النصيحة لكتاب الله تعالى


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد:

فلا شك أن الله عز وجل قد اختار أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون هي الأمة الوسط، والشهيدة على سائر الأمم كما قال عز وجل: وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ١٤٣ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵓﵔﵑﵜ ، هذه المنزلة الرفيعة لهذه الأمة لا يمكن أن تبلغها هذه الأمة إلا بالتمسك بكتاب ربها والاهتداء بهديه؛ لأنه يحمل المؤهلات ببلوغ تلك المنزلة.

قال الله عز وجل: فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤ﵞ ﵝطه : ﵔﵒﵑﵜ ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل به ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة"([1]) لذلك دعاها نبيها عليه الصلاة والسلام للنصيحة لكتاب ربها، فقال صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» ([2])، حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان.

إذن هذه الأمة حظيت بهذه المكانة العالية يوم أن حققت تلك النصيحة، التي دعاها إليها رسولها صلى الله عليه وسلم، النصيحة لكتاب الله عز وجل هي سببٌ لتحول حال الأمة الإسلامية إلى ما نرى ونسمع، حصل ذلك بسبب هجرها لكتاب ربها، وتفريطها في النصيحة لكتاب الله عز وجل، فلابد من الرجوع لكتاب الله، وتحقيق النصيحة له كما حققها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، ولذلك كان من الواجب على المنتسبين للعلم والدعوة إلى الله أن يولوا هذا الجانب اهتمامهم وأن يذكروا الناس بالنصيحة لكتاب الله عز وجل، لتنهض هذه الأمة، وتقوم بدورها.

فضل القرآن على غيره يكفي القرآن الكريم فضلاً وشرفاً أنه كلام الله عز وجل، العليم الحكيم، سبحانه وتعالى، قال عز وجل: وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُ ٦ﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵖﵜ ، فالله عز وجل فضل هذا القرآن على سائر الكتب المنزلة، على أنبيائه، حيث جعل هذا القرآن مهيمناً عليها، كما قال عز وجل: وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ ٤٨ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵘﵔﵜ.

قال ابن عباس رضي الله عليهما: "المهيمن الأمين، قال: والقرآن أمين على كل كتابٍ قبله"([3]) وقال ابن جريج رحمه الله: " الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا خَالَفَهُ مِنْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ " وهكذا عن ابن عباسٍ رضي الله عنه قال: "مهيمناً شهيداً".

وذكر الحافظ بن كثير في تفسير هذه الآية الثامنة والأربعين من سورة المائدة، ذكر هذه الأقوال عن سلفنا الصالح ثم قال: " وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ اسْمَ "الْمُهَيْمِنِ" يَتَضَمَّنُ هَذَا كُلَّهُ، فَهُوَ أَمِينٌ وَشَاهِدٌ وَحَاكِمٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ، جَعَلَ اللَّهُ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ، الَّذِي أَنْزَلَهُ آخِرَ الْكُتُبِ وَخَاتَمَهَا، أَشْمَلَهَا وَأَعْظَمَهَا وَأَحْكَمَهَا  حَيْثُ جَمَعَ فِيهِ مَحَاسِنَ مَا قَبْلَهُ، وَزَادَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ؛ فَلِهَذَا جَعَلَهُ شَاهِدًا وَأَمِينًا وَحَاكِمًا عَلَيْهَا كُلِّهَا. وَتَكَفَّلَ تَعَالَى بِحِفْظِهِ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ [تَعَالَى] (2) {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرَ:9]" ([4])، انتهى كلام الحافظ بن كثير في تفسيره لهذه الآية.

ولا شك من أعظم فضائله المعجز الكبرى القرآن المعجزة الكبرى التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تحدى تبارك وتعالى العرب بل الإنس والجن أن يأتوا بمثله، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سورٍ مثله، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فلم يستطيعوا، عجزوا عن الإتيان بشيءٍ من ذلك وأنهم لا يستطيعون ذلك في المستقبل.

لقد كان القرآن الكريم أعظم معجزة أوتيها نبيٌ من الأنبياء، وأبلغها أثراً ذلك أنه معجزة خالدةٌ لم تنتهي بوفاة الرسول محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري في فضائل القرآن من صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ، عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ »([5])، هذا حديث رواه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن.

