الأمانة والخيانة في الدين


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله .

أمَّا بعد، فنحمد اللهَ عز وجل على نعمة الإسلام، هذه المحاضرة التي هي بعنوان (الأمانة والخيانة في الكتاب والسنة).

الأمانة مع قيامها على أساس فطريٍّ تتفقُ عليه جميعُ الأمم في الماضي والحاضر، والأمانة مع موافقتها للعقول السليمة، وتقدير هذه العقول لها، وإجلال هذه العقول السليمة للأمناء، إلَّا أنَّ دَور الفطرةِ والعقلِ يظلُّ قاصرًا عن الوصول إلى الغاية المُرادة من القيام بالأمانة، ولا يكتمل أمرُهما إلَّا بالشرع المطهَّر، الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيه ولا من خلفه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إنَّ بني آدم محتاجون إلى شرعٍ يكمِّلُ فِطرَهم»، في «مجموع الفتاوى» (20/ 105).

إذًا هذه الأمانةُ رغم أنَّها فطرةٌ في الإنسان، وهي موافِقةٌ للعقول السليمة، إلَّا أنه لا يُستغنى عن الشرع المطهَّر حتى تكمل هذه الفطرة، ويُعرف قدر الأمانة وضدُّها الخيانة.

إذًا الشرعُ ثابتٌ لا يمكن تطبيقُ الأمانة في السرِّ والعَلن، إلَّا على أساسٍ ثابتٍ من الدِّين الصَّحيح، الدِّين الصَّحيح الذي لم يُخالطه لبسٌ أو تحريفٌ، الإسلامُ هو الدِّينُ الصحيحُ الموافقُ للفطرةِ السَّليمةِ، والعَقلِ الصَّحيحِ السَّالمِ من التحريف، فإذا آمن به الإنسانُ وانقادَ له كان العملُ بمُوجب تشريعاتِه أمانةً.

إنَّ الدِّينَ يجعلُ كلَّ فردٍ أمينًا على شريعة الله تعالى، وعلى سنَّة رسوله ، أمينًا على إيمانه، أمينًا على نفسه وعقله، أمينًا على مصيره في الدنيا والآخرة.

ومِن هنا تأتي أهميةُ هذه المحاضرة في الكلام عن الأمانةِ، والتَّرغيبِ فيها، وبيانِ حكم الأمانة، كذلك الكلام عن ضدِّ الأمانة، وهي الخِيانة، والتَّرهيبُ مِن الخيانة، وبيانِ حكم الخِيانة، وخطورتها.

والكلام أيضًا مِن خلال هذه المحاضرة، سيدور حول:

الأمانة في الكتاب والسُّنة.

الخِيانة في الكتاب والسُّنة.

مجالات الأمانة.

وآثار الأمانة.

وأيضا نختم هذه المحاضرة ببيان آثار تضييع الأمانة في المجتمع.

إذًا هو موضوعٌ مهمٌّ يحتاجه الجميعُ. 

فنبدأ بـ:

? أوَّل مسألةٍ: الأمانة في الكتاب والسُّنة:

اللهُ عز وجل ذَكر الأمانة في كتابه، وأَمر بها مؤكِّدًا شأنَها وشأنَ أهلها، وتكرَّر لفظُ الأمانة ومشتقَّاتُه في القرآن العظيم أكثرَ من أربعين مرَّةً، قال الله عز وجل: ﵟإِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ٧٢ﵞالأحزاب: ﵒﵗﵜ، والله عز وجل يقول: ﵟإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚﵞالنِّسَاء : ﵘﵕﵜ.

آياتٌ كثيرةٌ، وهكذا أحاديثُ كثيرةٌ؛ ومِن ذلك قصَّتُه مع اليهوديِّ الذي أراد أن يشتري منه ثوبَين إلى المَيسَرة؛ فانتهز اليهوديُّ فرصةً ليَنال مِن جنابه العظيم وقال: لقد علمتُ ما يريدُ، إنَّما يريدُ أن يذهبَ بمالي أو بدراهمي، فقال رسولُ الله : «كذبَ، قد عَلِم أنِّي مِن أتقاهُم لله، وآداهُم للأمانة»، هذا الحديث رواه الترمذي وغيره، صحَّحه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (1213) ([1]).

إذًا هو يذكرُ عن نفسه أنَّه أتقاهُم لله عز وجل، وآداهُم للأمانة، فهو يؤدِّي الأمانةَ .

وهكذا جاءت أحاديثُ كثيرةٌ، منها: حديثُ حُذَيفةَ بن اليَمان رضي الله عنه: «إنَّ الأمانةَ نَزلت في جَذرِ قلوبِ الرِّجال، ثمَّ علِموا مِن القُرآنِ، ثمَّ علِموا مِن السُّنة»([2]).

وهكذا أحاديثُ تبيِّنُ أهميَّةَ الأمانةِ في حياة الناس.

والكلامُ عن الأمانة مِن خلال مسألتين: الترغيب في الأمانة، وبيان حُكم الأمانة.

