الحزبي ناقص وطنية


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 
القسم: 

«الحزبي ناقص وطنية» نصُّ عبارة ذهبية غرد بها سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، حفظه الله، في تويتر، وهي عبارة تُكتب بماء الذهب، قليلة في كلماتها، عميقة في دلالاتها، غزيرة في معانيها، دقيقة في مراميها، تعكس الرؤية المستنيرة التي يتمتع بها سمو الشيخ عبدالله، حفظه الله، في غرس روح المواطنة الصالحة، لتشرق بأنوارها الساطعة في طريق السائرين، وهذه العبارة تنطلق من المقاصد العليا للشعوب والأوطان، فلا يخفى أن وحدة الأوطان وتماسكها وقوة نسيجها المجتمعي مطلب عظيم، ومقصد جليل، أمر به الإسلام.

وأكده العقل والواقع، ولا يتحقق هذا المقصد إلا باجتماع أبناء الوطن الواحد في سفينة واحدة، وتحت مظلة واحدة وهي مظلة حاكمهم، فهم تحت رايته مجتمعون، وعلى أساس رؤيته المستنيرة يعملون، وله يوالون وإليه ينتمون، وكل ولاء وانتماء ينقض بيعة الحاكم أو يخل بها فهو ولاء باطل، وانتماء مشبوه، ومن صور ذلك الولاءات الحزبية، التي تهدف إلى تقسيم المجتمع الواحد إلى أحزاب متناحرة، وتجعل الانتماء لهذه الأحزاب لا للوطن، وتجعل الولاء لزعماء الأحزاب لا للحاكم.

كما أن هذه العبارة الذهبية تنطلق من روح الإسلام ومقاصده، فقد دعا الإسلام للوحدة والاعتصام واجتماع الشعوب تحت راية حكامها، ونهى عن التحزب والتفرق وإنشاء أوطان مزيفة بديلة في صورة أحزاب وتنظيمات وغيرها داخل الأوطان الحقيقية، فإن مغبة ذلك كبيرة، وأضرارها عظيمة.

وقد قال المولى تعالى محذراً من ذلك: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}، وقال سبحانه: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، وقال عز وجل آمراً بالوحدة والاعتصام: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، والحزبية معول هدم لا بناء، تضرب في جدار الأوطان، لتحدث فيه ثغرة أو شرخاً، والواجب أن يكون الإنسان لبنة بناء في صرح الوطن، وعنصراً فعّالاً في المحافظة عليه وعلى ديمومته، ففي الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، وكم جرَّت الحزبية على الأمة في تاريخها القديم والمعاصر من ويلات وكوارث.

وأشعلت فيها بواعث التفرق والتمزق والاقتتال والتحارب، فهي داء وبيل، وشر مستطير، ومن سلبيات الحزبية أنها سبب لبث روح التعصب والكراهية في المجتمع، والإسلام دعا لترسيخ أسباب المحبة والتآلف والتكافل والوئام، ونبذ مسببات الفرقة والتعصب والكراهية والخصام، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

والحزبية كالمغناطيس تجذب إليها الأفكار المضرة بالوطن والمجتمع، فقد تصاحب الحزبية أمراض فتاكة، كالتكفير، وهو داء عضال، تلبست به تيارات شتى على اختلاف اتجاهاتها، فقد نجد مشربين مختلفين في التوجه يفترقان في المسير ويلتقيان في التكفير، ونضرب على ذلك مثالاً بسيد قطب ومحمد ناظم حقاني.

فالأول من رموز الإخوان المسلمين، والثاني من كبار مراجع الطريقة النقشبندية، والأول ينهج الطريقة الحركية، والثاني ينهج الطريقة الصوفية، فخط سيرهما مختلف، ومع هذا فهما يلتقيان في تكفير الحكام والتحريض عليهم، وأقوال سيد قطب التكفيرية معروفة، ونجد لها نظائر عند ناظم حقاني، فالأخير يصف الحكام بالجبابرة والطواغيت، ويحكم على جميع الأنظمة بالفشل.

ويكفر جميع الدول العربية والإسلامية دون استثناء، قائلاً بصريح العبارة: "كل الدول العربية والعجمية كلهم ارتكبوا كفراً صريحاً"، ويشيد بثورات ما سمي بالربيع العربي، ويعتبرها حركة مباركة لإسقاط الجبابرة بزعمه، وهذا المثال لنوعين مختلفين من التوجهات يدل على أن الحزبية متى وُجدت في أي شكل وقالب فإنها عرضة للإصابة بفيروس التكفير، وهو ما حذر الإسلام منه غاية التحذير.

وفي الحديث الشريف: «من قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله»، وهو يدلنا على أمر مهم آخر، وهو أن التصدي للتكفير لا بد أن يكون وفق استراتيجية كاملة شاملة صحيحة، فلا يجدي أن يتصدى حزب لحزب في باب من أبواب التكفير، ثم هو يفتح على الأمة أبواب التكفير من الأسوار الخلفية.

ومن الأمراض التي قد تصاحب الحزبية أيضاً التوجهات الثورية التي تنزع الولاء من الحاكم، وتسقط شرعيته، وتحرض ضده، وقد لا يصاحبها تكفير، فهناك أحزاب ذات أجندات ثورية ولكنها لا تكفر، مثل تنظيم جهيمان المسلح.

فقد كان تنظيماً إرهابياً متطرفاً، وكان باعثه على الإفساد في الحرم الشريف الأجندات الثورية لا الأفكار التكفيرية، لأن جهيمان لم يكفر الحاكم بل أسقط شرعيته بدعاوى أخرى وأباح الخروج عليه، وهو ما يؤكد لنا حقيقة مهمة وهي أن التكفير مع خطورته البالغة فليس هو الخطر الوحيد المحدق بالأمة.

فالاتجاهات الثورية خطر من نوع آخر لا تقل خطراً ولا ضرراً، وقد رأينا كثيرين في العالم الإسلامي وللأسف وقعوا في شراك التوجهات الثورية من أحزاب وأفراد بل ومن مؤسسات دينية في بعض الدول، فأصبغوا على الثورات غطاءً دينياً، وطابعاً شرعياً.

وأخيراً فإن التحديات المحدقة بالأمة توجب أن نكون على درجة عالية من الوعي واليقظة، وأن نحذر من الاتجاهات الحزبية التي تنخر في وحدة الأوطان وتكاتف شعوبها، والحزبي ليس أهلاً للاقتداء، لأنه باختصار ناقص وطنية.