منهج السلف في التعامل مع النصوص


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد :

مقدِّمـة:

إن مصادر العقيدة هي الكتاب والسنَّة وإجماع السلف الصالح، وهذا ما يميِّز أهل السنَّة والجماعة عن غيرهم من أهل الأهواء والبدع، إذ يدَّعي كلُّهم الانتساب إلى الكتاب والسنًة، ولكلٍّ منهم منهجه في التعامل مع هذين المصدرين، فإذا تعلمنا منهج السلف تبينت لنا مناهج المخالفين لهم.

       وسنذكر في هذا البحث منهج السلف أهل السنَّة والجماعة في التعامل مع نصوص الكتاب والسنَّة في مسائل العقيدة.

وذلك بذكر المعالم الرئيسية لهذا المنهج على شكل قواعد هي:

(1) الإيمانُ بجميعِ نصوصِ الكتابِ والسُنَّةِ: فما جاء فيهما وجب على كل مؤمنٍ الإيمان به، أي تصديقُهُ وإن لم يفهم معناه.

والإيمان بالنصوص على نوعين:

أ- فرضُ عين: على كل مؤمن سواءٌ فَهِمَ معانيها أم لا، وهذا حَظُّ العامَّةِ ومَن لا يفهم العربية الذين يجبُ عليهم أن يؤمنوا بجميع النصوص إجمالاً.

ب- فرضُ كفاية: وهو الإيمان المفصَّل بالنصوص، وهو خاصٌ بكل مَن قام عنده الدليل وظهر معناه، فإذا حصل ذلك عنده صار الإيمانُ في حقه فرضاً متعيَّناً.

والأدِلَّـةُ على هذه القاعـدة:

قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[النساء:65].

وفي المسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: أنه ذكر قصَّة الصحابـة الذين تمارَوا في آيةٍ من القرآن، فخـرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغضَبَاً قد احمرَّ وجهـه يرميهم بالتراب ويقـول: (إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ، فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ)([1]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذا الحديثُ ونحوُه ممَّا يُنهى فيه عن معارضة حقٍ بحق، والواجبُ التصديقُ بهذا الحق وهذا الحق)([2]).

ومِن فَهْمِ السلفِ: تصديقُ أبي بكر الصديق رضي الله عنه قصَّة الإسراء بعدما سمعها من قريش([3]).

وسأل رجلٌ الزُهْرِيَّ عن معنى حديث: (ليس منَّا مَنْ شقَ الجيوب)([4])، فقال الزهري: (مِن اللهِ العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم)([5])، فالواجب التسليمُ للنصوصِ وإن لم ندرك حقيقتها.

قال مالك رحمه الله في الاستواء على العرش: (الاستواءُ غير مجهول، والكيفُ غيرُ معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)([6]).

فالذي يطبِّق هذه القاعدة: يحققُ معنى الإيمان بالله؛ لأنَّه متابعٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلمُ من الوقوع في مسالك الأمم الضالة والمذاهب المبتدعة.

  

(2) اشتمالُ الكتاب والسنَّة على أصول الدين ومسائله:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن جميع الدين أصولَه وفروعَه، باطنه وظاهرَه، عِلمَهُ وعملَهُ، فإنَّ هذا الأصل هو أصلُ أصولِ العلمِ والإيمان)([7]).

فالكتابُ والسنَّةُ هما العُمدة في معرفة الدين: وهي طريقة الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، فلم يكن منهم أحدٌ يقبل من أحدٍ أن يُعارِض القرآنَ ولا السنَّة بمعقولِهِ أو خيالِهِ، بل يُنظر في أقوال الناس وآرائهم وتُعرضُ على الكتاب والسُنَّة فيُقبَلُ منها ما وافقهما، ويُرَدُّ ما خالفهما.

والأدِلَّـةُ على هـذه القاعـدة:

1- قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38].

2- وقال تعالى ] {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة:3].

  قال الشاطبي: (فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمُل فقد كذَّب بالآية)([8]).

3- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَايْمُ اللَّهِ، لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ)([9]).

4- ومِن فَهْمِ السلفِ: قول أبي ذر رضي الله عنه: (لَقَدْ تَرَكَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يُحَرِّكُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا أَذْكَرَنَا مِنْهُ عِلْمًا)([10]).

5- قيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: (قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ: أَجَلْ)([11]).

 

ومن فوائد هذه القاعدة:

النظرُ إلى الشريعة بعين الكمال، وعدم الخروج عنها بزيادة أو نقصان، والاستغناءُ بالكتاب والسنَّة عن الكتب الأخرى، واستعمالُ هذه القاعدة في الرد على المبتدعة مثلما فعل أحمد بن حنبل مع ابن أبي دؤاد وقال له: (خبِّرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيئٌ دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا، قال: فشيءٌ دعا إليه أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان وعلي، فيقول: لا، فقال أحمد: فشيءٌ لم يدعُ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان ولا علي، تدعو أنت الناس إليه ؟).

(3) لا نسخَ في الأخبارِ ولا في أصولِ الدين: فمسائلُ الاعتقادِ وكذلك الأخبارُ لا يدخلها نسخٌ أو تعديلٌ.

والشريعة نوعـان: خبـرٌ، وأمـرٌ.

فالخبرُ: لا يدخل فيه النسخ ولا التعديل؛ لأنَّ الله يُخبرُ بعلمه الأزلي، وهو مطابقٌ للأمر في نفسه فلا يتغيَّر.

والأمرُ: تدخلُ فيه العبادات والمعاملات ويدخل فيه النسخُ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كتاب الله نوعان: خبرٌ، وأمرٌ، أما الخبرُ فلا يجوز أن يتناقض، لكن قد يُفسِّرُ أحدُ الخبرين الآخر ويبين معناه، وأما الأمرُ فيدخله النسخُ، ولا يُنسخ ما أنزل الله إلا بما أنزله الله)([12]).

ومن فوائد هذه القاعدة:

القولُ بثباتِ أصول الدين وبراءتها من النسخ والتعديل، فيه تحقيقُ صفة العلم لله تعالى، وفيه الاقتداءُ بجميع الأنبياء والمرسلين، وفيه السلامةُ من موافقة أهل الابتداع كالرافضة.

 

 

(4) ردُّ التنازعِ إلى الكتابِ والسنَّةِ في أصولِ الدِّينِ وفروعِه: وهو من مقتضيات الإيمان.

قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59].

 وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65].

 وفي الحديث: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي)([13]).

 قال الشافعي رحمه لله: (كلُّ حديثٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوا مني)، وهذا المعنى مرويٌّ عن أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم.

قال الشوكاني: (اتفق المسلمون سلفُهم وخلفُهم أن الواجب عند الاختلاف هو الردُ إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ)([14]).

أمَّـا الفوائد من هذه القاعـدة:

1-  تحقيقُ الإيمانِ باللهِ تعالى، واليوم الآخر: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59].

2-  عدم رد التنازع إلى الكتاب والسُنَّة مِن صفات المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}[النساء:61].

3-   الردُّ إلى الكتاب والسنَّة فيه تحصيل الخيريَّة: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59].

4-   الردُّ إلى الكتاب والسنَّة فيه حسمُ مادة التقليد.

5-   الردُّ إلى الكتاب والسنَّة فيه تحقيق الجماعة والأُلفة، ونبذ الاختلاف والفرقة.

6-   الردُّ إلى الكتاب والسنّة فيه معرفة الحق والصواب من الأمور والمسائل المختلف فيها.

7-   الردُّ إلى الكتاب والسنَّة فيه تحقيقُ الاقتداء الصحيح بالأئمة، حيث كانوا يوصون بمتابعة الدليل.

8-   الردُّ إلى الكتاب والسنَّة فيه بيانُ الحق ووضوح المحجَّة.

ومن منهج السلف في التعامل مع النصوص في مسائل العقيدة

(5) درءُ التعارضِ بين نصوصِ الكتابِ والسُنَّة: قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء:82].

ممَّا ينبغي اعتقادُه: ضرورةُ الاتفاقِ بين نصوص الكتاب والسنَّة، ونفيُ التعارضِ والاختلاف بينها، وأنَّ ما يُظنُّ من تعارضٍ واختلافٍ بين بعض النصوص فذلك حسب الظاهر لا في نفس الأمر.