وقد أشَرنا إلى بعض الآيات، وبعض الأحاديث:

فاللهُ عز وجل قال:  ﵟإِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ٧٢ﵞالأَحزَاب ، فدلَّ على عِظم منزلة الأمانة، وأنَّ الإنسانَ تفرَّد بحَمل هذه الأمانة، فإذا كان الإنسانُ قد خُوطِب بحمل الأمانة كان حقًّا على المؤمنين خاصَّةً رعايةُ الأمانة وتأديتُها، استِجابةً للأوامر الشَّرعية التي دلَّت على وجوبها، وهذا يعُمُّ جميعَ الأمانات؛ مِن حقوق الله تعالى على عِباده، ومِن حقوق العِباد بعضهم على بعضٍ ممَّا يُؤتَمنون به.

ولذلك قال في الآية الأخرى: ﵟإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَاﵞالنِّساء : ﵘﵕﵜ، إذًا هذا أمرٌ منه - سبحانه وتعالى - بأداء الأماناتِ، ففيه ترغيبٌ في أداء الأمانة.

وكذلك يجبُ أداءُ الأمانة حتى مع المُخالِفين في الدِّين، قال تعالى: ﵟفَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥﵞالبقرة: ﵓﵘﵒﵜ، فاللهُ عز وجل أمر بالأمانة ولو كان مع المُخالِفين في الدِّين؛ سواءً كانوا من أهل الكتاب أم من المُشرِكين.

وأمر النبيُّ بأداء الأمانة، وحذَّر مِن الخيانة، فقال : «أَدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتَمنَكَ، ولا تَخُنْ مَن خانَكَ»، والحديث في «صحيح سنن أبي داود» (3535)([3])، لا يتوقَّفُ التَّحذيرُ على مجرَّد الخيانة، بل يشمَلُ خيانةَ مَن خانه في أمرٍ ما، وذلك بأن يُقابَل بالمِثل؛ لأنَّ الخِيانة ليست مِن الاعتِداءات التي تُقابَل بالمِثل.

واللهُ عز وجل أثنى في أكثرَ مِن آيةٍ على رِعاية المُؤمنين للأمانة، وهذا يدلُّ على التَّرغيب في الأمانة، قال اللهُ عز وجل: ﵟوَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٨ﵞالمؤمنون، قال ابن كَثير: «إذا اؤتُمِنوا لم يَخونوا، بل يُؤدُّونها إلى أهلها، وإذا عاهَدوا أو عاقَدوا أَوفَوا بذلك»، في تفسير هذه الآية الثامنة من سورة المؤمنون([4]).

فاللهُ عز وجل جمعَ الأماناتِ، واعتَبر باعتبار تعدُّد أنواعها، تعدُّدِ القائمين أيضًا بحِفظها.

ورغَّب في الأمانة، ربَطها بالإيمان، كما في حديث أنسٍ رضي الله عنه قال: خطبَنا رسولُ الله قال: «لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له، ولا دِينَ لمَن لا عَهدَ له»([5]).

ونفى الإيمانَ عند عدَمِها، عند عدَم الأمانةِ، كما في حديث حُذَيفةَ أنَّ النبيَّ قال: «فيُصبح الناسُ يَتبايَعون، فلا يَكادُ أحدُهم يُؤدِّي الأمانةَ، فيُقال: إنَّ في بني فُلانٍ رجلًا أمِينًا، ويقال للرَّجل: ما أَعقلَه، وما أَظرَفه، وما أَجلَده، وما في قَلبِه مِثقالُ حبَّةِ خَردَلٍ مِن إيمانٍ»([6]).

إذًا الأمانةُ في الحديث هنا: هي الأمانةُ المَذكورة في قوله تعالى: ﵟإِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَﵞالأحزاب: ﵒﵗﵜ، وهي عينُ الإيمانِ - هذه الأمانة -، إذا استَمكَنتِ الأمانةُ مِن قلب العَبد قام حينئذٍ بأداء ما أُمر به، واجتَنب ما نُهي عنه.

كذلك؛ أنَّ الأمانةَ مُرتبِطةٌ بمحبَّةِ الله تعالى، كما قال : «مَن سرَّه أن يُحِبَّه اللهُ ورسولُه فلْيَصدُق حديثَه إذا حدَّثَ، ولْيُؤَدِّ أمانتَه إذا اؤْتُمِنَ»، وهذا الحديث أخرجه البيهقي وغيره، وحسَّنه الألباني في تحقيق «مشكاة المصابيح» (حديث 4990) ([7]).

إذًا القيامُ بالأمانة مِن صفات المؤمنين الَّذين يستحِقُّون التأييدَ والنصرةَ من الله عز وجل، ولا يُعدُّ معنى الأمانة خُلقًا مجرَّدًا، بل حقيقةٌ ثابتةٌ يسلُكها العبدُ في حياته.

كما أنَّ الأمانةَ وصيَّةٌ يتواصَى برِعايتها المُسلِمون، يستَعينون بالله على حِفظها في السَّفر وفي الحَضر، كما قال قَزَعَةُ رحمه الله قال: قال لي عبدُ الله بن عمر رضي الله عنهما: هلُمَّ أُودِّعْكَ كما ودَّعني رسولُ الله : «أَستَودِعُ اللهَ دِينَكَ، وأَمانَتَكَ، وخَواتِيمَ عَملِكَ»، وهذا الحديث في صحيح سنن أبي داود (2600)([8]).

