هل هناك أمراضٌ معديةٌ أم لاعدوى؟


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 

 بسم الله الرحمن الرحيم

ما معنى حديث: " فرّ من المجذوم فرارك من الأسد "([1]) .

* جواب هذا السؤال يتوقف على تنقيح الكلام في الأحاديث الواردة في نفي العدوى على العموم والجمع بينها وبين ما ورد في مخالفتها.

[ فقد ورد في نفي العدوى أحاديث منها ]

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا عدوى ولا طيرةَ ولا صَفَرَ ولا هامة " فقال أعرابي : ما بال الإبل تكون في الرَّحل كأنّها الضباءُ ، فيخالطها البعيرُ الأجربُ فيُجربها؟ قال:" فمن أعدى الأول؟ "([2]) .

فالعدوى المذكورة نكرةٌ في سياق النفي، فتفيد العموم كما تقرر في الأصول.

2- قال صلى الله عليه وسلم: لا يُعدى شيءٌ شيئاً، فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا صفر([3]).

والأحاديث في نفي العدوى كثيرةٌ في الصحيحين والسنن وغيرهما.

[ أما ما ورد في الأمر بعدم مخالطة بعض المرضى فمنها ]

1- حديث" فرّ من المجذوم فرارك من الأسد" ([4]).

2- حديث: أَبِي سَلَمَةَ: سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، بَعْدُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الأَوَّلِ، قُلْنَا: أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ: «لاَ عَدْوَى» فَرَطَنَ بِالحَبَشِيَّةِ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ حَدِيثًا غَيْرَهُ([5]).

 قال: النووي رحمه الله: الممرض صاحب الإبل المِراض والمصحُّ صاحب الإبل الصحاح([6]).

3- حديث الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه قال: كان في وفد ثقيف رجلٌ مجذومٌ، فأرسل إليه النبي صلي الله عليه وسلم" إنا قد بايعناك فارجع" ([7]).

4- حديث الطاعون  "أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا فَقُلْتُ : أَنْتَ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ سَعْدًا ، وَلاَ يُنْكِرُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ([8])

    وقد اختلف العلماء في الجمع بين نفي العدوى وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح ، والأمر بالفرار من المجذوم والنهي عن القدوم على بلاد الطاعون ([9]). وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه الله أربعة أقوال:

1- أن هذه الأمراض لا تُعدي بطبعها ، لكنّ الله تعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سبباً لإعدائه مرضه ، وقد يتخلف ذلك عن سببه كما في غيره من الأسباب .

 قلت، وهذا القول ذهب إليه ابنُ الصلاح وأحمد شاكر والشيخ الألباني والشيخ حافظ الحكمي رحمهم الله.

2- أن نفي العدوى باقٍ على عمومه، والأمر بالفرار من باب سد الذرائع، لئلا يتفق للذي يخالطهُ شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداء لا بالعدوى المنفية ، فيظن أن ذلك كان بسبب مخالطته، فيعتقدُ صحة العدوى فيقع في الحرج، فأمر بتجنّبه حسماً للمادة وسداً للذريعة، لا إثباتاً للعدوى .

  قلت وهذا القول ذهب إليه ابن حجر رحمه الله في النزهة صـ34

3- أن إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوصٌ من عموم نفي العدوى فيكون معنى قوله ( لا عدوى ) أي إلا من الجذام ونحوه، فكأنه يقول: لا يُعدي شيء شيئاً إلا فيما تقدم أنه يُعدي ، قاله القاضي أبو بكر الباقلاني وأيده الشوكاني وعزاهُ إلى مالك .

4- أن الأمر بالفرار رعايةٌ لخاطر المجذوم، لأنه إذا رأى الصحيح تعظُم مصيبته وتزداد حسرته. قال أحمد شاكر: وهو أضعف المسالك كما هو الظاهر.

