حسن الظن وسوءه


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:

فإن مما نشر مؤخرا في وسائل التواصل الاجتماعي، قول أحد السلف: "لو رأيت أحد إخواني ولحيته تقطر خمرا, لقلت ربما سكبت عليه! ولو وجدته واقفا على جبل وقال " أنا ربكم الأعلى" لقلت إنه يقرأ الآية".

ومن خلال البحث عبر بعض الوسائل الممكنة لم يتيسر لي الوقوف على قائل هذه العبارة. وعلى كل حال، فإني أقف هنا مع هدف نشر هذه الرسالة عدة وقفات:

الوقفة الأولى: ليس كل سوء ظن يكون محرما وصاحبه مستحق للإثم, قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) فدلّت الآية بمفهومها أنه كما أن بعض الظن إثم فبعضه ليس بإثم.

قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا تقربوا كثيرا من الظنّ بالمؤمنين، وذلك إن تظنوا بهم سوءا، فإن الظانّ غير محقّ، وقال جلّ ثناؤه :( اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ) ولم يقل: الظنّ كله [جامع البيان (22/303)].

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا :" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ".

فقد قال القرطبي رحمه الله: "قال علماؤنا : فالظن هنا وفي الآية هو التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها , كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك, ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى: ( ولا تجسسوا ) وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك".

الوقفة الثانية: مفاد هذا القول المنشور هو حسن الظن مطلقا، وهذا مالا تؤيده النصوص:

فقول الله جل وعلا ( إن بعض الظن ) دلالته واضحة على منع ذلك كما سبق. وقوله صلى الله عليه وسلم : " على رسلكما إنها صفية " واضح الدلالة في كون الواجب على العبد أن يبعد عن مواطن الشبهات.

قال الخطابي: "في هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الانسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون, ويخطر بالقلوب, ويخطر بالقلوب, وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءة من الرّيب".

الوقفة الثالثة: من وضع نفسه في مواطن التهم لم يكن له أن ينكر على من أساء الظن به:

فلا يكون حُسن الظن بمن ابتدع وخالف السنة، وتنكب الصراط، وانطلق من تأصيلاته الفاسدة، فإن حسن الظن به والحالة هذه غفلة وتعدٍ وتخاذل في رد الباطل، ونصرة له.

ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً من طرق :"من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به" [الزهد لأبي داود]

إن ما عليه السلف هو التحذير والاجتناب للمبتدعة، ولا سيما بعد تبيين الأمر وقيام الحق وظهوره، عن الحسن: " كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام , وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت ".

والمراد بكلام الحسن هنا؛ سوء الظن بما دلّت القرائن عليه، ولأجل هذا قال ابن مفلح رحمه الله –ناقلا-: " قَال في (نهاية المبتدئ) : حُسنُ الظّنِّ بأهل الدّينِ حَسَنٌ ، ظاهرُ هذا أَنّه لا يجب، وظاهره أَيضا أَنّ حسنَ الظّنِّ بأهلِ الشّرِّ ليس بحسَنٍ ، فظاهرهُ لا يَحْرُمُ" [ الآداب الشرعية (1/88)].

قال الشيخ العلامة محمد صالح العثيمين رحمه الله: " إذا عُلم عن شخص من الناس أنه محل لإساءة الظن، فهنا لا حَرج أن تُسـيئ الظن من أجل أن تحترس منه لأنك لو أحسنت الظن به لأفضت إليه كل ما في صدرك، و لكن ليس الأمر كذلك" . [شرح الحلية].

ومن هذا المنطلق جاء قول ابن حزم رحمه الله :"وأما سوء الظن فيعده قوم عيباً على الإطلاق، وليس كذلك إلاَّ إذا أدَّى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة، أو إلى ما يقبح في المعاملة، وإلاَّ فهو حزم، والحزم فضيلة" [مداواة النفوس ص:109].