ذكر الحافظ بن كثير هذا الحديث، قال: " وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْقُرْآنِ الْمَجِيدِ عَلَى كُلِّ مُعْجِزَةٍ أُعْطِيَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى كُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، أَيْ: مَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ وَاتَّبَعَهُ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ الْأَنْبِيَاءُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُعْجِزَةٌ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَا يَحْكِيهِ أَتْبَاعُهُمْ عَمَّا شَاهَدَهُ فِي زَمَانِهِ، فَأَمَّا الرَّسُولُ الْخَاتَمُ لِلرِّسَالَةِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا كَانَ مُعْظَمُ مَا آتَاهُ اللَّهُ وَحَيًا مِنْهُ إِلَيْهِ مَنْقُولًا إِلَى النَّاسِ بِالتَّوَاتُرِ "([6]) إلى آخر كلامه رحمه الله في كتابه فضائل القرآن للحافظ بن كثير رحمه الله.

القرآن اشتمل على الهداية لخيري الدنيا والآخرة، وقد دلت الآيات الكثيرة على ذلك منها قوله عز وجل مثنياً على كتابه الكريم وموجهاً عباده إلى العناية به، قال عز وجل: يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٧ﵞ ﵝيُونُس : ﵗﵕﵜ.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة يونس قال ابن كثير: " زَاجِرٌ عَنِ الْفَوَاحِشِ، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أَيْ: مِنَ الشُبَه وَالشُّكُوكِ، وَهُوَ إِزَالَةُ مَا فِيهَا مِنْ رِجْسٍ ودَنَس "([7]) قال عز وجل: وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ٨٩ﵞ ﵝالنَّحل : ﵙﵘﵜ ، قال ابن مسعود رضي الله عنه في معنى الآية: " قَدْ بَيَّنَ لَنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ كُلَّ عِلْمٍ، وَكُلَّ شَيْءٍ "([8]) ذكر ذلك الحافظ بن كثير في تفسيره لهذه الآية التاسعة والثمانين من سورة النحل.

جاء الترغيب في قراءة القرآن، والعمل به، آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، وللنصيحة للكتاب الله تعالى من الأهمية البالغة، جاءت الأدلة في بيان فضل القرآن، واشتماله على الهداية، جاءت بالترغيب في النصيحة له، والوعد على ذلك بجزيل الثواب، وأيضاً جاء الترهيب من الإعراض عنه، وهجره، والوعيد على ذلك بالعقاب.

ودلت الأدلة من القرآن والسنة على الترغيب في قراءة القرآن فالله عز وجل يقول: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩ﵞ ﵝفَاطِر : ﵙﵒﵜ ، قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية التاسعة والعشرين من سورة فاطر قال: " هَذِهِ آيَةُ الْقُرَّاءِ الْعَامِلِينَ الْعَالِمِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَكَذَا فِي الْإِنْفَاقِ "([9]) وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه، ويؤمنون به، ويعملون بما فيه من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة"([10])

جاءت أحاديث كثيرة أيضاً في الترغيب في قراءة القرآن، منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ: ريحها طيب وطعمها طيب، ومَثَل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمَثَلِ التمرة: لا ريح لها وطعمها حُلْوٌ، وَمَثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانَة: ريحها طيب وطعمها مُرٌّ، وَمَثَل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحَنْظَلَةِ: ليس لها ريح وطعمها مُرٌّ»([11])، هذا تشبيه عجيب منه صلى الله عليه وسلم، لأنواع من يقرئون القرآن.

وفي الحديث الترغيب في قراءة القرآن، وهكذا أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده »([12])، حديث رواه أبو داود وغيره، وهو في صحيح أبي داود ألف وأربعمائة وخمسة وخمسين، وهكذا يقول صلى الله عليه وسلم: « مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ »([13])، هذا حديث رواه الترمذي وهو في صحيح سنن الترمذي ألفان وتسعمائة وعشرة.

