لا تنس فضل الله ولا تغتر بنعمة الله


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد؛

 ففي هذه النسائم الإيمانية نقف معكم وقفة في معنى عظيم، وهي أن الإنسان لا ينسى فضل الله عليه، فالمؤمن العاقل يعلم أن ما أعطاه الله إياه في هذه الدنيا من الله، فالرزق من عنده والمال من عنده والقوة من عنده سبحانه وتعالى، فهو بفضل الله سبحانه وتعالى إما اختبارا يختبر الله به الإنسان، فمن أطاعه وشكر نعمَه دامت هذه النعم، ومن عصاه وجحد نعمه زالت هذه النعم.

 وقد ضرب الله سبحانه وتعالى لنا مثلًا عظيمًا في القرآن وحوارًا جميلًا بين من اغتر بالنعمة، ونسي فضل الله سبحانه وتعالى حتى يتدبر العاقل ويتفكر ما عند الله سبحانه وتعالى، فيؤدي حقه، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف [32-44] في ذلك الحوار الجميل: ﵟوَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِﵞ  كافر ومؤمن ﵟجَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِﵞ وهو الكافر جعل الله له جنتان ﵟمِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗاﵞ يعني هذه البساتين كانت بساتين مثمرة جميلة ﵟكِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَاﵞ فيها من الثمر الشيء العظيم ﵟوَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ ﵞأي لم ينقص الله سبحانه وتعالى عليه شيء من ثمرها وزد على ذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﵟوَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗاﵞ أنهار تجري تحت هذه الجنان والبساتين ﵟوَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞﵞ مستمر دائم ﵟفَقَالَﵞ هذا الذي هو صاحب الجنتين ﵟلِصَٰحِبِهِۦﵞ المؤمن الفقير ﵟوَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓﵞ على طريقة التجبر والتفاخر والغرور مستهزءًا به متفاخرًا بما عنده   ﵟأَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗاﵞ، لاحظ الموقف الذي يؤلم قلب الفقير، كيف عامله هذا الغني بهذا الأسلوب الاستحقاري، يفاخره بذلك المال وبتلك العشيرة وهذا من فضل الله عليه لكن هو يظنه أنه قد أوتيه بقوته وجبروته ﵟوَدَخَلَ جَنَّتَهُۥﵞ دخل هذا الكافر هذه الجنة وأَدخل معه المؤمن الفقير صاحبه وكان في حال دخوله هذه الجنة ﵟجَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦﵞ بالكفر والتكبر والتفاخر والعجب، فقال من شدة غروره: ﵟمَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗاﵞ يعني هذه الجنان التي عندي يستحيل أنها تبيد وتفنى وتزول، لا ويقول أيضًا: ﵟوَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗﵞ ليس هناك بعث ورجوع إلى الله سبحانه وتعالى ﵟوَلَئِن رُّدِدتُّﵞ يعني لو فرضنا على حسب وزعمك أنت أيها المؤمن أننا سنرجع إلى الله سبحانه وتعالى  ﵟلَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗاﵞ لاحظ الغرور وسوء الاعتقاد أين أوصله ﵟقَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓﵞ وهو يحاوره بأسلوب لطيف وجميل ﵟأَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖﵞ أينسى الإنسان أن يكون ترابا إذا نسي أن كان ترابا وخلق أصله من تراب أنسيت أن كنت نطفة قال ﵟثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖﵞ ماء حقير ﵟثُمَّ سَوَّىٰكَﵞ وعدلك وصورك وجملك وجعلك ﵟرَجُلٗاﵞ أتنسى هذا كله؟ وتنكر البعث وتتجبر قال هذا المؤمن:  ﵟلَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٣٨ﵞ فلاحظ الثبات في هذا الموقف، لاحظ قيمة التوحيد والعقيدة الصحيحة في فتنة هذه الدنيا مع ما أنت فيه ومع ما أنا فيه من فقر لكني مؤمن بالله موحد له مقر بأنه ربي خالقي ورازقي ولا أشرك به أحدا مهما كان، فلا تصرف ولا أصرف عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، ثم قال له موجها: ﵟوَلَوۡلَآﵞ أي هلا ﵟإِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَﵞ عند إعجابك بها ﵟمَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚﵞ هذه ليست بقوتك ولا بحولك، وإنما من عند الله سبحانه وتعالى، قال: ﵟإِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا ٣٩ﵞ فلاحظ هنا الدنيا مع المعصية والتكبر والشرك بالله، وهنا لا دنيا عند المؤمن لكن عنده توحيد الله جل وعلا، فدعا قال: ﵟفَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗاﵞ صواعق ﵟمِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا ٤٠ﵞ أرض ملساء لا تثبت عليها قدم ﵟأَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗاﵞ الماء لا يثبت فيها يغور في أرضها ويتسرب ﵟفَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا ٤١ﵞ إن ابتليت بهذا الابتلاء فمن ينجيك؟ ومن الذي يدفع تلك الصواعق ومن الذي سيأتي لك بهذا الماء؟ ارجع واتق وخف لكنه أبى حتى وقع ما كان يخشاه قال: ﵟوَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦﵞ يعني أتى ورأى ثمره قد هلك  ﵟفَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِﵞ ندما وحسرة على ما رآه ﵟعَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَاﵞ في عمارة جنته كم صرف عليها وكم تعب عليها أتاها هذا الإعصار فدمرها وأذهبها، فرآها خاوية ساقطة لا ثمر ولا شجر على عروشها ويقول انظروا الندم  ﵟيَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٤٢ﵞ ندم عظيم أن أوصله شركه لئن خسر هذه الدنيا مع خسارته للآخرة ﵟوَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ٤٣ﵞ من ينصره من دون الله سبحانه وتعالى؟  ﵟهُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗاﵞ هو خير من يعطي الثواب ﵟوَخَيۡرٌ عُقۡبٗا ٤٤ﵞ أي خيرا عاقبة لأهل الإيمان، فمهما طال الزمان فالعاقبة لأهل الإيمان، هذه القصة فيها عدة فوائد:

 الفائدة الأولى: ليس العطاء الدنيوي دليل على الإكرام، كما أن المنع من الدنيا ليس دليل الإهانة كما قال الله سبحانه وتعالى: ﵟفَأَمَّا ٱلۡإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ ١٥ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ ١٦ كـَلَّاﵞ ﵝالفَجۡر : ﵕﵑ - ﵗﵑﵜ ، ليس هذا المعيار إذا أعطي الإنسان فهو مقرب إلى الله، وإذا لم يعطى فهو بعيد عن الله، فإن الله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا لمن أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فليس القياس العطاء وإنما القياس الحقيقي عطاء الرزق العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح.

 الفائدة الثانية: أن الإنسان لا يظن أن ما عنده من الدنيا بقوته وجهده، نعم هو يفعل السبب لكن لا بد أن يعرف أن هذا سبب قد يحصل وقد لا يحصل، فهذا السبب لا يجعله يغتر، لا يجعله ينسى فضل الله سبحانه وتعالى، لا يجعله ينسى منّة الله سبحانه وتعالى عليه، فالعطاء من عنده والرزق من عنده سبحانه وتعالى: ﵟإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ ٥٨ﵞ ﵝالذَّارِيَات : ﵘﵕﵜ.

 الفائدة الثالثة: أن من مَنّ الله عليه بالمال والخيرات لا يتكبر ولا يستحقر الآخرين، ولا يكسر قلوب الفقراء والمساكين، بل من زاده الله سبحانه وتعالى فضلًا، وزاده الله سبحانه وتعالى مالًا وزاده الله سبحانه وتعالى جاهًا، ينبغي عليه بل يجب عليه أن يكون أكثر تواضعًا، وأكثر عطاء ورحمة، وأكثر نفعًا للفقراء والمساكين، أما أن يعطى المال والخير ويتكبر فهذه في الحقيقة نعمة حولها إلى نقمة.

 الفائدة الرابعة: أن الخلل العقدي يترتب عليه خلل عملي وأخلاقي، هذا مهم جدًا، ضعف الإنسان باليوم الآخر يجعله يظن أن هذه الدنيا لا تفنى ولا تبيد، فينسى الموت الذي هو يقين وينسى حقيقة أو يتناساها وهو لا بد أن يرد ويشرب من ذلك الكأس.

الفائدة الخامسة: أن توحيد الله أعظم نعمة، وأجل قيمة وأن الشرك بالله أشدُّ مصيبة، وأعظم ذنب، فالإنسان مع توحيد الله غني، الإنسان مع توحيد الله قوي، الإنسان مع توحيد الله سبحانه وتعالى سعيد، أما الإنسان بلا توحيد الله سبحانه وتعالى ذليل فقير في الحقيقة وضيع منكسر وإن كان ظاهره الغنى لكنه في الحقيقة مآله إلى الانهيار والانكسار.

 الفائدة السادسة: أنه إذا فات الفوت لا ينفع الصوت، الدنيا حفظكم الله لا تدوم لأحد، فإذا فاتت وانهارت وقد نسي العبد ربه وطاعته الله سبحانه وتعالى فيكون قد خسر خسارتين: ﵟوَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ ١١ﵞ ﵝالحَج : ﵑﵑﵜ ، أهل الدنيا الذين هم متوغلون فيها، وينسون الله سبحانه وتعالى، ينسون طاعة الله سبحانه وتعالى، ينسون العطاء الذي يجب أن يعطونه للفقراء والمساكين، ليس كل من كان عنده مال فهو مذموم لا، بعض الصحابة كانوا أغنياء وعندهم من المال الشيء الكثير، لكن كانوا من أهل الآخرة لم يكونوا من أهل الدنيا صاحب الدنيا يغتر بها، فيراها وقد أخضرت فتحلو في نظره، ثم تهيج فيراها مصفرة ثم تكون حطامًا، فالإنسان ينبغي عليه حفظكم الله أن يعتبر بمثل هذه القصص حيث أنه بعد تلك الجنات ﵟفَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٤٢ﵞ ﵝالكَهۡف : ﵒﵔﵜ

 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا وإياكم، وأن يبارك لنا ولكم في أموالنا وأولادنا وزوجاتنا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأن يحفظ بلادنا وأن يوفق أمرنا لكل خير، وصلى الله على نبينا محمّد.