وكان النبيُّ إذا أراد أن يَستَودع الجيشَ قال: «أَستَودعُ اللهَ دِينَكُم، وأَمانتَكُم، وخَواتِيمَ أَعمالِكُم»، وهذا أيضا في «صحيح سنن أبي داود»([9]).

والنبيُّ مدح أبا عُبَيدة رضي الله عنه بقوله: «إنَّ لكُلِّ أمَّةٍ أَمِينًا، وإنَّ أَمِينَنا أيَّتُها الأُمَّةُ: أبو عُبَيدةَ ابنُ الجرَّاح»، هذا أيضًا رواه البخاري في «صحيحه» في مناقب أبي عبيدة رضي الله عنه([10]).

يقول الحافظُ ابن حَجر: «الأمين هو الثِّقةُ الرَّضِيُّ، وهذه الصِّفةُ وإن كانت مشتَرَكةً بين أبي عُبَيدة وبين غيره من الصَّحابة، لكن السِّياق يُشعر بأنَّ له مزيدًا في ذلك»([11])، ذكره الحافظ في شرحه للحديث السابق الذي في صحيح الإمام البخاري (3744).

هذا الكلام عن الأمانة.

أمَّا حكمُ الأمانة؛ فهي فرضٌ، وأكَّد اللهُ عز وجل ذلك عندما أمر بها: ﵟإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَاﵞالنِّساء: ﵘﵕﵜ، فالخطابُ عامٌّ لكلِّ أحدٍ في كلِّ أمانةٍ بكلِّ أمانةٍ.

والنبيُّ أيضًا أكَّد فرضيَّةَ الأمانة في أحاديثَ كثيرةٍ، قال : «ألَا كلُّكُم راعٍ، وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعِيَّتِه» إلى آخر هذا الحديث([12])، مسؤوليَّةٌ وأمانةٌ، «كلُّكم راعٍ، وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعِيَّتِه»، وهذا الحديث متَّفق عليه.

و«كلُّكُم راعٍ» الرِّعاية بمعنى الحِفظ والأمانة، فكلُّ مَن ذُكر في هذا الحديث - رعاةٌ وحكَّامٌ على اختلاف مَراتبهم - مؤتَمنون بأماناتٍ يجبُ الوفاءُ بها.

قال النَّوويُّ رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: «الرَّاعي هو الحافظُ المُؤتمَنُ المُلتزِمُ صلاحَ ما قام عليه، وما هو تحتَ نظَرِه، ففيه أنَّ كلَّ مَن كان تحتَ نظَرِه شيءٌ؛ فهو مطالَبٌ بالعَدل فيه، والقيام بمَصالِحه في دينه ودنياه ومتَعلَّقاتِه»([13]).

هذا ما يتعلَّق بالأمانة وبحُكمها وبالتَّرغيب فيها.

 

? المسألة الثانية: الخِيانة في الكتاب والسُّنة:

والخِيانة ضدُّ الأمانة - كما هو معلومٌ -، والخَوَنُ أن يُؤتمَن الإنسانُ فلا يُنصَح، يقال: خُنْتُ فلانًا، وخُنْتُ أمانةَ فلانٍ، ومنها: قوله تعالى: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡﵞالأَنفَال: ﵗﵒﵜ.

وعرَّفها الجاحظُ بقوله: «الأمانةُ هي الاستِبدادُ بما يُؤتمَنُ الإنسانُ عليه مِن الأموال والأعراض والحُرَم، وتملُّك ما يُستَودَعُ، ومجاحَدةُ مُودِعه».

وفيه أيضًا: «طَيُّ الأخبار إذا نُدب لتأدِيَتها، وتحريفُ الرَّسائل إذا تحملَّها، فصرَفها عن وُجوهها»، ذكر في كتابه «تهذيب الأخلاق»([14]) معاني الخِيانة، فعدَمُ القِيام بالأمانة في أُمور الدِّين من التكاليف والواجبات وحُقوق العِباد يُعَدُّ خِيانةً، يُسأَل عنها المَرءُ.

وقد تكاثرَت النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ في التَّحذير مِن الخِيانة في مواضعَ متعدِّدةٍ في الكتاب وفي السُّنة:

أما في القرآن؛ فقد تكرَّر لفظ (الخِيانة) ومُشتقَّاتِها أكثرَ من ثلاثين مرَّةً، منها قولُه تعالى: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٧ﵞالأَنفَال، قال ابنُ كَثيرٍ: «الخِيانةُ تعُمُّ الذُّنوبَ الصِّغارَ والكِبارَ، اللَّازِمةَ والمُتعدِّيةَ» ([15])، هذا في تفسيره لهذه الآية التي في سورة الأنفال، الآية السابعة والعشرون في سورة الأنفال.

وهكذا آياتٌ أخرى، وأحاديثُ أيضًا كثيرةٌ حذَّرت مِن الخِيانة، مِن ذلك حديثُ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ قال: «أَربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالِصًا»، قال: «إِذا اؤْتُمِنَ خانَ، وإذا حدَّث كذَبَ، وإذا عاهَد غدَرَ، وإذا خاصَم فجَرَ»، وهذا الحديث متفق عليه([16]).