هكذا أحاديث كثيرة فيها الترغيب في قراءة القرآن، ومنها أيضاً ما رواه مسلم عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ »([14])، وهكذا يقول صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» ([15])، وآياتٌ وأحاديث كثيرة فيها ترغيب في قراءة القرآن.

جاء أيضاً الترهيب من هجر القرآن والإعراض عنه، جاءت عدة آيات في بيان وعيد المعرض عن القرآن وغير المنتفع به، قال الله عز وجل: وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ ٥٧ﵞ ﵝالكَهف : ﵗﵕﵜ.

قال محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أظلم أي أكثر ظلماً لنفسه، ممن ذُكر أي وعظ بآيات ربه وهي هذا القرآن العظيم فأعرض عنها أي ولى وصد عنها، ثم قال: زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من النتائج السيئة، والعواقب الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن التذكرة" هذا كلام الشنقيطي رحمه الله.

قال فمن نتائجه السيئة ما ذكره هنا من أن صاحبه من أعظم الناس ظلماً، ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً كما قال هنا مبيناً بعض ما ينشأ عنه من العواقب السيئة، قال عز وجل: إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٥٧ﵞ ﵝالكَهف : ﵗﵕﵜ.

قال: " وَمِنْهَا انْتِقَامُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مِنَ الْمُعْرِضِ عَنِ التَّذْكِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ "

ثم قال: " وَمِنْهَا الْإِنْذَارُ بِصَاعِقَةٍ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ الْآيَةَ [41 \ 13] ، وَمِنْهَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ وَالْعَمَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [20 \ 124] ، وَمِنْهَا سَلْكُهُ الْعَذَابَ الصَّعَدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [72 \ 17] ، وَمِنْهَا تَقْيِيضُ الْقُرَنَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ "

ثم قال رحمه الله: "إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ، وَالْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّذْكِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا "([16]).

وهكذا بين الإمام ابن القيم رحمه الله أنه يدخل تحت الهجر الذي تعنيه الآية أنواعٌ من الهجر، متفاوتة يذكر رحمه الله أنواع هجر القرآن، يقول: "هجر القرآن أنواع أحدها: هجر سماعه، والإيمان به والإصغاء إليه، والثاني: هجر الْعَمَل بِهِ وَالْوُقُوف عِنْد حَلَاله وَحَرَامه وَإِن قَرَأَهُ وآمن بِهِ وَالثَّالِث هجر تحكيمه والتحاكم إِلَيْهِ فِي أصُول الدّين وفروعه واعتقاد أَنه لَا يُفِيد الْيَقِين وَأَن أدلته لفظية لَا تحصّل الْعلم وَالرَّابِع هجر تدبّره وتفهّمه وَمَعْرِفَة مَا أَرَادَ الْمُتَكَلّم بِهِ مِنْهُ وَالْخَامِس هجر الِاسْتِشْفَاء والتداوي بِهِ فِي جَمِيع أمراض الْقلب وأدوائها فيطلب شِفَاء دائه من غَيره ويهجر التَّدَاوِي بِهِ وكل هَذَا دَاخل فِي قَوْله {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} وَإِن كَانَ بعض الهجر أَهْون من بعض "([17]).

فما معنى النصيحة لكتاب الله عز وجل؟

وبعد هذه المقدمة ما معنى النصيحة لكتاب الله؟ قال الإمام محمد ابن نصر المروزي رحمه الله في كتابه تعظيم قدر الصلاة، قال: "النصيحة لكتاب الله شدة حبه وتعظيم قدره إذ هو كلام الخالق وشدة الرغبة في فهمه ثم شدة العناية في تدبره والوقوف عند تلاوته لطلب ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به بعد أن يفهمه، كذلك الناصح من العباد يتفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه عُني بفهمه ليقوم عليه بما كتب فيه إليه، كذلك الناصح لكتاب الله يُعنى بفهمه ليقوم لله بما أمر به، كما يحب ويرضى، ثم ينشر ما فهمه في العباد، ويديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه" انتهى كلام المروزي رحمه الله.