قال الشاطبيُّ: (أدِلَّةُ الشريعة لا تتعارضُ في نفس الأمرِ، ولذلك لا تجد البتَّة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما، بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن قد يقع التعارض في فهم الناظرين)([15]).

وذكر الشافعيُّ في كتابه الرسالة أن أسباب وقوع التعارض في فهم المجتهدين هي:

1-   ما يكون في بعض النصوص من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، واستثناءٍ ونحوِهِ.

2-   الجهلُ بسِعَةِ لسان العرب.

3-   الوضعُ في الأحاديث مِن قِبَلِ الوضَّاعِين.

4-   الجهلُ بالناسخ والمنسوخ من النصوص.

5-   الاختصارُ في الحديث، أو غيره من الأسباب.

ثم قال الإمام الشافعي: (ولم نجد عنه  صلى الله عليه وسلم شيئاً مختلفاً فكشفناه إلَّا وجدنا له وجهاً يحتمل به ألا يكونُ مختلفاً)([16]).

أما كيفيةُ دفع ما يُظنُّ أنه تعارضٌ عند المجتهد، فالجمهور على أن يَسلُكَ الطرق التالية بالترتيب:

1-   أن يطلبَ الجمعَ بين الدليلين: مثلُ أن يكون بينهما عمومٌ وخصوصًٌ مثلاً.

2-   فإن لم يتيسر الجمعُ: ينظر إلى تاريخ كلٍّ منهما لمعرفة المتأخر ليكون ناسخاً.

3-   فإن تعذَّر العلمُ بالتاريخ: عُمِدَ إلى الترجيح، ووجوهُهُ كثيرة.

4- فإن تعذَّر الترجيح: فمِن العلماء مَن قال بالتوقف، ومنهم مَن قال بالتخيير، والصحيحُ هو النظرُ في القياس، أو أقوال الصحابة، والله أعلم.

أما فوائدُ هذه القاعدة: (درء التعارض بين النصوص) فهي:

1-   السلامةُ من تكذيب النصوص إذا تعارضت في الظاهر.

2-   السلامةُ من الاشتباه والحيرة واختلاط فهم النصوص كما حدث للمبتدعة.

3-   الاقتداء بعمل الصحابة والتابعين؛ لأنهم لم يفرِّقُوا بين النصوص.

4-   ومِن القواعد أن النصوص يُفسِّرُ بعضُها بعضاً.

قال الشيخ العثيمين رحمه الله: (ومَن توهَّم التناقضَ في كتاب اللهِ أو في سُنَّة رسوله أو بينهما، فذلك إما لقلَّةِ عِلْمِهِ أو قُصورِ فهمِهِ، أو تقصيره في التدبُّرِ، فليبحث عن العلم، فإن لم يتبيَّن له فليكلُ الأمرَ إلى عالمه، وليقل آمنَّا به كلٌ مِن عند ربنا)([17]).

(6) درءُ التعارض بين النقل والعقل:

وممَّا ينبغي اعتقادهُ أن نصوص الكتاب والسنَّة لا يعارضُها شيءٌ من المعقولات الصريحة؛ لأن الله تعالى خَلَقَ العقلَ وجعلَ مِن وظائفِهِ أن يَفْهَمَ عنهُ ويعقِلَ دينَهُ وشرعَهُ، فمسائلُ الشريعةِ ليس فيها ما يردُّه العقلُ السليم، بل كلُّ ما أدركه العقلُ من مسائلها فهو يشهد له بالصحَّة، وما قصُرَ العقلُ عن إدراكه من مسائلها فهذا لعِظَمِ الشريعة، فالشريعة قد تأتي بما يُحيِّرُ العقولَ لا بما تحيلُهُ العقول([18]).

وقـال الشاطبيُّ رحمه الله: (إذا تعاضد النقلُ والعقلُ على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقلُ، فيكونُ متبوعاً، ويتأخرُ العقلُ فيكون تابعاً، فلا يسرح العقلُ في مجال النظر إلَّا بقدرِ ما يُسرِّحُهُ النقلُ)([19]).

ثم قال رحمه الله: (كون الشرع حاكماً بإطلاقٍ يقتضي للعاقل أمرين([20])):

-  أحدهما: أن لا يُجْعَل العقلُ حاكماً بإطلاق، فلا يصحُّ تقديم الناقص المفتقِر على الكامل المستغني.

