التشكيكات العظمى في التساؤلات الكبرى – حوار مع الكاتب ياسر حارب


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

 

فهذه مناقشة لمقال بعنوان (التساؤلات الكبرى) لكاتبه ياسر حارب، وذلك لِمَا للحوار الهادف والنقد البناء من دور كبير في سد الخلل والارتقاء بالخطابات المتنوعة وتحقيق التكافل المعرفي، وبالخصوص مع من تصدَّر للتحليل والعلاج والنظر في قضايا تمسُّ المجتمع وعَرَض علمه وثقافته على الآخرين وروَّج لهم تصوراته ومفاهيمه، ومن هذا المنطلق كانت مناقشتنا للمقال وفق ضوابط الحوار والمنهجية العلمية، والمجال مفتوح للكاتب أن ينقد ويحاور ويناقش متى شاء.

 

وشروعًا في المناقشة أقول:

 

تدور فكرة المقال حول إبراز مشكلتين هما: الإلحاد والشذوذ الجنسي.

 

وتحريرا لمحل الخلاف وتحديدا لموضع الإشكال أقول:

1- إن النقاش مع الكاتب ليس حول خطر هاتين الآفتين، فخطرهما معروف للصغير والكبير.

2- وليس النقاش في ضرورة التصدي للإلحاد أو الشذوذ أو أي أمر يهدِّد الناس في دين أو دنيا، فهذا أمر لا خلاف فيه أيضا.

3- وليس النقاش حول ضرورة مخاطبة الجيل بما يتناسب مع مستوى تحديات العصر وما تحمله العولمة من أخطار ومهددات والارتقاء بالخطاب الديني إلى المستوى اللائق بهذه التحديات والأخطار كلها، فإن هذا أمرٌ لا خلاف فيه أيضا.

4- وليس النقاش حول أهمية دور الأسرة والمدرسة والمنبر ودور العلماء وطلبة العلم والمثقفين والمجتمع ككل بجميع مكوناته في التعامل السديد مع الشباب ومشكلاتهم وتساؤلاتهم، فإن كل هذه الأمور لا خلاف فيها.

5- وليس النقاش في عِظَم حجم هذه المهمة وما تحتاجه من عمل دؤوب وما تتطلبه من علاج متجدد ومستمر لاحتواء الجيل من أي خطر وبالخصوص فيما يمس الدين والعقيدة والنهوض بهم على كافة المستويات، فإن هذا كلَّه من آكد الأمور الداخلة في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}.

 

وإنما النقاش فيما اشتمل عليه المقال من مضامين تناقض بل تنقض هذه الأهداف النبيلة كما سنبينه.

 

وذلك لأن الإنسان قد يريد العلاج ويضمر له النية الحسنة ولكن لا يحسن تعاطيه، إذْ لكل شيء سببا، والعلاج منوط بالأسباب الصحيحة ولا تكفي فيها مجرد تبييت النية الحسنة، ولذلك كان على من يباشر تحليل المشكلات وإعطاء العلاج المناسب لها أن يتحلى بالمعرفة الكافية التي تعينه على حسن النظر والتمحيص، ليطرح ثقافة إيجابية صحيحة سواء كانت من منظور ديني أو دنيوي، وإلا فكم من مريد للخير لم يبلغه، وكم من شخص ابتلي باختلاط الأوراق، فأراد أن يعالج فأضر، وكم من شخص ابتلي بانقلاب المفاهيم والتصورات، فأصبح يضع السم في العسل ظانًّا أنه يقدم العلاج الناجع الذي يشفي العليل، ومن هنا حذر العلماء من الجهل المركب، وهو مصطلح يُطلق بإزاء الحكم غير المطابق للواقع مع اعتقاد مطابقته، وهو أمر ذو خطورة بالغة على الفرد والمجتمع.

 

ثم لا يخفى أيضا أن النقد الإيجابي وإن كان عنصرا مهما وفعالا في بناء الثقافة الواعية فإن له مقومات رئيسية، من أهمها: عرض النقد بصورة جيدة مثمرة مبنية على حسن التصور والنظرة الواقعية والموضوعية والعلاج الناجع المؤثر بما يحقق الهدف العام من النقد البناء وهو إضعاف السلبيات وتنمية الإيجابيات، وهذا ما افتقره المقال المذكور وللأسف الشديد.

