أجلها ولن يبخل بها، ولن يمنع حقًّا من أجلها، من عرف ما عند الله من عوض وأجر عظيم وثواب ونعيم لا بدَّأن تهون عليه ما في هذه الدنيا التي هي فانية زائلة، لا تدوم في مقابل جنة عرضها السماوات والأرض، دائمة لا يفنى فيها الشباب، ولا تبلى فيها الثياب، وهذا يجرُّنا إلىأمر مهم وهو تحقيق معرفة الإيمان باليوم الآخر، من حقق الإيمان باليوم الآخر يقينًا واستقر في قلبه صدقًا فإنه سيكون في هذه الدنيا على الله مقبلًا وله باذلًا، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌبالعكس-وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ»([5])، من عرف الدار الآخرة حقيقة لن يتخبط في هذه الدنيا بل ستجده سائرًا إلى الله سيرًا حثيثًا؛ لأن ما عند الله خير وأبقى.

الوقفة الثالثة: انظر إلى التربية الإيمانية الصالحة، فإنَّ أمَّ الدحداح رضي الله تعالى عنها عندما كانت في وسط ذلك البستان الجميل، وأتاها أبو الدحداح وقال لها: اخرجي قد بعت ذلك الحائط بنخلة في الجنة، فانظر إلى ردة الفعل السريعة التي لا تخرج إلا من قلب موقن بما عند الله قالت: ربح البيع، وفعلَا هذا هو الربح والتجارة الرابحة، فينبغي على المؤمن أن يربِّي أهله تربية إيمانية،أن يربي أهله على ما هو عليه من الإيمان والعمل الصالح لماذا لأن الإمام مالك يقول: حتى يكونوا عونًا لك على طاعة الله.

 لو ضربنا مثلًا في بعض النساء أو الزوجات التي ليست عندها تلك التربية الإيمانية، وهي متعلقة بهذه الدنيا تعلق كثيرًا، لو أتاها زوجها وقال لها مثل هذه العبارة التي قالها أبو الدحداح لأمِّ الدحداح لقامت الدنيا وما قعدت، كيف تضيع مزرعتك بنخلة في الجنة، يا أخي تصدق بنخلة وخلاص مثبطة وترد العزائم والأجور،فينبغي للمرأة أن تكون داعمة معنويًا لزوجها والزوج كذلك.

الوقفة الرابعة: قد ينتفع بالكلمة غير المخاطب، النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب ذلك الرجل الذي أبى أن يعطي تلك النَّخلة للذي اشتكى، من الذي انتفع بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولك نخلة في الجنة؟أبو الدحداح الذي لم يخاطب بالكلمة مباشرة، وهذا يشير إلى فائدة جميلة جدًا خصوصًا في هذا الوقت، هذا الوقت بعض أهل الخير وبعض طلبة العلم دخل فيهم نوع من التثبط واليأس والإحباط بسبب أنه عندما ينشر الخير يرى قلة المتابعين والمستمعين والناشرين والمعجبين، فعندما يرى هذه لقلة يصيبه ذلك اليأس والإحباط، وهذه النظرة نظرة غير سليمة لماذا؟ لابد أن نعود إلى الأصل الذي تعلمناه وهو:«لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم»([6])، نتذكر القصص التي أخبر الله فيها عن نوح:ﵟوَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ ٤٠ﵞ ﵝهُود: ﵐﵔﵜ، نتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:«عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَم، فَرَأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ الرَّهَيط، وَالنَّبيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلان، وَالنَّبيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»([7])لا تنظر إلى قلة وكثرة المتابعين، ولكن انظر إلى المنتفعين، ولا تقارن ما تنشره من الخير بما ينشره غيرك من النكت التي تبلغ الآفاق، ويتابعها الملايين أو بعض الأغاني أو بعض الأشياء التي ليست لها قيمة فتنتشر ويعجب بها الناس،وأنت تقول كلمة الخير ولا تنتشر،فلا تظنَّ أنه لا ينتفع بها أحد، لا يا أخي احرص على بذل الخير، قد ينتفع بكلمة الخير من لم تحسب له بالًا، وقد ينتفع بكلمة الخير شخص ينتفع من خلف أمَّة، تبذل الخير ولا تجعل الميزان كثرة المتابعين بل كيفية المنتفعين، ولو كان واحدًا.

الوقفة الخامسة:أريد أن أنبه إلى أمر جميل وهو عادة عندنا في كثير من القبائل وعند العرب بشكل عام وهي موجودة عندنا في الإمارات أن الناس يحرصون دائمًا على إعطاء النخل لغيرهم،كأن يستلم شخص مزرعة جديدة فيعطيه نخلة أو نخلتين، فسيلة أو فسيلتين، احتسب في ذلك الأجر فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: من يعطه تلك النخلة وله نخلة في الجنة، فهذا من الثواب الذي قد لا ينتبه له بعض المزارعين.

 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا بحفظه، وأن يبارك لنا في أموالنا وأولادنا وأهلينا، وأن يحفظ لنا بلادنا ومجتمعاتنا.

 وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.


 

([1]) رواه أحمد (12482).

([2]) رواه البخاري (3250).

([3]) رواه الحاكم (3776)، وهو في صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب (3735).

([4]) رواه الترمذي (2450).

([5]) رواه الترمذي(2465).

([6]) رواه البخاري (4210)، ومسلم (2406).

([7]) رواه البخاري (5752)، ومسلم (220).