ويقول الحافظ النووي رحمه الله: "النصيحة لكتاب الله الإيمان بأنه كلام الله تعالى، وتنزيله لا يشبه شيء من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه من تأويل المحرفين وتعرض الطاعنين والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه والدعاء إليه وإلى ما يذكر من النصيحة"([18]) انتهى كلام الحافظ النووي رحمه الله كما في شرح صحيح مسلم في المجلد الثاني ثمانية وثلاثون.

وهكذا يقول الحافظ بن حجر رحمه الله: "النصيحة لكتاب الله تعلمه وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة وتحريرها في الكتابة وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحريف المبطلين عنه"([19]) انتهى كلام الحافظ بن حجر كما في فتح الباري في المجلد الأول مائة وثمانية وثلاثون.

ويقول العلامة بن باز رحمه الله: "ومن النصح لكتاب الله التدبر للمعاني والتعقل للمعاني كما تقدم {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، فلا يستفيد منه العلوم النافعة، ولا يحصل له من الطمأنينة والخشوع والعلم والنافع، والنشاط في أعماله الطيبة وفي ترك ما حرم الله عليه إلا من تدبر وتعقل" انتهى كلام العلامة بن باز كما في موقعه.

هذا معنى النصيحة لكتاب الله من أقوال هؤلاء الأئمة الثلاثة الأربعة، نذكر ما هي الأمور التي تعتبر من النصيحة لكتاب الله، بالإشارة إلى ما ذكره أئمتنا فيما أشرت إليه سابقاً.

من النصيحة لكتاب الله: قراءة القرآن، مع الإكثار من التلاوة، والمداومة على ذلك؛ لأن قراءة القرآن عبادة لله عز وجل أمر بها في كتابه، رغب فيها، قال الله عز وجل: وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا ٢٧ﵞ ﵝالكَهف : ﵗﵒﵜ ، إذاً واتلوا ما أوحي إليك، الله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن، وهكذا يقول الله عز وجل: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩ﵞ ﵝفَاطِر : ﵙﵒﵜ ، إلى آخر الآيات، وهكذا صلى الله عليه وسلم حث على تلاوة القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: « اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ »([20])، الحديث رواه مسلم في صحيحه ثمانمائة وأربعة، هكذا كان صلى الله عليه وسلم هو القدوة العملية في المداومة على قراءة القرآن، وهكذا صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يداومون على قراءة القرآن.

كذلك وقد حكى النووي عن السلف رضوان الله عليهم كثرة قراءتهم للقرآن، وختمه، وقال النووي رحمه الله: "وكان السلف رضي الله عنهم لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه"

 وروى ابن أبي داود عن بعض السلف رضي الله عنهم "أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ٍختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليالٍ ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان ليالٍ ختمة وعن الأكثرين في كل سبع ليالٍ وعن بعضهم في كل ست ليالٍ وعن بعضهم في كل خمس، وعن بعضهم في كل أربع، وعن كثيرين في كل ثلاث"([21]) إلى آخر كلامه رحمه الله كما في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن.

أيضاً من النصيحة لكتاب الله ترتيل القرآن، وتحسين الصوت بالقراءة، والله عز وجل قال: وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا ٤ﵞ ﵝالمُزَّمِّل : ﵔﵜ ، قال ابن كثير: "أَيِ: اقْرَأْهُ عَلَى تَمَهُّلٍ "([22]) قال النووي رحمه الله: "وقد اتفق العلماء رضي الله عنهم على استحباب الترتيل"([23]) كما في كتابه التبيان صفحة اثنين وستين.

لا شك أن ترتيل القرآن فيه فضيلة عظيمة، وإن منزلة قارئ القرآن تعلو في الجنة بقدر ما يرتل قراءته، وجاء عند الترمذي رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا»([24]).

ينبغي إتقان القراءة وتحسين الصوت بالقراءة، لأن ذلك يزيد القرآن حسناً وقبولاً وتأثيراً في القلوب، جاء في سنن أبي داود عن أبي لبابة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ »([25]).

وحكى النووي عن جمهور العلماء: "أن معنى لم يتغنى أي لم يحسن صوته بالقرآن"([26]) ذكر ذلك النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن صفحة خمسة وسبعين.