 

وبيان ذلك من وجوه:

 

الوجه الأول: الخلل الكبير والخطير في طريقة العرض.

فإن من أخطر ما يتضمنه أي مقال نقدي خصوصا فيما يتعلق بالمواضيع التي تمس الدين والمجتمع أن يكتفي صاحبه بإثارة الأسئلة التشكيكية الخطيرة في كبريات القضايا والمسائل بل فيما يمس الذات الإلهية وأصول الدين وثوابته ثم يتركها معلقة من دون أدنى معالجة أو إجابات، لا تلويحا ولا تصريحا، لا إجمالا ولا تفصيلا، بل بدلا من ذلك يتوغل ويتفنن في عرض هذا النوع من الأسئلة التشكيكية الخطيرة على القراء، يعيدها، ويكررها، ويملؤ بها مقاله من أوله إلى آخره، ثم يترك بعد هذا كله القارئ في خضم تلك الأسئلة الخطيرة التي تشككه في دينه بل وفي وجود ربه جل جلاله من دون أن يورد له عليها أدنى إجابة.

 

وحينئذ نتساءل:

أليست هذه الطريقة في غاية من السلبية والخطورة والآثار العكسية غير المحمودة؟!!

أليست من جوانب خطورة هذه الطريقة إلقاء الشباب الذين هم عماد المجتمع وركائزه في الحيرة والتشكيك والاضطراب؟!!

 

ولنا أن نتصور: ماذا يكون حال الشاب الذي هو في مقتبل عمره وهو غير محصن علميًّا تمام التحصين إذا أمطرناه بسيل عارم ومخيف من الأسئلة التشكيكية التي تشكِّكه في وجود الله سبحانه وتشككه في الدار الآخرة والبعث والنشور والجنة والنار وتشككه في دين الإسلام وأصوله وثوابته ثم تركناه هكذا بدون أدنى إجابات أو توضيح؟!!

 

ماذا يكون حال هؤلاء الشباب عندئذ؟!

أبهذه الطريقة تكون حماية الشباب؟!!

بأي منطق شرعي أو عقلي تكون حماية الشباب من الحرائق بصبِّ الوقود عليهم؟!!

ثم ما هو الهدف من النقد البناء؟

هل النقد غاية في نفسه بحيث لا يُمارَس النقد إلا بغرض النقد فقط؟!

وهل الجدل غاية في نفسه بحيث لا يُمارَس الجدل إلا بغرض الجدل فقط؟!

وهل رصد السلبيات غاية في نفسه بحيث نملأ المقالات بالسلبيات والمشكلات والمعضلات ونتفنن في عرضها وإظهارها بغرض العرض والرصد فقط؟!!

 

أم أنَّ النقد وسيلة هادفة للتصحيح والتقويم وتقليص حجم المشكلات وإضعافها؟

والجدل وسيلة للوصول إلى الرأي الصحيح السديد وانتقاء أفضل الآراء وأصوبها؟

والرصد وسيلة لعلاج السلبيات وإضعافها والتخلص منها؟

أليس على كل ناقد بصير أن يضع هذه الأهداف والمقاصد نصب عينيه ليستقيم له النظر في الأمور وبلوغ الإصلاح المنشود؟

 

وعلى ضوء هذا نتساءل مرة أخرى: هل صنيع الكاتب منسجم مع قاعدة النقد الهادف والرصد الإيجابي؟!

 

هل من النقد الهادف أيها الكاتب أن تثير تساؤلات تشكِّك في وجود الله سبحانه وفي البعث والنشور والجنة والنار وفي أصول الدين وثوابته ثم تتركها عائمة بلا إجابة واحدة؟!!

هل هذا الصنيع مرضي عند أولي البصائر؟!!

هل هذه الطريقة هي التي ستحل مشكلات من تتحدث عنهم أم أنها ستزيدها نارا واشتعالا واضطراما بل وتوسِّع دائرتها وتزيد من خطرها؟!!