ذكر منها: «إِذا اؤْتُمِنَ خانَ»؛ فهذا تحذيرٌ شديدٌ، وأنَّ خِيانةَ الأمانة مِن علامات المُنافِقين، والإنسانُ بوُسعِه أن يَعتذر عن قَبول الأماناتِ في الوَدائع والأموال، لكن إذا قَبِل الأمانةَ وجب عليه المُحافَظة عليها والوفاءُ بها، وإلَّا عُدَّ خائِنًا.

فالخِيانةُ جريمةٌ كبيرةٌ، والخِيانةُ مِن الصِّفات المَذمومة التي تتَّفقُ الأُمَم على رَفضها، ونصَحتِ العربُ في أشعارِها بإسناد الأمانة إلى أهلها، وبالتَّحذير مِن الخِيانة.

ويقول عُبَيد بن الأَبرص، أحدِ شُعراء العرب، مِن دُهاة الجاهلِيَّة وحكمائها، قال([17]):

إذا أنتَ حمَّلتَ الخَؤُونَ أمانةً

 

 

فإنَّكَ قد أسنَدتَها شرَّ مُسنَدِ

 

إذًا الخيانةُ صفةٌ ذميمةٌ عند العرب في أشعارهم.

كذلك أيضًا من الخِيانة خِيانةُ المُتقلِّد لأُمور المسلمين والمُتهاوِن فيها، فكلُّ مَن أُسند إليه أمرٌ مِن أمور المسلمين ولم يقُم به، ولم يُؤدِّه على الوَجه المَطلوب مع قُدرته؛ فهو خائِنٌ غادِرٌ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ : «إذا جمعَ اللهُ الأوَّلِينَ والآخِرينَ يومَ القِيامة يُرفَعُ لكُلِّ غادِرٍ لواءٌ، فقِيل: هذِه غَدرَةُ فُلانِ بنِ فُلانٍ»، هذا الحديث رواه مسلم في «الصحيح» (1735)، وفي رواية أبي سَعيد الخُدري أيضًا: «لكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يومَ القِيامة، يُرفَع له بقَدرِ غَدرِه، ألَا ولا غادِرَ أعظَمُ غَدرًا مِن أَمِيرِ عامَّةٍ»، أيضًا هذا الحديث في «صحيح الإمام مسلم» (1738).

إذًا المسألةُ تتعلَّق بالخِيانة، والتَّحذيرِ مِن الخيانة، مرَّت معنا بعضُ الآيات والأحاديث، ولذلك عدَّ الحافظُ الذَّهبيُّ الخِيانةَ من الكبائر في كتابه «الكبائر»، واحتجَّ بقول الله عز وجل: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٧ﵞالأَنفَال، قال: «الخِيانةُ قبيحةٌ في كلِّ شيءٍ، وبعضُها شرٌّ مِن بعضٍ، وليس مَن خانَك في فِلسٍ كمَن خانَك في أهلك ومالك، وارتكبَ العظائم». هذا في كتاب «الكبائر» للذهبي رحمه الله (ص 149).

إذًا الخِيانةُ تكونُ في أماناتِ الناس، وتكونُ فيما افتَرضه اللهُ عز وجل على عباده، وائْتمَنهم عليه، وما أَمر به رسولُه مِن واجباتٍ؛ فمَن ضيَّع شيئًا ممَّا أمر اللهُ تعالى به ورسولُه ، أو ارتَكب شيئًا ممَّا نهى اللهُ تعالى عنه ورسولُه فليس ينبغي أن يكون عَدلًا؛ لأنَّه لزِمه اسمُ الخِيانة.

ولذلك قال الطَّبري رحمه الله في تفسيره للآية: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَﵞالأَنفَال: 27، قال الطَّبري: «وأَولى الأقوال في ذلك بالصَّوابِ أن يُقال: إنَّ اللهَ تعالى نهى المُؤمِنين عن خِيانته، وخِيانة رسوله، وخِيانة أمانتِه»([18])، انتهى في تفسيره - الطبري رحمه الله - لهذه الآية، الآية السابعة والعشرون من سورة الأنفال.

وأمر النبيُّ بأداء الأمانة، وحذَّر مِن الخِيانة بقوله - كما مرَّ معنا -: «أَدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتمَنكَ، ولا تَخُنْ مَن خانَكَ»([19]).

وهكذا المؤمنُ مفطورٌ على الأمانة، وسَلامة الخُلق، لذلك لا تجتمع فيه صِفتَا: الخِيانة والأمانة أبدًا، وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في «المسند» من حديث أبي هريرة قال: قال رسولُ الله : «لا يَجتمِعُ الإيمانُ والكفرُ في قَلب امرئٍ، ولا يَجتمِعُ الصِّدقُ والكَذبُ جميعًا، ولا تَجتمِعُ الخِيانةُ والأمانةُ جميعًا»([20])، هذا الحديث رواه الإمام أحمد وإسناده حسن.

ولذلك جعل الإسلامُ عقوبةَ خِيانة الأمانة: التَّعزيرَ، الضَّمانَ، بسبب شرِّ الخِيانة وما يكون فيها مِن مُخالَفةِ الحقِّ، وخِيانةِ الناس والضَّرر بهم في الدُّنيا، كانت عقوبة الخائن في الدنيا بأن تُرَدَّ شهادتُه، فقد قضى النبيُّ بذلك في حديث عبد الله بن عَمرو رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ قال: «لا تَجوزُ شَهادةُ خائِنٍ ولا خائِنةٍ» رواه الإمام أحمد في المسند وإسناده حسن([21]).