وهكذا يرغب النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث في تحسين الصوت بالقرآن عند تلاوته، وهذا أمرٌ معلومٌ، ترتيل القرآن وتحسين الصوت من النصيحة لكتاب الله عز وجل، بل أن الله عز وجل يحب الصوت الحسن بالقرآن ويستمع له، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ»([27])، هذا حديث رواه البخاري ومسلم، ذكره البخاري في كتاب فائل القرآن خمس آلاف وثلاث وعشرون، ما أذن الله بشيء ما أذن لنبيٍ حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.

قال ابن الأثير: "  أَيْ مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كاسْتِمَاعه لِنَبِيٍّ يَتَغنَّى بِالْقُرْآنِ "([28]) كما في كتاب النهاية في غريب الحديث لابن الأثير رحمه الله.

قال النووي رحمه الله: "أجمع العلماء رضي الله عنهم من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على استحباب تحسين الصوت بالقرآن وأقوالهم وأفعالهم مشهورة"([29]) ودلائل هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفيضة عند الخاصة والعامة، كلام النووي في كتابه التبيان.

ثم يقول أيضاً في كتابه نفس الكتاب قال: "قال العلماء يستحب تحسين الصوت بالقراءة وترتيبها ما لم تخرج من حد القراءة بالطنطيط فإن أفرط حتى زاد حرفاً أو أخفاه فهو حرام، وأما القراءة بالتمطيط فإن أفرط حتى زاد حرفاً أو أخفاه فهو حرام، وأما القراءة بالألحان فقد قال الشافعي رحمه الله في موضع أكرهها، قال أصحابنا ليست على قولين بل فيه تفصيل إن أفرط في التمطيط تجاوز الحد فهو الذي كرهه، وإن لم يجاوز فهو الذي لم يكرهه"([30]) انتهى كلام الحافظ النووي رحمه الله.

قال الحافظ بن كثير رحمه الله: "والغرض المطلوب شرعاً إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يُسلك في أدائه هذا المذهب وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك"([31]) انتهى كلام الحافظ بن كثير في كتابه فضائل القرآن.

ولا شك أن الغرض من تحسين الصوت بالقرآن هو ترغيب السامع في القراءة حمله على التدبر والخشوع والتأثر به وهذه نعمة أنعم الله عز وجل على من يشاء.

أيضاً من النصيحة لكتاب الله تدبر القرآن عند تلاوته أو سماعه، والله عز وجل أنزل هذا القرآن ليقرأ بتدبر فقال عز وجل: كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢٩ﵞ ﵝص : ﵙﵒﵜ ، والله عز وجل أنكر على الذين لا يتدبرونه، فقال عز وجل: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵒﵘﵜ ، قال عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية الثامنة والثامنين من سورة النساء، يقول ابن سعدي في تفسيره: "يأمر الله تعالى بتدبر كتابه وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه وفي مباديه وعواقبه ولوازم ذلك، فإن التدبر في كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف وبه يستنتج كل خير، وتُستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته، فإنه يعرف بالرب المعبود وما له من صفات الكمال، وما ينزل عنه من سمات النقص ويعرف الطريقة الموصلة إليه، وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريقة الموصولة إلى العذاب وصفة أهلها، وما له عند وجود أسباب العقاب، وكلما ازداد العبد تأملاً فيه، ازداد علماً وعملاً وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن"([32]) انتهى كلامه رحمه الله في تفسيره لهذه الآية.

أيضاً من النصيحة لكتاب الله عز وجل البكاء، عند قراءة القرآن، أو عند سماعه، والبكاء عند قراءة القرآن من صفات المؤمنين الصادقين من حين يتدبر القرآن ويجد فيه صفات الكمال والعظمة لربه عز وجل يمتلأ قلبه مهابة وإجلالاً ويستشعر تقصيره وتفريطه في ذلك، وتعظم عند ذلك حسرته وتنسكب عبرته.

قال النووي رحمه الله: "البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين" ([33])في كتابه التبيان، والله عز وجل أثنى على أنبيائه وصالح عباده، لذلك قال الله عز وجل: أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩ ٥٨ﵞ ﵝمَريَم : ﵘﵕﵜ.