-  ثانيهما: أنه إذا وُجِدَ في الشرع أخباراً تقتضي ظاهراً خرق العادةِ الجارية، فلا ينبغي أن يُقَدِّم الإنكار المطلق، بل له أن يصدِّق به كما جاء، ويكلُ ما أُشكِل عليه إلى عالِمِهِ، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران:7].

فالواجبُ على كل مؤمن: تحكيمُ الشرع في كل شيءٍ، فإذا ظهر له تعارضٌ فليتَّهِم عقلَهُ وفهمَهُ أولاً، ولا يُعارِضُ نصوص الوحي بالآراء والأهواء كما هو مذهب أهل البدع.

قال شارح الطحاوية: (وكلُّ مَن قال برأيه وذَوقِهِ وسياسته مع وجود النص، أو عارَضَ النصَّ بالمعقول فقد ضاهى إبليس عندما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:12]([21]).

يقولُ شيخُ الإسلامِ: (فعُمدَةُ مَن يُخالِـفُ الكتاب والسنَّة هو الاحتجاجُ بقـياسٍ فاسـد، أو نقلٍ كاذب، أو خطابٍ شيطاني، وأشنعُ مِن هؤلاء مَن يؤصِّلُ بعقلِهِ الفاسدِ أو ذوقِه الشيطاني أصولاً يتَّخذَها ديناً وشرعاً يعارِضُ بها نصوص الكتاب والسنَّة، فإنْ وافَقَتْ النصوصُ ما أصَّلَهُ هو بعقله أو ذوقه احتجَّ بها اعتضاداً لا اعتماداً، وإن خالفت ما أصَّلَهُ كانت له معها إحدى ثلاث طرق:

الأولى: ردُّ النصوص وتكذيبها إن كانت أحاديث، وبخاصةٍ أحاديث الآحاد.

الثانية: صرفُها عن ظواهرها التي وُضعت لها.

الثالثة: إبقاؤها على ظواهرها مع اعتقاد نفي مقتضى الظاهر، ويسمِّى ذلك تفويضاً([22]).

ونقل الشاطبيُّ آثاراً تؤكدُ أنَّه لا يعارَضُ النقلُ بالعقلِ ثم قال: (فالحاصلُ من مجموع ما تقدَّم أن الصحابة ومَن بعدهم لم يعارِضوا ما جاء في السنن بآرائهم، علموا معناها أو جهلوه)([23]).

أمَّا أهلُ البدع والتأويل وردِّ النصوص بعقولهم الفاسدة: فقد وصفهُم الإمام أحمد رحمه الله بقولـه: (مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّالَ الناسِ بما يُشبِّهُون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلِّين)([24]).

ومن أهم فوائد الالتزام بهذه القاعدة:

تحكيمُ الشريعة على آراء الرجال ومذاهبهم، وسدُّ بابِ التأويل والتفويض، والسلامةُ من الوقوع في البدع والضلالات.

(7) الإيمانُ بالمتشابه، والعملُ بالمحكَم مِن القرآن:

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7].

وقال عليه الصلاة والسلام: (إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ)([25]).

والمحكم من القرآن: أي البيِّنُ الواضحُ الذي لا يفتقرُ في بيان معناه إلى غيره.

قال الشيخ العثيمين رحمه الله: (ومعنى الإحكامُ: أن يكون معنى الآية واضحاً جليَّاً لا خَفاءَ فيه مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات:13]، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}[المائدة:3]([26]).  

ويمثلون للمحكم أيضاً في القرآن: ناسخه، وحلاله وحرامه، وفرائضه وحدوده، ووعده ووعيده.

والمتشابه: هو الذي يحتاج في فهم المراد منه إلى تفكُّر وتأمُّل؛ لأنه يحتملُ أكثرَ من معنى.

قال الشيخ العثيمين رحمه الله: (ومعنى هذا التشابه: أن يكون معنى الآية مشتبِهاً خفِيَّاً، بحيثُ يتوهمُ منه الواهمُ ما لا يليق بالله تعالى أو كتابه أو رسوله، ويفهم منه العالمُ الراسخ في العلم خلافَ ذلك، مثاله قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}[المائدة:64]، فيتوهم الواهمُ بأن لله يدين مماثلتين لأيدي المخلوقين)([27]).