وهكذا أيضًا عنه ردُّ شهادةِ الخائِن والخائنة، كما رواه أبو داود في «سننه»، وحسَّنه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3600)([22]).

جاء الوعيدُ أيضًا في التحذير مِن الخِيانة أيضًا في حديث عياض المُجاشِعي رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله قال: «وأَهلُ النَّارِ خَمسَةٌ»، ذكر منهم: «الخائِنُ الَّذي لا يَخفَى له طمَعٌ وإِنْ دقَّ إلَّا خانَه، ورجلٌ لا يُصبح ولا يُمسي إلَّا وهو يُخادِعكَ عن أهلِك ومالِك»، هذا الحديث رواه الإمام مسلم في «الصحيح» (2865).

ممَّا سبق يتبيَّن لنا حكمُ الخِيانة، وأنَّها محرَّمةٌ، فاللهُ عز وجل جعل مِن صفات المؤمنين رِعايةَ الأمانة، وبالمُقابل ذكرَ القرآنُ صفةَ الخِيانة، وأنَّ هذه الصِّفةَ مُلازِمةٌ لصِفات الكفَّار والمُنافِقين.

وهكذا اللهُ عز وجل يقول: ﵟإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٖ كَفُورٍ ٣٨ﵞالحَج ، ويقول - سبحانه وتعالى -: ﵟإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا ١٠٧ﵞالنِّساء.

إذًا الخِيانةُ أسوأ ما يُبطنه الإنسانُ، ولذلك استَعاذ منها النبيُّ في دعائه، كما في حديث أبي هريرة: كان رسولُ الله يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن الجُوع؛ فإنَّه بِئسَ الضَّجِيعُ، ومِن الخِيانة؛ فإنَّها بِئسَتِ البِطانةُ»، هذا الحديث رواه النسائي، وقال الألباني: «حديث حسن صحيح»، في «صحيح سنن النسائي» (5052).

ولا يتوقَّف الأمرُ على التحذير مِن خيانة المُسلِمين فحَسبُ، بل تَحرُم خِيانةُ المسلم للكافر إذا منَحه حقَّ الأمان، ففي حديث عَمرو بن الحَمِق رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: «أيُّما رجُلٍ أمَّنَ رجُلًا على دَمِه، ثمَّ قتلَه؛ فأنا مِن القاتِل بَريءٌ، وإن كانَ المَقتولُ كافرًا»، هذا الحديث رواه ابن ماجه وغيره، وصحَّحه الألباني رحمه الله في «السلسلة الصحيحة» (القسم 2/المجلد1/801)([23])، والحديث في «سنن ابن ماجه» (2688).

إذًا مِن خِلال ما سبق تكلَّمنا عن الأمانة في الكتاب والسُّنة، والخِيانة في الكتاب والسُّنة، وحكم الأمانة والخِيانة في شرعنا.

 

 

نذكر الآنَ بعضَ مجالاتِ الأمانة.

وأمَّا مجالات الأمانة؛ فهي كثيرة، نختصرها مِن خلال هذه النِّقاط:

شمَلت الأمانةُ التَّكاليفَ والواجباتِ التي طُولب بها الإنسانُ أداءً لحقِّها في مجالاتٍ عدَّةٍ:

في مجال العقيدة والعبادة:

- الأمانة والإيمان مرتبطان.

- التَّفريط في الأمانة دليلٌ على ضعف الإيمان.

- والأمانة مِن أعظم الأمور التي يُسأل عنها العبدُ يومَ القيامة.

ففي مجال العقيدة قلنا: ارتباطُ الأمانة بالإيمان بالله تعالى، وبالملائكة، والإيمان بالكتب المُنزلة، وبالرُّسل، والإيمان باليوم الآخر، وبالقَدر خيره وشرِّه.

وفي مجال العبادة:

- إقرارُ الأمانة الوثيقُ بالالتِزام بجميع التَّكاليفِ والعِبادات المُتعلِّقة بالأفراد، كالصَّلاة، والزَّكاة، والصَّوم، والحجِّ، وسائر المعامَلات.

وفي المجال الاجتماعي:

- الأمانة أيضًا منها رِعايةُ الأسرة المُسلِمة.

- التَّأكيدُ على أمانة الزَّوجَين في أداء الحقوق الزَّوجية.

- وأمانةُ الزَّوجَين في تربية الأولاد.

- وأمانةُ الأولاد في البِرِّ بوالِدِيهم.

وفي العلاقات الاجتماعية أيضًا:

- تتمثل الأمانةُ في حِفظ أسرار البُيوت والمجالس، وما يُؤتمَنُ عليه مِن أسرارٍ.

- وما يجبُ على المُسلم مِن ستر عَورات إخوانِه، صِيانةً للمُجتمع من انتِشار الفساد.