 

إن الكاتب وإن كان لا يقصد التشكيك في تلك المسائل الكبرى غير أن طريقته في العرض تفعل ذلك تماما كفعل السهام المسمومة، ومقاله الذي أمطر فيه القراء بسيل من التساؤلات التشكيكية في الذات الإلهية وفي دين الإسلام ومسلَّمات الدين وثوابته من دون رفع أي إشكال أو إعطاء أي إجابة يفعل ذلك تماما.

 

ومن المعروف لدى العقلاء المنصفين أن المقصد الصحيح والطوية الحسنة والنية الجميلة والغاية النبيلة لا تبرر بوجه من الوجوه الطريقة الخاطئة أبدا تحت أي غطاء كانت.

 

إني أتمنى من الكاتب أن يراجع نفسه ويتأمل في طريقته في عرض المشكلات وليحكم هو عليها بنفسه بمقتضى العلم والإنصاف في خَلوةِ محاسبةٍ ومراقبةٍ ولينظر هل هي طريقة مستقيمة صحيحة في مقياس العلم أم أنها طريقة عكسية سلبية ضارة ومؤذية؟

 

ومن أضرار هذه الطريقة ومفاسدها إضافة إلى كونها ذريعة لفتح أبواب التشكيك والاضطراب في أصول الدين وثوابته ما تتسبَّب به من ردود أفعال شديدة من داخل المجتمع، فإن الكاتب بسوء صنيعه – علم أو لم يعلم – قد فتح على نفسه بابا كبيرا لإساءة الظن به ورميه بالشنائع من قبل الآخرين بما تسبَّبَ به صنيعُه من استفزاز للناس واستعداء لمشاعرهم والمساس بعقائدهم وأصول دينهم بل والتشكيك في وجود ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى، فهذه نتائج صنيعِهِ الوخيمة وإنْ ناقض ذلك قصده ونيته.

 

والعجب أن يسلك أحد مثل هذه الطريقة الشنيعة في العرض والتحليل ثم إذا ما انصب عليه النقد والطعن من قبل الآخرين أدار ظهره إليهم وألقى باللوم على الناقدين والطاعين من دون أن يحمِّل نفسه أدنى مسؤولية من قريب أو بعيد عن سوء العرض والطرح.

ولهذا فأنت ككاتب تتحمل الجزء الكبير في هذا التدافع؛ لتسبُّبك بذلك.

 

نعم لا خلاف حول ضرورة التصدي لأي مشكلة دينية أو خلقية أو اجتماعية أو أي مشكلة سواء كانت إلحادا أو شذوذا أو غير ذلك، إن هذا أمر لا خلاف فيه، غير أن التصدي لا بد أن يكون بالطريقة الصحيحة بالعلم والحكمة وحسن التصور وإدراك الأسباب ووضع العلاج وتنمية الإيمان ومخاطبة العقول ومواجهة تحديات الواقع المعاصر وإزالة الإشكالات ونقضها من جذورها بالحجج والبراهين، مع وضوح في العرض وموضوعية في العلاج، أما طريقة الكاتب فهي أبعد ما تكون عن ذلك.

 

الوجه الثاني: الغلو في التضخيم والتهويل وسوء الظن الفاحش بالمجتمع الإماراتي.

إن من أعجب ما في مقال الكاتب بالإضافة إلى ما سبق: الغلو في النظرة التشاؤمية والتطرف في التقييم السلبي للمجتمع، فقد ادعى الكاتب أن المجتمع خلال أعوام قريبة سينتقل إلى مرحلة التشكُّك من وجود الرب سبحانه والتشكُّك من وجود الجنة والنار والتشكُّك من حرمة زواج الرجل من الرجل والفتاة من الفتاة!!

 

هكذا زعم الكاتب وادعى!!

 

وحينئذ نقول:

أبلغ الغلو في تنزيل الأحكام عند الكاتب إلى هذا الحد الذي يرمي فيه مجتمعنا بالظنون الشنيعة ويدعي بأنه بعد أعوام قريبة سيتشكك في وجود الله وفي وجود الجنة والنار وفي حرمة الشذوذ الجنسي؟!