ويمثلون للمتشابه أيضاً: بمنسوخ القرآن، وكيفيات أسماء الله وصفاته، وأوائل السور، وحقائق اليوم الآخر، وعِلم الساعة.

ثم يذكر العثيمين رحمه الله الحكمة من ذلك فيقول: (لو كان القرآنُ كلُّه محكماً لفاتت الحكمةُ من الاختبار به تصديقاً وعملاً، لظهور معناه وعدم المجال لتحريفه، والتمسُّكِ بالمتشابه ابتغاء الفتنةِ وابتغاءَ تأويله، ولو كانَ كلُّه متشابهاً لفاتَ كونه بياناً وهدى للناس، ولما أمكن العملُ به وبناءُ العقيدة السليمة عليه، ولكنَّ الله تعالى بحكمته جعل منه آيات محكمات يُرجع إليهن عند التشابه، وأُخرَ متشابهات امتحاناً للعبادِ ليتبيَّن صادق الإيمان ممَّن في قلبه زيغٌ، فإنَّ صادق الإيمان يعلمُ أن القرآن كلَّه من عند الله، وما كان من عند الله فهو حقٌّ ولا يمكنُ أن يكون فيه باطل أو تناقض)([28]).

فموقف المؤمن من المتشابه: أنه يجب الإيمانُ بالنص في الجملة حتى يتبيَّن معناه ويتَّضحُ مدلولُه، وذلك بالتدبُّر فيه ومتابعة النظر، أو بِرَدِّهِ إلى المحكمات من النصوص، أو بردِّهِ إلى أهل العلم)([29])، فمن لم يعتقد هذا الاعتقاد ردَّ النصوص من الكتاب والسنَّة كما فعل الجهميةُ والقدريةُ والجبريَّةُ وغيرهم.

أمَّا الأدِلَّة على هذه القاعدة فهي:

1-  قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران:7]

2-  حديث: (إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ، فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ)([30]).

3-   قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد قال كثيرٌ من السلف أنَّ المحكَم ما يُعمل به، والمتشابه لا يعمل به)([31]).

4-  قال ابنُ عباس: (يُؤمنُ بالمحكم ويُدينُ به، ويؤمن بالمتشابه ولا يدُينُ به، وهو من عند الله كلِّهُ)([32]).

 

5-  قال الحسن البصري رحمه الله: (يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويَكِلُونَ ما أُشكِل عليهم إلى عالِمِهِ)([33]).

وأهم فوائد الالتزام بالقاعدة:

 السلامة من الابتداع واتِّباع الهوى والتفرُّق، وموافقةُ طريق السلف من الصحابة والتابعين الذي يؤمنون بالنصوص، ويردُّون المتشابه إلى المحكم من الآيات.

(8) حجيَّةُ فهمِ السلفِ الصالحِ لنصُوصِ الكتابِ والسُنَّةِ:

السلفُ الصالحُ من الصحابة والتابعين وتابعيهم أعمقُ صلةٍ بكلام الله ورسوله، وأصحُّ لساناً، وأطهرُ الناس سيرةً، زكَّاهم الله تعالى ورضي عنهم، فهم خيرُ الأمَّة، وأفقه الأمَّة بالقرآن والسنَّة.

والأدِلَّةُ منها:

1- قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[التوبة:100].

2- وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التوبة:88].

3-  وفي الصحيحين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)([34]).

4- وذكر شيخُ الإسلام اتفاق أهل السُنَّة والجماعة على أنَّ خير قرون هذه الأمَّة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها القرنُ الأول)([35]).

 

5- قال الإمام أحمد: (أصولُ السنَّة عندنا: التمسُّك بما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداءُ بهم وتركُ البدع)([36]).

أمّا فوائدُ الالتزامِ بهذه القاعدةِ:

1-  السلامةُ من التفرُّق والاختلاف، وتضارب العقول والأهواء، والوقوع في البدع والضلالات.

2-  النظرُ في عمل السلف وفهمهم للدليل شاهدٌ على صحَّة الاستدلال به ومصدّقٌ له، وبالنظر في هدي السلف يزول ما يظهرُ من تعارضٍ بين الأدِلَّة، ولذلك قال الشاطبيُّ: (فلهذا كلِّه يجبُ على كلِّ ناظرٍ في الدليل الشرعي مراعاةُ ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه من العمل به، فهو أحرى بالصواب)([37]).

