مهددات الخطاب الديني المعتدل [2/2]


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

تناولنا في الحلقة الماضية بعض مهددات الخطاب الديني المعتدل التي قد تحرف الداعية أو الشاب عن الطريق القويم في إرشاد نفسه والآخرين، ونكمل إضافة إلى ذلك، المهددات الأخرى للخطاب الديني على النحو التالي:

 

خامساً؛ تقديس الأشخاص والغلو فيهم، وهي آفةٌ خطيرةٌ تورث الداعية أو الشاب التعصب لقائلٍ معيَّن، سواء وافق الصواب أو خالفه، وهو سلاح تستخدمه التنظيمات الإرهابية لإخضاع الشباب لها، وقد يوهمونهم بأن زعماء هذه التنظيمات من المجاهدين الأبطال الذين لا ينطقون إلا بالشرع، وقد ينشرون سيراً وتراجم خدَّاعة لهؤلاء لربط الشباب بهم.

 

ومن هنا غرس العلماء مبدأ عظيماً لسد هذا الباب، والذي تمثَّل في قول الإمام مالك رحمه الله: «كلُّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وحذروا من التعصب للآراء، وبيَّنوا فضيلة الرجوع عن الخطأ وتصحيحه، وحذَّروا من الانخداع بالأدعياء مهما أحاطوا أنفسهم بالمدائح وهالات التقديس، وكلام الأئمة في هذه المعاني كثير.

 

سادساً؛ التعالم والاغترار بالنفس، وهي آفةٌ خطيرةٌ تجعل الداعية أو الشاب يتوهم أنه بلغ رتبةً تجعله في معزل عن أفهام العلماء، مستغنياً بنفسه عنهم في فهم الدين. وهذا ملاحظٌ في أولئك الذين يدعون للأفكار الإرهابية، فإنك تراهم أغماراً دخلاء على العلم، قد ألصقوا بالدين أموراً فاسدةً دخيلة. ولا يخفى أن للتعالم ثمرات وخيمة، منها:

 

الكلام في الدين بغير علم، والجرأة في الفتوى من دون تأهُّل، وسوء الظن بالعلماء المعتبرين والتعالي عليهم، والخوض في النوازل وكبريات القضايا من دون تعقُّل ولا رويّة، والجرأة في مسائل التكفير والدماء، كما حدث من الخوارج الأوائل. ولذلك جاء التحذير من هذه الآفة الخطرة، فقال الله تعالى: {ولا تقْفُ ما ليس لكَ به عِلم}، وقال سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}..

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبَي زورٍ»، وقيل أيضاً: «أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان». وقال بعض العلماء:

 

«لا آفة على العلوم وأهلها أضرّ من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنُّون أنهم يعلمون، ويُفسدون ويقدِّرون أنهم يصلحون»، ولذلك نصَّ العلماء على أنَّ لوليِّ الأمر أن يمنع من الفتيا من ليس أهلاً لها، حماية للدين من التحريف والمجتمع من التضليل.

 

سابعاً؛ الجهل بمقاصد الشريعة وإهمال رعاية الضروريات الخمس، فإن الشريعة الإسلامية جاءت لحفظ حقوق العباد، وإصلاح شؤونهم، وتقويم أمورهم. وقد قال العلماء: إنَّ مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلُّ ما يتضمَّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلُّ ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدةٌ ودفعها مصلحة.

 

ولذلك فمن سمات الخطاب الديني المعتدل أنه يدعو إلى المحافظة على مقاصد الشريعة ورعاية المصالح العليا والعناية بالضروريات الكبرى، فهو يعزِّز حرمة الدماء والأعراض والأموال واستتباب الأمن والاستقرار، بخلاف الخطاب الديني المتشدد أو المتسيّب الذي يُهمل هذه الجوانب بل يضرُّ بها. ثامناً..

 

الإخلال بباب المصالح والمفاسد، فقد قرَّر العلماء أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، وأن المفاسد إذا تزاحمت فلا بد من درء المفسدة الكبرى بالصغرى، وأن المصالح إذا تزاحمت قُدِّم أهمُّها وأولاها..

 

ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله: يُستحب للرجل أن يترك بعض المستحبات إذا كان فيها تأليف القلوب، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم، تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان رضي الله عنهما، إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه مُتمّاً، وقال: الخلاف شر.

 

تاسعاً؛ الإيمان بالخرافات، وهو سببٌ لتغييب الشرع وإفساد العقول وتعطيلها، والابتعاد بها عن النظرة الواقعية والموضوعية، وتهيئتها لقبول أي فكرة دخيلة ساذجة ولو كانت مخالفة للشرع والعقل..

 

وتكوين شخصية من السهل التأثير فيها والسيطرة عليها. وقد جاء في القرآن الكريم في مواضع كثيرة: {أفلا تعقلون}، {أفلا تتفكرون}، {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}. عاشراً؛ الفكر الطائفي والحزبي والتعصُّب له، ومن صوره:

 

الدعوة إلى تمزيق المجتمع إلى أحزاب متناحرة وطوائف متنافرة، يتعصَّب كلٌّ لطائفته ويغلِّب كلٌّ مصالح حزبه، وتغذية الصراعات الطائفية التي يُستخدَم فيها الخطاب الديني لما يحقِّق الأهداف الحزبية، بل وتمرير المؤامرات الدولية المعادية. وهذه آفةٌ جرَّت الويلات والدمار على كثير من المجتمعات الإسلامية. والداعيةُ الحقُّ هو الذي يتجرد من الانتماءات الحزبية..

 

ويتنزَّه عن المتاجرة بالدين، ويوجِّه الخطاب الديني إلى ما يحبُّه الله ويرضاه، وفق ما أمر وشرع وما كان عليه قدوتنا ونبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فيدعو إلى قيم التآخي والتضامن والتراحم والاعتصام بالكتاب والسنة، وتتبع هدي الصحابة رضي الله عنهم، ومعالجة المشكلات على ضوء ذلك.