أيضًا من مجال الأمانة الوِلايات:

- تُعَدُّ الأمانةُ شرطًا أساسيًّا في تعيين الوُلاة، تقليدِ المَناصب، التَّكليف بالوَظائف؛ لأنَّ الوِلاية مسؤوليَّةٌ جسيمةٌ، أمانةٌ ثقيلةٌ، لا تصلح إلَّا لمَن كان مؤهَّلًا بصفاتٍ معيَّنةٍ، مثل: الإيمان، وكمال العَقل، وتمام القوَّة، والكَفاءة الحقيقيَّة للمنصب، والعِفَّة عن سؤال المنصب، والصِّدق في الأقوال والأعمال، ليتمكَّن مِن أداء واجباتِ الوِلاية على الوجه الأكمل، كما قرَّره الشرع.

- بذلُ النُّصح للمجتمع.

- مُشاوَرةُ الأُمَناء فيما يهمُّ مِن أمر الدنيا والدِّين.

من مجالات الأمانة في المجال الاقتصاد أيضًا:

- أداءُ الأمانات إلى أهلها.

- حفظُ الدُّيون بكتابتها، عدم الزِّيادة على أصل الدَّين.

- حسنُ أداء الحُقوق.

- الوفاء بالعقود الماليَّة.

- تأديةُ الأمانة في عقود المعاوَضات.

- توفيةُ أُجورِ المُستأجَرين.

- صَونُ بيع المُرابَحة عن الخِيانة والكذب.

- الأمانة في عقود التبَرُّعاتِ.

- الوصيَّةُ بكِتابة الوصيَّة كِتابةً صحيحةً خاليةً مِن الغَدر لحُقوق الآخَرين، أو الإضرار بالورَثة.

المجال العلمي أيضًا من مجالات الأمانة:

العلمُ أمانةٌ عظيمةٌ يحملُها ويؤدِّيها الأخيارُ مِن الأُمَّة: العلماءُ وطلبةُ العِلم:

- عليهم أمانةُ حفظِ العِلم، تحمُّلِ سماعِه، أو قِراءته على الشُّيوخ الأُمناءِ، تِباعًا لصحابة النبيِّ في أمانة الحِفظ والأداء.

- تأليفٌ علميٌّ ونشرُه، هذا مِن أعظم الأماناتِ العلمِيَّةِ؛ دِقَّةٌ في نَقل الأقوال، توثيقُها، تصحيحٌ تصحيفٌ، مع ما تضمَّنته الأمانةُ مِن رعاية حقِّ المُؤلِّف والناشر، هكذا برَزت الأمانةُ عمادًا للأخلاق، ومَجمَعًا للفضائل.

هذا شيءٌ مِن مجالاتِ الأمانة.

نتكلَّم الآنَ عن آثار أداء الأمانة في المُجتمَع:

إذا أُدِّيت الأمانةُ؛ كلُّ فردٍ في المجتمع أدَّى الأمانةَ التي عليه أثمرَ ذلك ثِمارًا كثيرةً، أثَّر ذلك آثارًا، فما هي آثارُ أداء الأمانة في المجتمع؟ الأمانةُ عمادٌ للأخلاق مَجمَعٌ للفضائل.

فمِن آثار أداء الأمانة في المُجتمَع: هناك آثارٌ سلوكيَّةٌ ونفسيَّةٌ واجتماعيَّةٌ واقتصاديَّةٌ، منها:

- صلاحُ الفَرد.

- استِقامةُ الفَرد مِن خلال تربية النَّفس.

- عندما يتحمَّلُ كلُّ فردٍ للأمانة يَصلُح الفَردُ، يستقيمُ، يؤدِّي الفردُ ما افترضه اللهُ عز وجل عليه مِن الواجبات والعبادات والمُعامَلات.

- يصدقُ الأمينُ في معاملاته، يَقبلُ الحقَّ، يَفشُو هذا التعاملُ بالأمانة، تَفشُو المحبَّةُ في المجتمع، يعمُّ الخيرُ أفرادَ المجتمع.

هذا من آثار أداء الأمانة في المجتمع.

- الأفرادُ يُخلِصون في أداء الواجباتِ والمسؤوليَّاتِ على النَّحو المطلوب، تنمو عندهم الرَّقابةُ الداخلِيَّةُ.

- يُتقن الأمينُ الأعمالَ المُوكَلةَ إليه بكلِّ دِقَّةٍ وإحسانٍ.

- يتحمَّلُ المسؤوليَّاتِ المُكلَّف بها.

- يُراعي كلُّ إنسانٍ مسؤولٍ بقَدر استِطاعته وتحمُّله يُحاسَب عليها؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.

من آثار أداء الأمانة في المجتمع:

- نَيلُ السَّعادة والفلاح.

- حصولُ محبَّة الله تعالى ورسوله الأمين.

- محبَّةُ الناس، احتِرامُهم، تقديرُهم.

- يحفظُ اللهَ تعالى في أهله وماله، وفي حياته إذا أدَّى الأمانةَ، ينالُ الفلاحَ في الآخرة.

هناك آثارٌ اجتماعيَّةٌ لأداء الأمانة في المجتمع:

- سَلامةُ الصَّدر.

- تماسكُ الأفراد.

- تزكيةُ النُّفوس.

- المسلمُ يتمنَّى الخير للناس جميعًا؛ لأنَّه تحمَّلَ الأمانةَ، يحرص على تحقيق مبدأ المحبَّة والنَّصيحة.