أهذا هو مجتمع دولة الإمارات؟!!

 

إنني أتمنى من الجريدة الموقرة أن تسارع مشكورة مأجورة إلى حذف هذه العبارات المسيئة إلى المجتمع الإماراتي لما تضمنته من اتهامات بالغة لأبناء هذا الوطن وبناته وقذفهم في دينهم وخلقهم، ولما تضمنته قبل ذلك من إثارة الأسئلة التشكيكية في الذات الإلهية وفي أصول الدين وثوابته من دون أدنى معالجة أو توضيح.

 

وهذه هي عبارة الكاتب بحروفها حيث يقول: “بعد أعوام لن تكون مشكلة المجتمع في هل تقود المرأة السيارة أم لا، ولن تكون مشكلة بناتنا مع الحجاب، ولن تكون مشكلة أولادنا مع الصلاة، بل إنهم سيسألون هل هناك رب أم لا؟ هل توجد جنة ونار أم لا؟ لماذا خُلقنا ولماذا نحن هنا؟ لماذا لا يتزوج الرجل من رجل والفتاة من فتاة؟ لماذا لا يُسمح للمسلم أن يترك دينه؟ هذه الأسئلة وغيرها من التساؤلات الكُبرى التي ستواجهنا قريباً ..”!!!

 

ولو كان الكاتب يتكلم عن فئة بعينها لكان لكل مقام مقال، غير أنه أطلق الكلام وبلغت به الجرأة إلى حد الجزم بالظنون الجائرة وتنزيلها على أبناء هذه الدولة وبناتها.

 

أبالغلوِّ في الحكم على الناس ورمي البنين والبنات بأفظع التهم وقذفهم في ديانتهم وخلقهم يكون حل المشكلات؟!!

 

وهل يرضى الكاتب أن يقول له أحد: إنك ستتشكَّك بعد أعوام قريبة في وجود الله وفي وجود الجنة والنار وستتشكُّك في حرمة زواج الرجل من الرجل والمرأة من المرأة؟!!

وهل يرضى أن يقول له أحد: إن أبناءك سيتشككون في ذلك وإن (….) سيتشككن وإن (….) إلخ؟!!

هل يرضى الكاتب لنفسه ولأهل بيته بهذا الكلام؟!!

 

إني أتمنى من الكاتب أن يفكر في هذا جيدا، وأن يضع نفسه موضع من أطلق في حقِّهم الكلام، ثم ليحكم هو بنفسه بميزان العلم والإنصاف ولينظر هل كلامه كلام رائق مقبول أم أنه من أشنع أنواع الغلو والتطرف في الحكم على الناس وقذفهم في دينهم وخلقهم!!

 

أما حل مشكلات الشباب والنظر في قضاياهم فلا يكون بهذه الطريقة الشنيعة على الإطلاق، بل يكون بالاعتدال والتوسط والمعالجة الموضوعية الصائبة، فإذا كان تجاهل أي مشكلة تمس المجتمع وشبابه هي مشكلة في حد ذاتها، فكذلك الحلول العكسية والتعميمات الجائرة هي مشكلة في حد ذاتها أيضا، فالخطأ هو الميل إلى أحد هذين الطرفين الإفراط أو التفريط وإهمال جانب الوسطية والاعتدال.

 

الوجه الثالث: الغلو في الحكم على المجتمعات الإسلامية.

أما غلو الكاتب في الحكم على المجتمعات الإسلامية فيذكرني بكلام سيد قطب في نظرته السوداوية للأمة الإسلامية، حيث رمى الكاتب الأمة الإسلامية من دون أدنى استثناء بالانفصام عن الواقع، وذلك في قوله: “لا توجد أمة منفصلة عن واقعها كأمتنا الإسلامية”!!

ولا أدري هل استقرأ الكاتب أمم الأرض جميعها في الشرق والغرب على كثرتها وتشعبها فلم يجد من بينها أمة أشد انفصاما عن الواقع من الأمة الإسلامية؟!!