3-  كلُّ ما سكت عنه السلفُ فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد كانَ السكوت عنه أولى، ولم يأتِ فيه الخلقُ إلَّا بباطلٍ من القول وزورا، ولذلك قال الأوزاعي رحمه الله: (اصبر نفسك على السنَّة، وقف حيثُ وقف القوم، وقل بما قالوا، وكُفَّ عمَّا كفُّوا عنه، واسلُك سبيل سلفك الصالح، فإنَّه يسعُك ما وسعهُم)([38]).

4-  فهمُ النصوص بفهمِ السلف فيه حسمُ مادَّةِ الابتداع والضلال، وهو الفهمُ الفيصلُ الحقُّ، قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق}[البقرة:137].

5-  ومن الفوائد: استعمال هذه القاعدة في الردِّ على الخصوم.

وهذان مثالان:

أ‌- قال ابنُ عبَّاسٍ للخوارج يومَ أن ناظرهُم: (جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد، وعليهم نزل القرآن وهم أعلمُ بتأويله)([39]).

ب‌- قال شيخ الإسلام: (وقلتُ مرَّاتٍ: قد أمهلتُ كُلَّ مَن خالفني في شيء منها (أي الواسطية) ثلاث سنين، فإن جاء بحرفٍ واحدٍ مِن أحدٍ من القرون الثلاثة يخالفُ ما ذكرتُه فأنا أرجع عن ذلك)([40])، ثم قال: (ولم يستطع المنازعون مع طول تفتيشهم كُتبَ البلد أن يُخرِجوا ما يناقض ذلك عن أحدٍ من أئمة الإسلام وسلفِهِ)([41]).

 

هذه بعضُ قواعد أهل العلم التي تبيِّنُ منهج السلف في التعامل مع نصوص الكتاب والسنّة

وآخـر دعـوانـا أن الحمـد لله رب العالميـــن

 


 

([1]) مسند أحمد برقم (6702)، وأصله في مسلم، وصحح إسناده أحمد شاكر.

([2]) درء التعارض (8/404).

([3]) انظر كتاب: دلائل النبوة للبيهقي (2/111).

([4]) البخاري برقم (1294).

([5]) فتح الباري (13/504).

([6])كتاب الأسماء والصفات للبيهقي (408).

([7]) الفتاوى (19/155).

([8]) الاعتصام (2/304).

([9]) صحيح سنن ابن ماجه برقم (5).

([10]) مسند أحمد برقم (21361).

([11]) صحيح مسلم برقم (262).

([12]) درء التعارض (5/208).

([13]) سنن أبي داود برقم (4607)، وهو في سنن ابن ماجه ومسند أحمد وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2547).

([14]) شرح الصدور (ص593).

([15]) الموافقات (4/294).

([16]) الرسالة للشافعي (1/ 216).

([17]) الأصول من علم الأصول (ص16).

([18]) إعلام الموقعين لابن القيِّم (1/331).

([19]) الموافقات (1/87)

([20]) الاعتصام (2/327).

([21]) شرح الطحاوية: (ص168).

([22]) الفتاوى (ص64 وص142).

([23]) الاعتصام (2/336).

([24]) الرد على الجهمية (ص52).

([25]) متفق عليه: رواه البخاري برقم (4547) ومسلم برقم (2665).

([26]) أصول في التفسير (ص42).

([27]) أصول في التفسير (ص43).

([28]) أصول في التفسير (ص47).

([29]) الموافقات (3/86)، الفتاوى لابن تيمية (13/272).

([30]) تقدَّم تخريجه.

([31]) الفتاوى (17/386).

([32]) تفسير الطبري (3/186).

([33]) الطبري (1/520).

([34]) رواه البخاري برقم (3650) واللفظ له، ومسلم برقم (2533).

([35]) الفتاوى (4/157).

([36]) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة (1/156).

([37]) الموافقات (3/77).

([38]) اللالكائي (1/154).

([39]) جامع بيان العلم لابن عبد البَّر (2/127).

([40]) الفتاوى (3/169).

([41]) الفتاوى (3/217).