- تبادلُ الثِّقة بين أفراد المجتمع، كلَّما ازدادت الثِّقةُ بين أفراد المجتمع كان هذا دليلًا على توافُر أمانتهم، وسمُوِّ أخلاقهم: المَظهر الحضاري للمجتمع.

- تظهرُ الأمانة في الأفراد في وُجود نظامٍ اجتماعيٍّ شاملٍ للناس يقومُ على العَدل، التماسُك، التَّرابُط، القوَّة، استقامة التعامل المالي.

أيضًا آثارٌ اقتصاديَّةٌ لأداء الأمانة في المجتمع، الاقتصاد مِن المجالات التي لا يكادُ يستغني عنها أيُّ فَردٍ في أيِّ مكانٍ، فإذا أُدِّيت الأمانةُ:

- استقام التعاملُ الماليُّ.

- تحقَّق الأمنُ الاقتصادي في المجتمع؛ لأنَّ الأمانةَ في يد الأفراد وُظِّفت التَّوظيفَ الصَّحيحَ فأُقيم العَدلُ، عمَّ الأمنُ والأمانُ في أرجاء المجتمع.

- تزدهِرُ الحركةُ التجاريَّةُ، تُتَبادَلُ المنافعُ المعِيشيَّةُ، الحاجاتُ الضَّروريةُ بين الناس بسبب انتشار الأمانة في المجتمع.

هناك آثارٌ علمية أيضًا:

- قيامُ العلماء وطلبة العلم بأداء أمانة العلم، هذا مرتبطٌ بالإيمان.

- تحرِّي التثبُّت، حرصٌ على أداء الأمانة في التحرِّي والتثبُّت للأمانة العلمية.

- الاعتناءُ بالإسناد والجَرح والتَّعديل.

- الدِّفاعُ عن سنَّة النبيِّ .

هذه أماناتٌ على العلماء وعلى طلبة العلم.

- تَزدهِرُ الحركةُ العلميَّةُ في المجتمع بسبب أداء الأمانة.

إذًا آثارٌ كثيرةٌ، فيها كلُّ الخير للمجتمع إذا أُدِّيت الأمانةُ.

نختم المسألة الخامسة من مسائل هذه المحاضرة، آثارُ تضييع الأمانة في المجتمع:

- إذا ضُيِّعت الأمانةُ في المجتمع تأثَّر المجتمعُ، تأثَّرت القلوبُ، تأثَّر سلوكُ الناس فيما بينهم.

- من آثار تضييع الأمانة في المجتمع: ضعفُ الوازِع الأخلاقي، إذا ابتَعدتِ النفوسُ عن الدِّين لم تقُم بما هو واجبٌ عليها، انفَرط عِقدُ الأخلاق الحميدة، عاشَت المجتمَعاتُ في فوضى أخلاقيَّةٍ، انتشَرت الأمراضُ النَّفسيَّةُ والسُّلوكيَّةُ؛ الكَذب، الخِيانة، كثُرَ التشبُّهُ بخِصال المُنافِقين، فشَت العداوةُ والبغضاءُ، كثُرَ التنافسُ والتحاسدُ على الدنيا.

- هذا نتيجةُ تضييع الأمانة في المجتمع: ضعفُ تماسُكِ المجتمع، انهارَ كَيانُه، عدمُ الإخلاص في أداء الواجبات والمسؤوليات، أثَّر ذلك في ضياع الأمانة، غاب الإخلاصُ في حياة الناس، ضعُفت الرقابةُ الداخليَّةُ، غلبَت المصالحُ الخاصَّةُ على المصالح العامَّة، فرَّط الناسُ في أداء الأعمال المُوكَلة إليهم بسبب تضييع الأمانة، كثيرٌ من الناس لا يتحمَّل المسؤوليَّاتِ المُناطَة به، المُكلَّف بها؛ لأنَّه لم يتحمَّل الأمانة؛ لأنَّه ضيَّع الأمانة، فأعاق مسيرة التقدُّم الإسلامية.

- من آثار تضييع الأمانة في المجتمع: الشقاءُ في الدنيا وفي الآخرة، مِن أعظم الشقاء العاجل ما يحِلُّ بالمجتمع مِن فُقدان الأمانة، مِن تضييع الأمانة، مِن الضِّيق في الحياة، والنَّكَد والقَلق، عدم إجابة الدُّعاء، بل يتعدَّى الشقاءُ الدنيويُّ إلى الشقاء الأُخرَوي، وما توعَّد اللهُ عز وجل به العصاةَ الَّذين خانوا الأمانةَ وضيَّعوا الأمانةَ.

هناك آثارٌ اجتماعيَّةٌ على المجتمع مِن تضييع الأمانة:

- فسادُ أخلاق المجتمع.

- انقلابُ المَوازين.

- تزيينُ المحرَّمات، حتى أصبحت بعضُ المجتمَعات المُسلِمة لا تَعرف معروفًا، ولا تُنكِر منكَرًا، عمَّ النفاقُ، كثُرَ الزِّنا، انتشَرت الخمورُ والمخدِّرات.

وهكذا كل ذلك من آثار تضييع الأمانة في المجتمع.