لا أدري لماذا يصر الكاتب ولو بنية حسنة على لغة التعميم عند إطلاقه الأحكام السلبية ضد الأمة الإسلامية ومجتمعاتها؟!!

وهذا أيضا نظير ما سلف منه من التعميم عند قذفه لأبناء دولة الإمارات وبناتها بأنهم بعد أعوام قريبة سيتشككون في وجود الله سبحانه وسيتشككون في حرمة زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة!!

 

الوجه الرابع: الادعاء بأن الفقه اليوم لا علاقة له بأحكام العلماء السابقين.

وهذه من المشكلات العويصة عند بعض الكتاب أو المثقفين ممن ليسوا متخصصين في العلوم الشرعية وهي التصدُّر للتنظير لمسائل الدين وقضاياه وإصدار الفتاوى والأحكام الدينية فيه واختراع القواعد الشرعية ونسبتها إلى الدين، من دون أي مراعاة لجانب التخصص الذي هو مطلب أساسي في العلوم الدينية والدنيوية بأنواعها، وهذا ملاحظ بكثرة في العديد من مقالات الكاتب، ولو شئنا أن نسرد أمثلة من ذلك لطال بنا المقام.

 

ولكن نكتفي بما ورد في هذا المقال، ومن ذلك ما تجرأ به الكاتب من فتيا بأن الفقه الإسلامي المعاصر لا علاقة له بأحكام العلماء الأولين، بدعوى أن أحكامهم إنما جاءت على مقياس واقعهم، وأن لكل زمان واقعا وأحكاما.

 

والكلام على هذا من جوانب:

الجانب الأول: أن إطلاق هذا الكلام بصيغة التعميم معولُ هدمٍ يقطع صلة الأمة بتاريخها وحضارتها ورجالاتها وعلمائها، ويدل على ضحالة المعرفة بمسائل الدين وأحكامه، فمن بدائه ما هو معلوم أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وأن علماء المسلمين يبيِّنون أحكام هذه الشريعة الغراء، فيفسرون القرآن الكريم، ويشرحون الأحاديث النبوية، ويعلِّمون مسائل الحلال والحرام، فهل الصلاة تتغير من زمان إلى زمان بحيث نجعل لكل زمان صلاة خاصة تختلف عن الزمن السالف؟!! وهل نفصِّل لكل زمان أحكاما خاصة للعبادات والمعاملات والعقائد؟!

 

الجانب الثاني: أن الكلام السابق لا يعني بحال من الأحوال أن تتساهل الأمة أو تقصِّر في إخراج طائفة من العلماء العدول الأثبات الذين يقومون بواجب التعليم والتفقيه وتقديم الخطاب الديني المناسب للغة أبناء العصر وحاجاته، فهذا مطلب ضروري لا غنى للأمة عنه، كما أن هذا لا يعني أيضا أن نطالب هؤلاء بأن يكونوا بمعزل عمن سبقهم من العلماء، بل الأمر دائر على قاعدة الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهذا هو التوسط والاعتدال بين طرفي الإفراط والتفريط.

 

الجانب الثالث: أن ذلك لا يعني أيضا الانعزال عن الواقع وقطع الصلة بقضاياه وإهمال النظر في نوازله ومستجداته ومسائله المعاصرة، بل إن الاجتهاد في القضايا المعاصرة باب أصيل من أبواب الشرع الحنيف، ولم يزل علماء الأمة عبر تاريخها الطويل يؤصلون لهذا الباب في مؤلفاتهم غاية التأصيل ويعتنون به غاية العناية ويذكرون ضوابطه وقواعده وآلياته، ومن شاء أن يعرف فليفتح أي كتاب في أصول الفقه ليجد هذا الباب ماثلا للعيان مُنبئًا بكل وضوح عن تلك الجهود الجليلة الحثيثة وتلك العقول النيرة المستنيرة التي ضبطت مناهج الفهم والاستنباط، وأحكمت أبوابه ومسائله، وبينت أن المسائل لا تنحصر، وأن لكل واقع مسائل، وأنه لا مناص فيها عن الاجتهاد، فلو تكلم الكاتب عند هذا الحد لكان نطق بالصواب، غير أنه جنح إلى التعميم، وهي عادة سيئة في كثير من مقالات الكاتب ولا أدري لماذا يصر عليها مع أنها أوقعته في مزالق ومضايق، وقد وقع في شراكها مرات عديدة في مقاله هذا.