الوقفة الرابعة: جاءت تقريرات أهل العلم بما سبق، دون تعميمات دافعها – على أقل تقدير- هو العاطفة، إن لم يكن دافع ذلك هو السكوت عن أهل البدع ونشر باطلهم: قال علي بن أبي خالد: قلت لأحمد بن حنبل -رحمه الله- : إن هذا الشيخ -لشيخ حضر معنا- هو جاري، وقد نهيته عن رجل، ويحب أن يسمع قولك فيه: حارث القصير -يعني حارثاً المحاسبي- وكنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلت لي: لا تجالسه، فما تقول فيه؟، فرأيت أحمد قد احمرّ لونه، وانتفخت أوداجه وعيناه، وما رأيته هكذا قط، ثم جعل ينتفض، ويقول: " ذاك؟ فعل الله به وفعل، ليس يعرف ذاك إلا من خَبَره وعرفه، أوّيه، أوّيه، أوّيه، ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره وعرفه، ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان، فأخرجهم إلى رأي جهم، هلكوا بسببه.
فقال له: يا أبا عبدالله يروي الحديث ، ساكنٌ خاشعٌ ، من قصته ومن قصته!!
فغضب أبو عبدالله ، وجعل يقول: لا يغرّك خشوعه ولِينه، ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه، فإنه رجل سوء ذاك لا يعرفه إلا من خبره، لا تكلمه، ولا كرامة له، كل من حدّث بأحاديثِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان مبتدعاً تجلس إليه؟! لا، ولا كرامة ولا نُعْمَى عين، وجعل يقول: ذاك ، ذاك " [طبقات الحنابلة (1/234)]

وروى عبدالله - رحمه الله - في كتابه " السنة " : فقال : (( سمعت أبي يقول:"من قال لفظي بالقرآن مخلوق هذا كلام سوء رديء، وهو كلام الجهمية "، قلت له : إن حسينًا الكرابيسي يقول هذا؛ فقال: " كذب، هتكه الله، الخبيث" )) [السنة ( 1/165 )].

قال ابن مفلح المقدسي رحمه الله :"وقال ابن هبيرة الوزير الحنبلي : "لا يحل والله أن يحسن الظن بمن ترفض ولا بمن يخالف الشرع في حال", و مراده ( بِمَنْ يُخالِف الشَّرْعَ ) أهل الباطل و الله أعلم" [الآداب الشرعية (1/ 60)]

قال العلامة ابن باز رحمه الله :" يقول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، فأمر سبحانه باجتناب الكثير لا كل الظن، وقال: إن بعض الظن إثم، ولم يقل إن كل الظن إثم, فدل ذلك على جواز الظن السيء إذا ظهرت أماراته، رؤيت دلائله الذي يقف مواقف التهم يظن به السوء"

وقال رحمه الله: "لا يجوز له أن يتشكك في أخيه و يسيء به الظّن؛ إلاّ إذا رأى على أمارات تدل على سوء الظّن فلا حرج، الحرج عليه إذا رآه يقف مواقف التّهم ويصاحب الأشرار فهو محل السوء محل ظن السوء، أمّا إنسان ظاهره الخير والاستقامة ثمّ يُسيء به الظّن, فلا يجوز له ذلك ... إذا أساء الظّن بالنّاس الذين يعرفهم يقفوا مواقف التّهم ويصحبون الأشرار, ويعملون ما لا ينبغي فهؤلاء هم محل سوء الظن حتى يهديهم الله ويتوب عليهم".

وقال الشيخ زيد بن محمد المدخلي رحمه الله: " ويجوز سوء الظن بمن أتى بأسبابه، كمن تراه يغضب إذا ذكر أهل البدع وتكلّم فيهم وحذر منهم تحذيرا عاما، أو تسمعه يدافع عنهم جماعات أو أفرادا ، أو دلّت قرائن يتبين منها أن الشخص مميّع لمنهج أهل السنة ، فلا تروج له ولا ترشد إلى الأخذ عنه حتى تتبين لك سلامته فترشد طلاب العلم إلى أخذ العلم عنه ، أو يتبين لك موالاته لأهل البدع ولو بالترويج لهم وعدم الإنكار عليهم فاحذره وحذر منه " [ الأجوبة الأثرية عن المسائل المنهجية "93"].

وقال العلامة الفوزان حفظه الله: "سوء الظن بأهل الشر والفساد وهذا مطلوب؛ لأنه يسبب الابتعاد عنهم وبغضهم".

فائدة: لا يصح حديث " احترسوا من الناس بسوء الظن"

قال الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة تحت حديث 156 :"ضعيف جدا".

 

وكتبه: محمد بن غالب العمري
2/2/1436هـ.