وهكذا قال عز وجل: وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّ ٨٣ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵓﵘﵜ ، وهكذا كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

من النصيحة لكتاب الله أيضاً: العمل بكتاب الله عز وجل، وهذه أعظم جوانب النصيحة لكتاب الله، أبرز الأدلة على الإيمان به، بكتاب الله والعمل به، فقال عز وجل: ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦ ١٢١ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵑﵒﵑﵜ ، وفسر ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة التلاوة هنا بالعمل والاتباع، ومن علم حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال صحابته العمل بكتاب الله فعلم ذلك وزاد إيمانه لله عز وجل.

والنماذج كثيرة ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنه أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن" صلى الله عليه وسلم، العمل بكتاب الله عز وجل، فهكذا روى الأعمش عن أبي وائل عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانهن والعمل بهن"([34]) وهكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي: "حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْرِئُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَخْلُفُوهَا حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا "([35]) هذه الآثار يذكرها الحافظ بن كثير في مقدمة تفسيره، فلتراجع في مكانها.

أما آثار الصحابة رضي الله عنهم وعملهم بكتاب الله عز وجل فكانت الآيات تنزل ويعمل فوراً بما جاء في كتاب الله عز وجل في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ "([36])هذا مثالٌ على سرعة عمل الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن بما جاء فيه من الأوامر والآثار كثيرة جداً.

فما هو واجبنا في تحقيق النصيحة لكتاب الله تعالى، ما هو واجبنا حتى لا نطيل عليكم؟

الذي يرى حال المسلمين مع النصيحة لكتاب الله عز وجل يرى العجب يرى تقصيراً، فهل قمنا بواجب النصيحة لكتاب الله عز وجل؟ كلٌ منا يراجع نفسه بعد أن علمنا ما هي النصيحة لكتاب الله، وما هي أنواع النصيحة لكتاب الله عز وجل، كلنا يراجع نفسه ويعلم حاله.

أما سبب قصور حالنا عن حال سلفنا الصالح إزاء النصيحة لكتاب الله عز وجل فلا شك أن ذلك سببه هو ضعف الإيمان، وقوة إيمانهم رضي الله عنهم، فالإيمان هو الذي دفع الصحابة رضي الله عنهم لتحقيق النصيحة لكتاب الله عز وجل فكانوا فور نزول السورة أو الآية يبادرون لتعلمها والعمل بها، كما قال ابن عمر فيما سبق، "تنزل السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن نقف عنده منها".

فقد ظهر لنا مما سبق من آثار إيمان سلفنا الصالح وتحقيقهم للنصيحة لكتاب الله عز وجل، كيف نحقق النصيحة لكتاب الله؟ قال الإمام مالك رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" فالرجوع إلى ما كان عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك بعض الأمور لكيفية تحقيق النصيحة لكتاب الله عز وجل:

أولاً: المبادرة بالتوبة النصوح من جميع الذنوب والمعاصي لا سيما أمراض القلوب حتى يصبح القلب مهيأً لقبول كلام الله عز وجل، كما أن القلب المطمئن بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن ينفر عن ضد ذلك من اللهو والغناء كذلك القلب مشرب بحب اللهو والغناء لا ينشرح لذكر الله ولا القرآن ولا ينتفع به، فالتوبة أول أمرٍ لتحقيق النصيحة لكتاب الله.

الأمر الثاني: أن يشعر التالي لكتاب الله أو السامع لكتاب الله أنه هو المخاطب، بهذا الكلام، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا فاصغي لها سمعك فإما خيراً تؤمر به أو شراً تُنهى عنه"([37]) وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار، هذه الآثار ذكرها الحافظ النووي في كتابه التبيان.

قال ابن القيم رحمه الله: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن فأجمع قلبك عند تلاوته، وسماعه، وألقي سمعك واحضر حضور من يخاطبه من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم" ([38]).