 

الجانب الرابع: أنَّ من تناقض الكاتب العجيب استدلاله هو نفسه في كتاباته بفلاسفة الغرب ومفكريه السابقين والاستدلال بأقوالهم في معرض الحديث عن مشكلات الواقع وقضاياه، وعدم شعوره بأي غضاضة في ذلك، فهل أصبح ذكر أقاويل هؤلاء تنوُّرا وانفتاحا وأصبح ذكر أقاويل علماء الأمة وأئمتها مشكلة ومعضلة؟!!

لا أدري بأي ميزان يزن الكاتب!!

 

الجانب الخامس: أن المجتمع الإماراتي قام على الأسس المتينة من احترام أهل العلم والفضل وبالخصوص علماء المذاهب الأربعة وعلى رأسهم الأئمة الأربعة المعروفون ( أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل ) والاعتراف لهم بالفضل والرسوخ في العلم والديانة، ولم يزل مؤسسو هذه الدولة وقادتها ينوِّهون بتاريخ الأمة وعراقتها ويؤكدون كل التأكيد على الصلة التي لا تنقطع بين الأمة المعاصرة وجذورها وأصالتها ورجالاتها السابقين الأفذاذ مع التأكيد أيضا على الريادة والصدارة في الواقع المعاصر، فأين كان الكاتب من هذا كله حينما أفتى بما أفتى به؟!!

 

وأخيرا وبعد ما تيسر من النقاش الذي تناولنا فيه بعض ما أورده الكاتب في مقاله أقول:

إن من أولويات التفاعل الإيجابي مع الواقع: معايشة قضاياه المعاصرة بحق وحقيقة، ومن ذلك تسخير الكلمة في الذود عن الوطن وقيادته ومجتمعه ضد السهام الحاقدة، فهذا مطلب ديني ووطني يمس الواقع المعاش، والعجب كل العجب أن يسخِّر المثقف قلمه في نشر التصورات الخاطئة والتهويلات المفرطة ثم يضعف هذا القلم في مقام الدفاع عن الوطن ورد كيد المغرضين!!

 

فيا ليت الكاتب سخَّر قلمه في الدفاع عن الوطن بما يليق بحجم ما تعرض ويتعرض له من هجمات وطعونات.

أين هو من معايشة الواقع وحسن التعامل مع قضاياه؟!!

أين هو من ترسيخ ثقافة الدفاع عن الوطن واستيفائها حقها؟!

أين هي جهوده في التصدي للتنظيم الإخواني الداخلي والخارجي والذي شن الهجمات الحاقدة ضد الوطن وقيادته وأبنائه؟!!

أين هي جهود الكاتب في التصدي للمخاطر الفكرية التي تهدد الشباب من الثقافات التكفيرية والتحريضية والحزبية؟!!

وهل يليق بكاتب يسخِّر قلمه في أمور قد تضر أكثر مما تنفع ثم لا يؤدي دوره المطلوب في باب الدفاع عن الوطن إلا ضمن إشارات يسيرة؟!!

بل العجب أن نجد منه بدلا من ذلك الثناء والمديح للثورات في مواضع عدة والتصريح بأنه من المؤمنين بالربيع العربي وأنه لا يشكك فيه والتصريح بأن الثورات مخاض الحريات وأنها ولادة قيصرية لحياة جديدة والطعن في مسألة منع الخروج على الحكام واعتباره ذلك خطابا شموليا تشدديا!!

فهل هذا هو معايشة الواقع؟!!

وهل هذا هو التعامل الصحيح؟!!

 

أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يبصِّرنا بالحق والهدى، وأن ينير قلوبنا وعقولنا ويشرح صدورنا، وأن يوفقنا جميعا للذود عن ديننا ووطننا وقيادتنا ومجتمعنا والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.