الراجح هو القول الأول ويتضمن :-

* أن نفي العدوى مطلقٌ على عمومه وأن المراد أن المرض لا ينتقل بطبيعته من جسد إلى آخر ، وهذا معنى حديث ( فمن أعدى الأول؟‍  وحديث  لا يُعدي شيء شيئاً .

* وأما مخالطة الأجرب السليم ، فهو سبب من الأسباب التي جعلها الله عز وجل لانتقال المرض إلى السليم ، وقد ينتقل وقد لا ينتقل حسب مشيئة الله تعالى ، بدليل أن الأعرابي عندما قال أن البعير الأجرب يختلط بالسليمة فينتقل الجرب إليها ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فمن أعدى الأول؟‍  ولم يقل له أنت لم تفهم الحديث)  فبهذا الجواب نفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نفى العدوى إنما نفى العدوى التي تنتقل بذاتها ولمجرد المخالطة .

* فإذا فهم المسلم بأن هناك عدوى في بعض الأمراض، وهذه حقيقة علمية ، بل وشرعية ، لا يمكن إنكارها لحديث  فر من المجذوم فرارك من الأسد  وحديث  ارجع فقد بايعناك وحديث الطاعون.

*  وقد ثبت من العلوم الطبية الحديثة أن الأمراض المعدية تنتقل بواسطة المكروبات ويحملها الهواء أو البصاق أو غير ذلك على اختلاف أنواعها وأن تأثيرها في الصحيح إنما يكون تبعاً لقوته وضعفه، وكل ذلك بمشيئة الله تعالى وإرادته وأمره، فهو مالك الخير والشر وبيده النفع والضّر.

* ولا يكون الموحِّدُ تاركاً التوكل أو ناقصه بمجرد فعل الأسباب النافعة وتوقي المضرّةِ ، وحرصه على ما ينفعه بدليل ارجع فقد بايعناك وبدليل نهيه صلى الله عليه وسلم عن القدوم على البلاد التي بها الطاعون وعن الخروج فراراً منه، فإن في القدوم عليه تعرضاً للبلاء وتسبباً للأمور التي أجرى الله تعالى العادة بمضرَّتها ، وفي الفرار منه تسخّط على قضاء الله وارتيابٌ في قدره، ولا ملجأ من الله إلا إليه ، فلذلك فالمؤمن الصابر المحتسب الماكث في بلده له مثل أجر الشهيد، لما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله  صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء ، فجعله رحمة للمؤمنين ، فليس من عبدٍ يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلمُ أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له  إلا كان له مثل أجر الشهيد، فخرج بهذه الأوصاف : من مكث في أرضه مع نقصان توكله وضعف يقينه فليس له هذه الفضيلة، ومع هذا فلا يحل له الفرار منه لعموم النهي وله أجرٌ على امتثال الشرع بحسب نيته، وإنْ خرج فراراً منه فهي معصية أضافها إلى ارتيابه وضعف يقينه والعياذُ بالله .

الخلاصة في الجواب

أنه لا عدوى بذاتها كما يقول أهل الجاهلية لحديث ( لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ) إلا بمشيئة الله عز و جل وإرادته فقد تقع بسبب المخالطة و قد لا تقع.

ومن أراد مراجع البحث فهي :

1- تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ت376هـ ، المسألة العاشرة.

2- فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر 7/109.

3- إتحاف المهرة بالكلام على حديث لا عدوى ولا طيرة ، للشوكاني.

4- معارج القبول لحافظ أحمد حكمي ـ باب الإيمان بالقضاء والقدر.

5- شريط رقم(696) من الهدى والنور للشيخ الألباني.

 

 


 

([1]) صحيح البخاري(109)

([2]) صحيح البخاري(241) صحيح مسلم (464 )

([3])رواه أحمد و الترمذي و هو في صحيح الجامع الصغير (7733)

([4])صحيح البخاري(109)

([5]) صحيح البخاري(5771)

([6])شرح مسلم (14/468)

([7]) صحيح مسلم (14/479)

([8]) صحيح البخاري(5420)

([9])تدريب الراوي للسيوطي (2/197)