أيضاً من الأمور التي تعين على قيام أو على تحقيق النصيحة لكتاب الله ثالثاً: استشعار الحال الذي نزل فيه القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن سعدي رحمه الله: "النظر لسياق الآيات مع العلم بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته مع أصحابه وأعدائه وقت نزوله من أعظم ما يعين على معرفته وفهم مراد من هو"([39]).

وهكذا أيضاً من الأمور التي تعين على القيام بواجب النصيحة لكتاب الله أن يكون حال قراءة القرآن أو أن يكون العبد حال قراءة القرآن وسماعه حاضر القلب متدبراً متفهماً لكلام الله، كما قال عز وجل: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِيدٞ ٣٧ﵞ ﵝق : ﵗﵓﵜ ، قال ابن قتيبة: "أي استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافلٍ ولا ساهٍى" ([40])ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد.

أيضاً نختم بأمر ٍمن الأمور أيضاً التي تعين على تحقيق النصيحة لكتاب الله، وهو أهم الأمور الاستعانة بالله تبارك وتعالى في تحقيق ذلك، فإن عون الله هو الأساس لتحقيق كل خير ٍوفلاح، كما قال عز وجل:  مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗاﵞ ﵝالكَهۡف : ﵗﵑﵜ ، والله عز وجل يقول: مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ وَمَا يُمۡسِكۡ فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ ٢ﵞ ﵝفَاطِر : ﵒﵜ ، سبحانه وتعالى فلابد لمن أراد تحقيق النصيحة لكتاب الله تعالى من الضراعة إلى مولاه تبارك وتعالى ليمده بالعون على تحقيقها، لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا عندما أخذ بيده وقال: « يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ»، فَقَالَ: " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ »([41])، الحديث رواه أبو داود وهو حديث صحيح.

إذاً الاستعانة بالله تبارك وتعالى في تحقيق ذلك، فإن عون الله عز وجل هو الأساس، فلابد لمن أراد تحقيق النصيحة لكتاب الله لابد له من الضراعة إلى اللجوء إلى الله عز وجل أن يعينه على تحقيق النصيحة لكتابه عز وجل.

نسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياكم على تحقيق النصيحة لكتاب الله عز وجل، نسأله عز وجل أن يفقهنا وإياكم في ديننا كما نسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، نسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمورنا لما يحب ويرضاه وأن يرزقهم البطانة الصالحة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 


 

([1]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ت كمال (ج6/ص120)

([2]) رواه مسلم (55).

([3]) تفسير ابن كثير - كتاب فضائل القرآن- الجزء رقم1

([4]) تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 128)

([5]) رواه البخاري (7274).

([6]) تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 20)

([7]) تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 274)

([8]) تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 594)

([9]) تفسير القرطبي (14/ 345)

([10]) تفسير ابن كثير ط العلمية (6/ 483)

([11]) رواه البخاري (5427)، رواه مسلم (797).

([12]) رواه أبو داود (1455).

([13]) رواه الترمذي (2910).

([14]) رواه مسلم (804).

([15]) رواه البخاري (5027).

([16]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 310)

([17]) الفوائد لابن القيم (ص: 82)

([18]) شرح النووي على مسلم (2/ 38)

([19]) فتح الباري لابن حجر (1/ 138)

([20]) رواه مسلم (804)

([21]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 59)

([22]) تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 250)

([23]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 89)

([24]) رواه أبو داود (1464).

([25]) رواه البخاري (7527).

([26]) كتاب التبيان، (ص: 75)

([27]) رواه البخاري (5023)، رواه مسلم (792).

([28]) النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 33)

([29]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 109)

([30]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 110)

([31]) فضائل القرآن لابن كثير (ص: 195)

([32]) تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 190)

([33]) التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 86)

([34]) رواه الطبري في تفسيره (1/ 80) من طريق الحسين بن واقد عن الأعمش به

([35]) تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 8)

([36]) رواه البخاري (1461)، رواه مسلم (998).

([37]) أخرجه سعيد بن منصور في التفسير (٥٠)

([38]) الفوائد لابن القيم (ص: 3)

([39]) تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 30)

([40]) الفوائد لابن القيم (ص: 3)

([41]) رواه أبو داود (1522)