ليتك تكون مثلها


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 
القسم: 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فإنه من جميل القصص، وعظيم المواقف التي ينبغي للإنسان أن يقف على معانيها، وينهل من معارفها قصة سليمان عليه السلام،

حيث قال الله سبحانه وتعالى: ﵟوَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ ١٧ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ١٨ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٩ﵞ ﵝالنَّمۡل : ﵗﵑ - ﵙﵑﵜ.

 هذه قصة عظيمة حوت مواقف جليلة

 الموقف الأول: أن سليمان عليه السلام أوتي من الملك ما لم يؤت أحد بعده ﵟلَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٣٥ﵞ ﵝص : ﵕﵓﵜ ، هذا الملك لا ينبغي لأحد بعده عليه الصلاة والسلام، ﵟوَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَﵞ يعني هم على صفوف مرتبة، والحشر يدل على أن الجموع كانت كبيرة جدا، على غير ذلك فيما سخر الله له من الريح التي تحمله حيث يشاء، مع هذا كان سليمان شاكرا، يطلب الله سبحانه وتعالى أن يعينه على العمل، وأن يلحق بالصالحين، لاحظ هنا ملك سليمان، ولاحظ ملك قارون التي كانت مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، ملك قارون ليس بشيء عند ملك سليمان عليه السلام لكن سليمان كان شاكرًا وقارون كان متكبرا جاحدًا، ﵟقَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓﵞ ﵝالقصَص : ﵘﵗﵜ ، فالنعم إن أوتيت للصالحين فهي خير على خير، فتصبح هذه النعمة نعمة حقيقية، وإن أعطيها غير الصالح كانت في حقه نقمة، كما قال رسول الله :نعم الْمَالُ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"([1]) وتأمل سكون النعم مع الشكر، وفسادها مع الجحود والكفر، فقارون قال الله سبحانه وتعالى فيه: ﵟفَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٣٦ﵞ ﵝص : ﵖﵓﵜ ، فسليمان أن مد الله سبحانه وتعالى في عمره وملكه، فكانت نهاية هذا عز، ونهاية قارون الذل والتاريخ يكتب، هكذا بعض الناس مع النعم تعطيه القليل من النعم فيرى القليل كثيرًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ، لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ"([2])، وبعض الناس إن أغدقت عليه وصببت عليه النعم صبًّا لا تجده إلا جاحدًا حاقدًا حاسدًا لا يرى هذه النعم ولا يشكر لذوي الفضل فضلهم، بل هو كل ما تعطيه يتمرد وكل ما تعطيه يجحد.

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته   ***   وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

الموقف الثاني: أن الدنيا هذه مهما عظمت وكبرت وجملت فإنها زائلة، وإنما ثباتها بالشكر، وقد تزول بل لا بد من زولها، لذلك سليمان عليه السلام شكر الله، وسأله أن يعمل صالحًا وسأله النعيم الذي لا يزول ﵟوَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَﵞ أي في الجنة ﵟفِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَﵞ ولاحظ أنه طلب الجنة مع أنه كان في نعيم عظيم، فمهما جملت هذه الدنيا وعظمت واخضرت فهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

الموقف الثالث: وفاء النملة، فإن النملة وفيَّة لمجتمعها عندما أقبل سليمان بجنوده كان من السهل أن تفر لوحدها، ولكنها ناصحة صادقة وفيَّة لمجتمعها فنادت  ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُﵞ حتى يلتفت إليها النمل ﵟلَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥﵞ هناك جند عظيم سيأتي يمر عليكم وأنتم صغار   ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥﵞ بينت لهم الخطر القادم، وبينت لهم مكان الإيواء الذي يبعدهم عن الخطر، ثم اعتذرت لسليمان وجنوده  ﵟوَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَﵞ ما أحوجنا لأناس في المجتمع يكونون بمثل هذه الصفات، ينادون بالنصح والخير لمجتمعهم، يخافون على وطنهم وعلى بيئتهم وعلى أهلهم، يحرصون على إبعاد الناس عن مواطن الشر والفتن والضرر، ما أحوجنا لأناس ينصحون ويعذرون، هؤلاء قلوبهم كبيرة ونفوسهم عظيمة، ليكن الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المُؤْمِن مَثلُ النَّحْلَة لاَ تَأْكُلُ إلا طَيِّبًا، وَلاَ تَضَعُ إلا طَيِّبًا»([3]) ، ليكن الإنسان مثل هذه النملة نشيطًا حريصًا وفيًّا صادقًا ناصحًا، لكن للأسف بعض الناس مثل الذباب، لا يعيش إلا عشرين أو ثلاثين يومًا لكنه يطنك طنًّا ويوسعك إزعاجًا ويؤذيك إيذاءً حتى أنك تملُّه وتملُّ الجلوس في المكان الذي هو فيه، فبعض الناس كالذباب يظهر في مواقع التواصل الاجتماعي فيضج الناس ضجًا بشبهاته، وإيذائه وبذيء كلامه وسيء ألفاظه، وطرح الإشكالات التي تضر بالمجتمع، وتشق الصف ثم يذوب وينتهي، ويخلف وراءه ما يخلف من الفكر والفساد والشبه في قلوب الناس.

 إذًا ليكن الإنسان حريصا على مجتمعه كما كانت تلك النملة حريصة على مجتمعها، لا تسبقك نملة إلى الخير.

الموقف الرابع: من المهم جدا أنك لا تنس والديك في دعائك وفي ذكرك لهم بالخير وتصدق عنهم:  ﵟرَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّﵞ كما كان بعض أهل العلم ما دعا في سجوده إلا وقرن دعاءه لوالديه بالخير والرحمة ولمعلمه، وباب بر الوالدين والدعاء لهم في القرآن شيء عظيم واضح بيِّن، أخفق بعض الشباب إخفاقًا عظيمًا وأخطئوا خطأ كبيرًا جدًا عندما عاملوا آباءهم بالسوء، وبذيء الألفاظ، والنظر باحتقار، والكلام معهم باستهزاء، والداك كن لهم فراشًا، وكن لهم أرضًا لو استطعت أن لا يمشوا بأقدامهم إلا على ظهرك فاجعل ظهرك لهم جسرًا، واجعل مالك لهم نافعًا، لا يكن آخر من تفكر فيه من كان في قلبه أنت أول من يفكر فيك.

الموقف الخامس: من المهم أن يعمل الإنسان الأعمال الصالحة ﵟوَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُﵞ شكر النعم ليس فقط بالقول الحمد لله وشكرًا وأشكر الله سبحانه وتعالى على النعم، الشكر له ثلاثة أركان: اعتراف القلب وذكر اللسان والعمل بمقتضى تلك النعم، كيف يشكر الإنسان نعمة المال وهو يبذره ويسرفه بالحرام، كيف يكون الإنسان شاكرًا لصحته وقوته وهو يسعى وراء الحرام، أو معاكسة النساء، أو شرب الخمر أو غير ذلك من المحرمات، ليس هذا بشكر ﵟوَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ١٣ﵞ ﵝسَبَإ : ﵓﵑﵜ.

 أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين، وأسأله سبحانه وتعالى أن يحفظنا وإياكم، وأن يغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وأن يحفظ ولاة أمرنا، وأن يحفظ بلادنا، وصلى الله على نبينا محمّد.

 

 


 

([1])   رواه البخاري في الأدب المفرد (٢٩٩)

([2])  رواه أحمد في المسند (١٨٤٤٩)

([3]) رواه ابن حبان(247)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (355).