- تفكَّكت العلاقاتُ، فُقِدت الثِّقةُ بين أبناء المجتمع، تفشَّت منكراتُ القلوب مِن الغِلِّ والبغضاء والتَّناحُر.

- تفكَّكت العلاقاتُ الاجتماعيَّة، كثُرت مظاهر الخِيانة، إساءة الظنِّ، إنكار الحقوق، الأنانيَّةُ الفرديَّةُ، حبّ الأثَرة.

- انحلَّت قاعدةُ المجتمع، ظهر التخلُّفُ الحضاري للمجتمع.

- غيابُ العِزَّة الإسلاميَّة، غلَب الذلُّ على المسلمين.

- تفرَّقوا، تشتَّتوا، ضعف اقتصادُهم، تخلَّفوا علميًّا بسبب تضييع الأمانة.

من آثاره الاقتصادية أيضًا:

- تضييعُ الأمانة فسادُ التعامل المالي، كثرة التعامُلات المحرَّمة والمشبوهة في المجتمع، كالرِّبا والاحتكار والرِّشوة.

- من الضَّعف الاقتصادي أيضًا - أثرٌ مِن آثار تضييع الأمانة -: ضِيقُ المَعاش، انتشار الفَقر، انتشار الرِّبا، عدم الاستقرار، ضعف التَّكافُل، سَيطرة المصالح المادية، ارتفَعت نسبة الفقر، كلُّ ذلك بسبب تضييع الأمانة.

كذلك أيضًا هناك آثارٌ علميَّةٌ على تضييع الأمانة:

- غياب المسؤولية التربوية، إذا تخلَّى العلماءُ، طلبةُ العلم عن وظيفتهم في حمل أمانة العلم فَقَد الناسُ الثِّقةَ بأهل العلم، برَز الأئمَّةُ المُضِلُّون، تصدَّر صغارُ المُتعلِّمين، انتشر التحاسدُ بين أهل العلم، ضعف البناء العلمي، أصبح التنافس على تقلُّد المناصب، الشُّهرة أصبحت ظاهرةً عامَّةً، ظهور الفوضى الفكريَّة؛ لأنَّ الأمانة العلمية ضُيِّعت.

هذه بعض الآثار لتضييع الأمانة في المجتمع.

وبذلك انتهت هذه المحاضرة بعد أن تكلَّمنا عن الأمانة في الكتاب والسُّنة، عن الخِيانة في الكتاب والسُّنة، عن مجالات الأمانة في المجتمع، تكلَّمنا عن آثار أداء الأمانة في المجتمع، وختمنا بذكر آثار تضييع الأمانة على المجتمع.

نسأل اللهَ عز وجل أن يُعِيننا وإيَّاكم على تحمُّل الأمانة، ونُعيذ به عز وجل من الخِيانة ومن آثارها.

نسأله عز وجل أن يحفظ بلادَنا دولةَ الإمارات من كلُّ سوءٍ ومن كلِّ فتنةٍ، ومن كلِّ خِيانةٍ.

كما نسأله عز وجل أن يُوفِّق ولاةَ أمورنا لما يحبُّه ويرضاه، وأن يُعِينهم على تحمُّل الأمانة، وأن يرزقهم البِطانةَ الصالحةَ، التي تتحمل الأمانة.

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم.


 

([1]) رواه الترمذي (1213)، والنسائي (4628). وصحَّحه الألباني.

([2]) رواه البخاري (6497)، ومسلم (143).

([3]) رواه أبو داود (3535)، والترمذي (1264). وصحَّحه الألباني.

([4]) «تفسير ابن كثير» (5/463).

([5]) رواه أحمد (12383). وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (7179).

([6]) رواه البخاري (6497)، ومسلم (143).

([7]) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (1440)، وحسَّنه الألباني في «المشكاة» (4990).

([8]) رواه أبو داود (2600)، والنسائي في «الكبرى» (9/190). وصحَّحه الألباني في «الصحيحة» (1/48).

([9]) رواه البخاري (3744)، ومسلم (2419).

([10]) رواه أبو داود (2601)، والنسائي في «الكبرى» (10268). وصحَّحه الألباني في «الصحيحة» (‌‌15).

([11]) «فتح الباري» (7/93).

([12]) رواه البخاري (7138)، ومسلم (1829).

([13]) «شرح صحيح مسلم» (12/213).

([14]) (ص 31).

([15]) «تفسير ابن كثير» (4/41).

([16]) رواه البخاري (34)، ومسلم (58).

([17]) «ديوان عبيد بن الأبرص» (ص 59).

([18]) «تفسير الطبري» (11/122).

([19]) رواه أبو داود (3535)، والترمذي (1264). وصحَّحه الألباني.

([20]) رواه أحمد (8593). وصحَّحه الألباني في «الصحيحة» (‌‌1050).

([21]) رواه أحمد (6698)، وأبو داود (3601)، وابن ماجه (2366). وحسَّنه الألباني في «إرواء الغليل» (2669).

([22]) رواه أحمد (7102)، وأبو داود (3600).

([23]) رواه النسائي في «الكبرى» (8687)، وابن ماجه (2688)، وابن حبان (2460) واللفظ له. وصححه الألباني في «الصحيحة» (1/801) برقم (‌‌440).